أفضل وسيلة للبر بالوعد أن لا تعّد/نابليون
1
إذا كان نقد الممارسات الخطابية الثقافية ومدلولاتها يحمل على تجاوز المقولات الرنانة والاستعراضات الشكلية للالتفات على بنية التفكير المعرفي ونمط العلاقة القائمة أو طريقة التعامل معها وكيفية الأداء، فإنه ينبغي أيضاً تجاوز المفاضلات بين الاسلوب والفكرة، من هذه الثنائية نبدأ مقالنا .
لن نضيف جديداً إذ قلنا إن الثقافة العراقية بكل توجهاتها ومساراتها الماضية أو الراهنة لن ولم تتقدم بثبات نحو مستقبل ثقافي أفضل ما لم تعِ الواقع الذي تتحرك فيه بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة الآن، فالفهم المعرفي للواقع هو الخطوة الاساس لتحررنا من السلفية الفكرية المتجددة وسنفارق الحقيقة إذ قلنا إن العمل في هذه الخطوة بخير، على الأقل في هذه المرحلة ولكن، ماذا عن المرحلة القادمة؟ هذا سؤال تقليدي لكنه يحمل إجابات شتى، إذ لا يخلو الأمر من صعوبات جمة ليس أكثرها وطأة الحس العقائدي والمذهبي . ثمة أشياء أخرى طالما ظلت مهملة منسية بصورة متعمدة بعد أن أغرقها الثقافي في طمانينة ذاتية مفرطة وعصية على الحل ولا يهزّها إلا الحوار الذي يبدو أشبه بأكذوبة كبيرة ومثلما تم تأبين الثقافة تم أجهاض كل شكل من أشكال الحوارات المعرفية المجردة التي أرادت إحياء بلادة الفكر المتأتي من حدود الوعي القاصر في مواجهة ظاهرة الفوضى الفكرية التي تحتاج إلى جهد حقيقي متكامل لفهمها ومن ثم البحث عن أسلوبية مناسبة لمعالجتها .
من الأهمية بمكان في هذا المجال أن ننوه بالموقف السلبي الذي أتخذته المؤسسة الثقافية من مسألة الحرية التي جاءت بمثابة صدى مبهم لما آلت اليه هذه الحرية خلال الفترة الراهنة، فقد تجاهلت ( الثقافة الجديدة) هذه المسألة على وجه الخصوص، وتعاملت معها وكأنها مسالة ثانوية قد تم تجاوزها وأقتصر تناولها على بعض المهرجانات التي لم ترتقِ إلى مستوى التحضر، الأمر نفسه يتكرر على أصعدة أخرى لم يُنظر إليها على أنها تمثل تراث الحرية الموروث منذ آلاف السنين، وبالرغم من تبدّل معالم الحياة في حالتنا العراقية في وقتها الراهن، فإن الأمور لم تصل بعد إلى المستوى المنشود الذي لا بدّ منه من اجل تحقيق التواصل بين سائر الثقافات التي تعمل من أجل إرساء مستقبل أفضل، وفي هذا السياق تبرز أهمية الحرية وضرورة ممارستها .
من المستحيل تحديد صيغة معينة للثقافة في المرحلة المقبلة، كما يزعم البعض، بغية فرضها بصورة ديمقراطية لأن المؤسسة الرسمية التي شكلها هذا الدليل أو ذاك المتعاون عليها ان تمر بعدد لا حصر له من حقول الألغام وذلك بفعل الإختلافات المعلنة وغير المعلنة على وجه العموم ويمكن تلمس هذه الاختلافات بشكل واضح من خلال ما يدور في الثقافة العراقية فمن الواضح ان التعامل المعمول به الآن بين مختلف المؤسسات الثقافية لا يمثل الضمانة الأكثر فاعلية في استمرارية المناخ الثقافي الإيجابي وتوفير فرصة الإرتقاء نحو مستويات معرفية أكثر نجاعة في حين أن النزعة العقائدية المذهبية لا زالت قائمة وتشكل في ذات الوقت خطراً كبيراً يهدد دوماً تبديد كل ما يمكن أن يتم إنجازه، ثقافياً، بين لحظة وأخرى حتى وان كان قليلاً ناهيك عن عملية اللجم المنظمة التي يمارسها العراب فخري كريم أو سعد البزاز ومن يدور في حلقته وبهذا ستظل الطموحات مجرد طموحات غير محتملة التحقق على الأرجح كما ان هذه الطموحات تحتاج إلى قدرة كبيرة خارقة لتلبية مستلزمات مرحلة التغير وإعادة البناء وهنا أيضاً لا بدّ من الإلحاح على ضرورة الاستعداد لتقبل السير في حقول الألغام من اجل ترجمة هذا الاستعداد على الصعيد الواقعي .
2
يعاني العراقيون في الوقت الحاضر من صعوبات جدية وعميقة على كافة الأصعدة فثمة الكثير من العراقيين يفقدون الثقة في إمكانية بلوغهم الحياة الكريمة التي يتمنونها في أي من الحكومات وما نراه ونسمعه لا يُخفى على احد، كما أن بعض التصريحات السياسية أو الآراء الثقافية التي تصدر عن هذا المسؤول أو ذاك، تؤكد أن الوضع الحالي ما زال مربكاً وعصياً على الحل والفهم ومهما قيل في ذلك ومهما كانت التبريرات فإن ضياع الهدف الحقيقي يعني ضياع الفرصة الأخيرة، هذا إذا كان هناك ثمة فرصة مؤاتية، أنا لست من أنصار التفاؤل مع ما يجري الان تطبيقه وممارسته على أرض الواقع، فحين يسعى المرء إلى التفاؤل عليه اولاً إحياء متطلبات هذه العملية التفاؤلية التي يشعر من أن هناك ثمة من يقوم مخلصاً خالصاً لدفع البلاد باتجاه العملية السياسية أو الثقافة كفكرة مقبولة وليس مستهجنة،خصوصاً، في ظل عمليتي التفسير والتنظير فالإرتكاز على موضوعة التفاؤل وتماثلاته يجب أن يُطرح بمثابة ممارسة عملية فعالة خاضعة للقراءات الدقيقة ولكن المسألة لا تقتصر على هذا الأمر إذا ما تأملنا الواقع الحالي بعين فاحصة متفحصة فإن جوهر المشكلة ينطوي على أختلافات وتعارض أو تناقض جانبي يُربك العملية السياسية الثقافية برمتها ويودي بها إلى الفناء حتى لو أفترضنا إمكانية المهادنة بين هذا الجانب أو ذاك، بين هذا الحزب أو ذاك والتوصل إلى إحلال التفاهم بينهما محل الخلاف/الصراع، فإلامَ سيفضى ذلك الخلاف؟ إنه بلا شك سيفضي إلى الهلاك وبهذا لا ينجو أي طرف من الفناء والجهل والبؤس الثقافي .
3
إن قراءة مسار الثقافة أو السياسة العراقية الراهنة تتيح لنا الكشف عن حجم الأخطاء التي تكفلت بإرتكابها، الثقافة العقائدية وسياسة المحاصصات، نموذجان، لقد تلاشت الطموحات المستقبلية التي أعلنت عنها هذه الثقافة والتي سلكت، في نفس الوقت، طريق الأخطاء المكررة والتجارب الفاشلة، أي أنها/أنهم يخبطون خبط عشواء وحتى لو وضعت (الثقافة الجديدة) نصب أعينها أخطاء الماضي القريب فلربما ستسير سيراً متعرجاً وتنحرف عن الطريق لا بل قد تعود القهقرى دون أن تدري أنها تفعل ذلك، فهل ستتم عملية إستيعاب تجارب الماضي القريب؟ إذ حصل هذا الأمر فإن مقاربة الحاضر الواعية، كفكرة، تخلق إمكانية الإرهاص بالمستقبل، كأسلوب، ويمكن لنا إيراد الكثير من الأمثلة التي كانت قائمة في الماضي تشهد على إدراك مثل هكذا تجارب، تكون بمثابة العِبر .
في ظل الوهم الثقافي الجديد المتزايد بتحويل العراق إلى واحة للثقافة أو للديمقراطية بدأت تظهر في الجهة المقابلة حاجة تُدرك إدراكاً كافياً من عدم تحقق هذا الأمر، حتى وأن كان وهماً، فعملية إخراج البلاد من هذا الخراب الثقافي السياسي تحتاج إلى معجزة تفدُ إلينا من حيث لا ندري، وأرجو أن لا يتصور القارئ الكريم أو يتبادر إلى ذهنه أنني أصبو إلى رمي الاحاجي فالرؤوس المتعفنة والعقائدية كثيرة جداً وقد لا تزول بسهولة مثلها مثل تلك الوجوه التي نقرأ في ملامحها الداكنة علائم الدمار الآتي، فالحقيقة لا يمكنها إلا ان تكون الحقيقة .
المثقف العقائدي يقول دائماً: ( في ذمتي للعراقيين وعود والتزامات لابد أن أفيّ بها) وهنا أقول له وأذكره بعبارة قالها ذات يوم الفرنسي نابليون: (أفضل وسيلة للبر بالوعد ان لا تعّد) وهكذا سيكون للوعد أصوله التي يكتمل بها لمن يسبق الوعد أولاً كي لا يخر صريعاً من بعض التزاماته وإذ كنا مقصرين في معرفة الواقع أو قراءته سنفشل حتماً في إيجاد العلاج الناجع له حتى يتعافى الورم الثقافي الكبير الذي ميز مسيرة الثقافة، السابقة واللاحقة، التي جعلتنا ندفع الثمن باهظاً، من يبصر حالنا في عراق اليوم يدرك دون تعب ما ينتظرنا في قادم الأيام فقد بات من السهل على المرء أن يميز بين الأسود والأبيض وحتى لا نضطر إلى النظر من حولنا مرة أخرى فنرى أكذوبة الديمقراطية والتعددية والثقافة الجديدة التي تغنوا بها ردحاً وخلعوا عليها ألقاباً غريبة غير مألوفة ولكي لا تغدو الديمقراطية الجديدة مرآة الواقع الردئ الذي نعيشه اليوم وبعضاً من الثمار المـّرة لمسار طويل أعطينا فيه الكثير من الانتظاروالموت والنفي ولكي لا يتماهى الثقافي مع السياسي مرة ثانية، كما حصل في السابق، ليسوغ له منطقه وأفكاره وشعاراته وسلوكياته .