23 ديسمبر، 2024 5:54 ص

الثعالب تقف في نهاية الطريق

الثعالب تقف في نهاية الطريق

عندما خلعت الشعوب العربية أعنتها، في ما سُمي بثورات الربيع العربي، كانت الفورة الرومانسية قد أطلقت مناطيد الأحلام فوق مستوى سقف الواقع بكثير، ولم يكن يخطر في بال أحد أن النقطة التي غادرتها الشعوب ستعود إليها، مرة أخرى، بعد رحلة مضنية، مليئة بالآلام، وأن هذه العودة ستكون أفضل النتائج التي يمكن تحقيقها، قياساً بتجارب أخرى قذفت بعض الشعوب خارج منطقة الجغرافية والتاريخ.

المنسوب المنخفض لمعطيات الواقع سببه الفوضوية، وعدم التبصر. فالجماهير التي لسعتها جمرة الواقع الملتهبة انتفضت لا تلوي على شيء، ودون أن تملك تصوراً لموضع خطوتها اللاحقة، الأمر الذي أتاح الفرصة لثعالب السياسة، التي تقف في نهاية الطريق بانتظار لحظة الانقضاض المناسبة، لاختطاف الثورات، واستصدار هويات لها لا تمت بصلة لآمال الشعوب.

الحال لا يختلف كثيراً، بالنسبة للعراقيين، فالفوضوية وافتقاد البرنامج، أو التصور الكامل لما يريده الشعب، ولما يمكن أن تؤول إليه حركته، يمثل السمة الأولى التي يمكن أن تقع عليها عين الملاحظة.

لست بوارد التثبيط أبداً، ولكني لا أريد للثورة أن تكون انفجاراً عصبياً غير مخطط، وأن تنسرب بالتالي في مسارات المجهول والفوضى والعدمية.

العراقيون يملكون فرصة ذهبية لتنظيم أنفسهم، والدفع بمطالبهم وحراكهم بالاتجاه الصحيح الوحيد الذي يمكن أن يحقق لهم ما يتطلعون إليه.

لابد قبل كل شيء من التأكيد على أن المشكلة أكبر كثيراً من مسألة كهرباء مفقودة، أو مطلب ملحٍ هنا، أو هناك، فليست هذه سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، وهي جزء صغير من المشكلة الحقيقية المتمثلة بالسعادة بمعناها الأخروي والدنيوي معاً، فنحن، في النهاية، لسنا حيوانات همها علفها، وإذا ما أردنا أن نتحرك لابد أن تنطلق محفزاتنا من واقعنا، ومن ثقاقتنا، على حد سواء، ولابد أن تنبع أهدافنا من الجذور الممتدة في عمقنا الروحي. إذن لابد من حركة جوهرية نحقق من خلالها المعنى الكامل لإنسانيتنا، حركة تعيد صياغة المشكلات، وتموضعها في مكانها المحدد ضمن الإطار الأعظم والأشمل الذي يعنونه وجود الإنسان في الأرض، والرسالة الملقاة على عاتقه. قد يرى البعض هذا الهدف السامي بعيداً، وقابلاً للتأجيل، ولكنه، في الحقيقة، ليس كذلك، فإن تحقيق الأهداف الصغيرة لا يمكن أن يتحقق بشكل دائم، وغير قابل للتغيير، دون تحقيق الهدف الأكبر، وأعتقد أن تأريخ البشرية الطويل خير شاهد ودليل. فالبشرية كانت، دائماً، تلاحق الأهداف الصغيرة، الأمر الذي أبقاها أسيرة الدورات والتقلبات وحركة المد والجزر التأريخية، وكانت، دائماً، تجد نفسها، بعد إجازة صيف عابرة، في الموضع الذي توهمت أنها غادرته.

العراقيون، بحكم ثقافتهم المتميزة، وواقعهم المتميز معاً، يملكون هاجس التطلع للأهداف الكبرى، فقضية الإمام المهدي صلوات الله عليه، تشكل ركناً بارزاً في ثقافتهم، ولا ينقصهم، من أجل الاندفاع باتجاه تحقيقها، سوى الوعي الكافي الذي يُعيد صياغة كل المشكلات في بوتقة القضية المهدوية الكبرى. وبرأيي أن احباطات الواقع، ومنغصاته المتواصلة محفزات ذات قدرة تأثيرية عالية لشحذ الوعي، وتوجيه حركته الوجهة الصحيحة.