تابعت مقتطفات تسجيلات لخطابات رؤساء مصر منذ عام 1952 وحتى اليوم , وجميعهم وبلا إستثناء قد تحدثوا بذات النمطية التي مفادها تحديد النسل , وأن العلة الإقتصادية والمعيشية بسبب زيادة عدد السكان , وعدم تنظيم الإنجاب!!
بينما مجتمعات الدنيا بأسرها تسعى وتشجع على زيادة النسل , فأوربا وأمريكا ودول الدنيا المتقدمة تحث عليه , بل حتى الصين في الآونة الأخيرة رفعت القيود وشجعت على الإنجاب!!
فلماذا هذا التباين الشاسع بين رؤية القيادات العربية والقيادات الغربية أو قيادات الدول المتقدمة؟
من الواضح أن العلة تكمن في مفهومي الإستهلاكية والإنتاجية , فقيادات المجتمع العربي ترى البشر مستهلكا لا منتجا وبأنه طاقة إستنزافية معوقة للحكم , بينما المجتمعات المتقدمة تعتبره طاقة إنتاجية ومن الضرورات الأساسية لبناء المستقبل.
فالبشر في المجتمعات المعاصرة ينتج أكثر مما يستهلك , فتراه يعطي ويبدع ويبتكر ويقدم خدمات نوعية للمجتمع , ويساهم في التطور العلمي والمعرفي والإقتصادي ويكون قوة فعالة ذات قيمة إيجابية , ودور بنّاء في صناعة الحاضر الأقوى والأثرى.
وعندنا أنظمة الحكم القابضة على مصير المجتمع , لا تفهم بأن البشر ثروة مطلقة يجب الإستثمار فيها وتأهيلها للمشاركة في بناء الحاضر والمستقبل , ولهذا فأنها تدفع به إلى صراعات وحروب لتقضي عليه وتقلل عدده ودوره , وتحسب ذلك كسبا إقتصاديا وسياسيا , ولهذا فأن الحروب مستعرة في المجتمعات التي تعجز عن إكتساب رؤية إستثمارية في الثروة البشرية.
والواقع يفنّد هذه الدعوات فدول الخليج تحتشد بمئات الآلاف من الأجانب العاملين فيها , وهذا يعني أن الواقع العربي بحاجة إلى طاقات بشرية , ذات قدرات عملية إتقانية متفانية بإخلاص وجدية وإجتهاد.
كنت في الصين وتجولت في مدنها وقراها , وتعجبت من دور المواطن الصيني في تدعيم الإقتصاد حتى آخر لحظات حياته , إذ تجده يعمل ويبتكر ويساهم في توفير الخدمات الإسنادية للمواطنين الذين في عز الشباب والعطاء الإقتصادي.
وحتى بعد التقاعد تجده قد إنشغل بنشاطات إنتاجية لتقوية الإقتصاد وتنميته , كإنشاء معمل صغير أو ورشات إنتاج يدوية , أو بإنتاج الطعام والزراعة وتربية الحيوانات وغيرها من النشاطات الإقتصادية التي بمجموعها تشكل ثروة كبيرة , ولهذا فأن الصين تصدر الطعام لمجتمعاتنا التي تتشكى من زيادات عدد السكان , فتسعى لإعداد سوح الوغى العبثية للقضاء على البشر المبتلى بأنظمة حكم عقيمة الرؤى والتصورات الحضارية المعاصرة.
ولا يمكن المضي بهذه النمطية العربية الخاسرة , وإنما المطلوب من القيادات العربية العمل الجاد المجتهد للإستثمار بالثروات البشرية , وذلك بتوفير الفرص الكفيلة بتوظيف الطاقات وتنمية الإنتاجية , والعمل الجاد المتفاعل القادر على العطاء الإقتصادي النافع للأجيال.
ولا يُعرف لماذا لا يخجل قادتنا من هذه الخطابات الجوفاء التي تتشكى من زيادة عدد السكان , وكأنها تجهل أن هناك أمم مليارية النفوس وتريد مزيدا من الإنجاب؟!!