خطة الصدر في إعادة التموضع السياسي والاجتماعي والفكري
لا شك أن انتفاضة أكتوبر وجهت ضربة موجعة لمكانة تيار الإسلام السياسي ونفوذه الاجتماعي، وبغض النظر عن المآل الذي انتهت إليه الانتفاضة، فما تشهده الساحة السياسية والأمنية في العراق من أحداث أفضت إلى مستوين بفعل انتفاضة أكتوبر، المستوى الأول محاولات التيارات الإسلام السياسي الموالية للجمهورية الإسلامية في إيران لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر عمليات التصفيات الجسدية والاختطافات بحق المعارضين والحاق الاضرار بالأبراج الكهربائية وضرب التواجد العسكري الأمريكي والتي تتلخص بمساعي حثيثة لإشاعة الفوضى الامنية، وعلى نفس المستوى يسعى التيار الآخر من أجنحة الإسلام السياسي وهو الصدري بمحاولة لملمة صفوفه وإعادة تموضعه الاجتماعي وخطابه السياسي وتجديد هويته التالفة التي سنتناولها في هذا المقال. أما المستوى الآخر وهو مساعي التيار القومي العروبي الذي تعكز على انتفاضة أكتوبر واسترد المبادرة لتقزيم التيار الموالي لإيران سياسيا واجتماعيا عبر الدعم المالي والسياسي من قبل السعودية والإمارات والأردن ومصر، وأصبح مرة أخرى جزء من المعادلة السياسية بعد هزيمته منذ غزو واحتلال العراق.
ما سنركز عليه في هذا المقال هو تحليلنا لخطاب التيار الصدري على لسان زعيمه مقتدى الصدر والأهداف التي يتعقبها، واين تقف الجماهير من هذا التيار وخطواتها العملية، بغية فضح وتعرية هذا التيار الشعبوي وفرض الانزواء والتراجع عليه، الذي وقف ويقف حائلا أمام أية مطالب عادلة ترفعها الجماهير من أجل حياة حرة وكريمة، فهذا التيار كان دائما مسندا وداعما للعملية السياسية، واستطاع في احتجاجات تموز ٢٠١٥ لعب دور أساسي في لجم جماح الحركة التي كان من الممكن أن تتطور وتتحول إلى حركة باستطاعتها كنس العملية السياسية، وفي احتجاجات عام ٢٠١٩ اختبئ هذا التيار وراء ما يسمى بالطرف الثالث لتصفية انتفاضة أكتوبر.
لقد كان الصدر بحق حامي حماة الفساد والفاسدين، ولعب دورا عبر ميلشياته في تعويم تياره المناهض للحرية والمساواة، فهو مرة يشتاط غضباً عندما رفع شعار (باسم الدين باكونا الحرامية)، ومرة أخرى، حاول استخدام عمامته الإسلامية عندما شعر بالخطر ليطالب بفصل الذكور عن الإناث في الانتفاضة، وبعد فشل كل تلك المساعي، سلط ميلشياته من أصحاب القبعات الزرق لقتل المتظاهرين، وعندما فشل أيضا طلب من الكاظمي لتدخل قواته القمعية لإنهاء الاحتجاجات الجماهيرية في الساحات.
مقتدى الصدر الذي كان يطالب حتى قبل أيام وفي كلمته أمام هيئته السياسية بمنصب رئاسة الوزراء، وبأنَّ التيار الصدري هو الوحيد في الساحة السياسية العراقية، يعلن اليوم عن انسحابه من الانتخابات، وقبل ذلك صرح بأنه سيتعرض للاغتيال. و لفهم هذه المواقف المتضاربة وتصوير المشاهد التراجيدية والرومانسية وتسويقها للإعلام من قبل الصدر، علينا العودة إلى كلمته قبل أسبوع من اجتماعه مع الهيئة السياسية، وتحديدا أمام أئمة الجمعة، كي نفهم ما هي خطط هذا التيار الشعبوي، الذي يمثل الخليط المتأرجح بين الطائفية والإسلامية والقومية المحلية، من ثمّ بالإمكان إدراك مكانة موقعية التيار الصدري على الصعيد السياسي والاجتماعي وحتى الفكري (والهوياتي) في المجتمع العراق بعد سنوات من احتكاره المشهد السياسي معتمدا على تاريخ أبيه، وعلى الانحطاط السياسي والاجتماعي في المجتمع الذي أوجده نظام صدام حسين بحملته الإيمانية، والحصار الاقتصادي المجرم الذي فرضته الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومتعكزا أيضا بشكل مباشر على ميلشياته التي تمول من عمليات الفساد بفعل وجوده في العملية السياسية القائمة على المحاصصة.
ويمكن القول أنَّ في حالة تجريد التيار الصدري من ميلشياته، فلن يبقى للصدر سوى التغني على أمجاده، وسيتحول في أفضل الأحوال إلى عمار حكيم جديد ولكن بشكله الكاريكاتوري، هذا ما يدركه الصدر ويحاول إعادة تموضعه السياسي والوقوف أمام الانحدار الاجتماعي الذي وصل إليه تياره.
في كلمته أمام أئمة الجمعة تحدث الصدر بشكل صريح عن أن كل مساعي ميلشياته في إرعاب مخالفيه عبر تحليق رؤوسهم وضربهم لن تؤدٍ سوى إلى نفور الجماهير من التيار الصدري، كذلك اعترف أن خطب الجمعة التي يلقيها ممثليه حول الفقه، هي الأخرى تبعد الجماهير عن التيار الصدري، أي أن الصدر وصل إلى نقطة بأن سياسة الاغتيالات والتصفيات والرعب ونشر الهراء الذي كان يبثه في صفوف الجماهير، باتت فاشلة ولن تنفع، وأصبح على دراية أن جماهير العراق التي يشكل الشباب فيها أكثر من ٦٠٪ لا يصدقون ترهاته وخزعبلاته ولا يهابون مليشيات التيار الصدري؛ ولذلك طالب بالكف عن الممارسات القمعية وفي نفس الوقت طالب أئمة الجمعة من ممثليه بالتحدث بلغة العاقل والمنطق والمثقف ومخاطبة هموم الجماهير وليس تسويق الأكاذيب على حد تعبيره.
بيد أن الصدر لا يقف عند هذه الحدود، بل يذهب إلى تحديد أولويات تياره سياسياً واجتماعياً لبلورة هوية جديدة وتحديد محاور صراعه الفكري والعقائدي للدفاع عن” الإسلام “و” المذهب” و” الوطن” على حد تعبيره، وهو الثالوث الذي جاء وتردد في جميع المناسبات الأخيرة التي حضرها.
ويلخص ذلك الموقف بأن هناك خطرين يحدق بالمجتمع، وعلى التيار الصدري بأدراكهما؛ الأول هو التطبيع مع إسرائيل، والثاني (خطورة) “الفساد” الفكري والعقائدي والإلحادي الذي ينتشر في المجتمع، طبعا هو لا يبالي للفساد المالي والإداري والسياسي، فهو يقر به ويقول هناك فساد في التيار الصدري وفي الحكومة، لكن ليس مهما، لان عملية الفساد هي من تمول ميلشياته وسطوته على المشهد السياسي، إلا أن الرعب كل الرعب بالنسبة له من (الفساد) الفكري والعقائدي والإلحادي الذي إذا لم يقف بوجهه فعلى التيار الصدري وكل الإسلام السياسي؛ السلام، ويصبح (ثالوثه) المقدس من الإسلام والمذهب والوطن في مهب الريح.
بالنسبة للخطر الأول الذي يشير إليه الصدر، فهو يصب بالمنافسة والمزاحمة مع التيار الولائي للجمهورية الإسلامية الذي يسمي نفسه بمحور المقاومة والممانعة، فالصدر يعي أكثر من غيره أن التيار الولائي احتل موقع المعادات لأمريكا، وحدد على أساسه هويته السياسية، وفي نفس الوقت يشعر بأن هذا التيار المنافس بإمكانه إزاحته من الخريطة السياسية دون اي جهد إذا لم يتخندق مع الطرف الأمريكي الذي يدعم كل التيار القومي العروبي في المنطقة، ويحاول الصدر التشبث به والتموضع معه، ومن ثمَّ فليس أمام الصدر سوى تبني هوية معاداة إسرائيل وإعادة مشهد حزب الله، ولكن ليس بنسخته اللبنانية بل بنموذجه العراقي إذ يحاول الصدر تقليد نصر الله، فلا تنقصه العمامة السوداء التي يعتمرها ولا يفتقر إلى ميليشيات، ولا إلى خطاب نصر لله التضليلي الخالي من كل شيء إلا الممانعة ومقاومة إسرائيل والعزف على وتر تحرير القدس، بل وأكثر من ذلك أن خطاب الصدر مليء بأمتيازات اكثر، فهو يحوي على عدة هويات، ففيه الدفاع عن المذهب وعن الإسلام وعن الوطن. فالصدر وبخطاب شعبوي يحاول ملئ الفراغات أو إزاحة منافسيه الطائفيين والإسلاميين والقوميين والجلوس مكانهم، فمن دون الطائفية لا حصة له في العملية السياسية، ومن دون الدفاع عن المذهب فالخزعلي والعامري والفياض يحلون محله، ومن دون الإسلام والهوية الإسلامية فلا يمكن له التصدي للتيار الجارف الذي حمل وبجسارة الهوية المعادية للإسلام السياسي كراية عالية دون أي تردد، ومن دون الدفاع عن الوطن فلا يمكن تبوء مركز مناهضة نفس التيار بنزعته العلمانية المعادي للنفوذ الإيراني، ولذلك كلَّه نراه مرعوباً من خطر “الفساد الفكري والعقائدي والإلحادي” في المجتمع، لان مزاج المجتمع اليوم هو ليس نفس مزاج ٢٠٠٦ الذي قادت به عصابات جيش المهدي حملات التطهير الطائفي، وليس مزاج ٢٠١٤، عندما زحف داعش إلى أبواب بغداد، فرفع راية الدفاع عن المذهب، إن الصدر يدرك أن جماهير العراق أصبحت اليوم أكثر وعيا وعرفت زيف ثلاثية (المذهب والدين والوطن)، فهي قد جربت سطلة الإسلام السياسي الذي كان الصدر جزء منها وحاميها وداعمها، وجربت أيضا (الوطني) الكاظمي الذي دشن سلطته بورقته البيضاء والتفاخر بشهادة براءة ذمة التي منتحتها له المؤسسات المالية، مصاصة دماء شعوب العالم وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
بعبارة أخرى، فإنَّ الصدر الذي هو كان واضحا في سلسلة اجتماعاته مع أئمة الجمعة وهيئته السياسية قد أدرك، بأنَّ القمع والقتل بات لن يوقف تدحرج كرة الثلج، إذ تدحرج تياره إلى الدرك الأسفل أسوة بالتيار الولائي، ومن هنا فهو يحاول نفخ الروح فيه عبر تبني هوية عدم التطبيع مع إسرائيل، كتكتيك بإمكانه في مزاحمة ما يسمى بمحور المقاومة والممانعة، بالإضافة إلى إعلان الحرب على الأفكار التحررية التي باتت تتسع مدياتها ومساحتها وتغلغلها في المجتمع بشكل واضح، للحيلولة دون سحب البساط الاجتماعي تحت أقدامه، وتجدر الإشارة إلى أنَّ الصدر قد جرَّب حظوظه في حربه العقائدية بعد صولة الفرسان بثلاثة أعوام، عندما شن حملة باسم المهدويين ورافقها قتل المثليين في تهشيم رؤوسهم بالبلوكات، بيد أن الحملة المذكورة جاءت بعد الهجمة التي شنها المالكي بدعم قوات المارينز الأمريكي لإنهاء التطهير الطائفي لجيش المهدي، وارتبطت بتلك المرحلة، مرحلة هزيمة هويته الطائفية وفضح جرائم تياره. وقد صبت أهداف حملة المهدويين على صعيد التنوير الإسلامي من خلال إلقاء المحاضرات بالفقه والفكر والتاريخ والفلسفة الإسلامية كمحاولة من أجل رص صفوف التيار الصدري من جديد وترويضه وتمتين حصانته الفكرية كي يتلاءم مع واقع سياسي واجتماعي جديد الذي أسدل الستار عن الحرب الطائفية.
إن تصريحات الصدر بأنه التيار الوحيد في الساحة العراقية، ليس أكثر من نفح الروح المعنوية بين مريديه، ولا بديل أمامه إلا اللجوء إلى النوازع الأخلاقية في جانب من خطابه السياسي الجديد، فهو يحث خطبائه من أئمة الجمعة، بالتحدث عن الفقر والمحرومين والفساد دون تقديم أية بدائل او حلول والابتعاد عن ممارسة القمع والعنف ضد المعارضين، ويبدو حال الصدر وتياره بالرغم من جعجعته الإعلامية والسياسية وإطلاق التصريحات التي تتأرجح بين تصوير المشاهد الرومانسية والتراجيدية من محاولات اغتياله او موته وبأنه التيار الوحيد على الساحة السياسية العراقية، وانه الورقة الأخيرة للإصلاح، يبدو أنَّه يكشف بوضوح عن المأزق الفكري والخطاب السياسي ونفوذه الاجتماعي الذي وصل إليه.
بيد أن إزاحة هذا التيار الشعبوي والطائفي والفاسد؛ من على صدور الجماهير لن يكن دون طرح بديل آخر أمام المجتمع، فكل محاولات الصدر الأخيرة لا يبتعد عن كونه؛ مرة يريد منصب رئاسة الوزراء، وأخرى يعلن عن انسحابه من الانتخابات، ومرة التصريح بشكل كاذب وصريح ووقح بأن ليس لديه اي وزير فاسد في الحكومات، ناسيا احتكاره كل الوزارات الخدمية منذ حكومة الجعفري وحتى الكاظمي، هذا ناهيك عن صراعه بالحصول على أكبر حصة من المناصب الخاصة التي تقدر ب ٣٠٠٠ منصب، كل ذلك من أجل إيجاد الطريقة الأنسب للحفاظ على امتيازاته في العملية السياسية.
فالصدر يدرك مثل إخوانه من ممثلي التيارات الإسلامية الأخرى أن العزوف الكبير لجماهير العراق عن الانتخابات هو إعلان صريح وكبير برفع كلمة (لا) عظيمة بوجه الإسلام السياسي، وبوجه الجمهورية الإسلامية، وبوجه كل أنواع المليشيات، وبوجه المذهب اي كان صنفه، بوجه الكاظمي وحكومته الفاسدة التي لا تستطيع حماية المستشفيات والأبراج الكهربائية ولا تستطيع إعادة المليشيات إلى جحورها، فاذا كانت انتخابات ٢٠١٨ مهدت الأرضية لإشعال انتفاضة أكتوبر، فهذه الانتخابات إذا كانت مبكرة او مـتاخرة لن يكن إلا إيذانا بدق النواقيس لأسدال الستار عن آخر جرائم فصول الإسلام السياسي في العراق.
إن جماهير العراق التحررية عليها معرفة أن قوتها تكمن بتنظيم نفسها وتكملة مسيرة ما بدأتها في انتفاضة أكتوبر، إن تنظيم حركة ضد الفقر والحرمان وتمادي المليشيات هي أقصر الطرق واقل تكلفة من الذهاب إلى الانتخابات التي يحاول الصدر عبر مناورات فاشلة حصد نتائجها. ولابد من القول أنَّه طالما يحكم العراق سلاح المليشيات فلن تنتج عن الانتخابات غير القوى الفاسدة والمجرمة، فعلينا الحذر وعدم الانزلاق في فخ هذه الجماعات المجرمة، فالإسلام السياسي بما فيه التيار الصدري ما زال يلعق جراحه على إثر ضربات انتفاضة أكتوبر.