23 ديسمبر، 2024 4:49 ص

التيار الصدري من الاحتجاج الى ادارة الحكم والسياسة

التيار الصدري من الاحتجاج الى ادارة الحكم والسياسة

يعد التيار الصدري اكبر القوى السياسية واكثرها شعبية في العراق منذ عام 2003 ، وشكل هذا التيار مفارقة تستحق النظر اليها بامعان وتقييمها ومقارنتها بالاحزاب السياسية الاخرى ، فهو يصطف الى جبهة المحتجين والمعترضين على ادارة الحكم والسياسة، اذ ما من احتجاج اوثورة شعبية او مقاومة مسلحة إلاّ وكان التيار الصدري رائدها وعنصرها المركزي ، ومن جانب آخر يمثل التيار اكبر القوى السياسية المشاركة في الحكم .

تيار الثورة والاحتجاج

خرج السيد (مقتدى الصدر) في اوج تدافع القوى والشخصيات السياسية العائدة من خارج البلاد للبحث عن المراكز والمناصب في الحكم والسلطة وفق الترتيبات التي وضعها الحاكم المدني بول برايمر ، ليفاجئ الجميع باعلانه عن تشكيل جيش المهدي والذي وصفه بادئ الامر بانه جيش عقائدي ، الا انه سرعان ما تم توجيهه لهدفهالاساس وهو اعلان مقاومته لانهاء الاحتلال الامريكي فاصبحت محافظات العراق في الوسط والجنوب ساحة للمعارك بين جيش المهدي وقوات الائتلاف الدولي ، ووضع هذا القرار الاحزاب والشخصيات السياسية في ميزان الالتزام الوطني ، الا انها لم تكن لتجرؤ على الوقوف في وجه الولايات المتحدة في وقت قدمت لها الاخيرة حكم العراق على طبق من ذهب .

من السلاح الى السلطة والحكم

ان اللجوء الى السلاح والمقاومة لم يكن على حساب خيار العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات، فقد ادرك (مقتدى الصدر) انه لابد من تغطية القاعدة الشعبية الواسعة للتيار الصدري – التي كادت ان تتجاذبتها الاحزاب السياسية لو لم تؤطر وتُمثل سياسيا ، ولم تشأ الاحزاب السياسية الشيعية ان تدخل الانتخابات دون الائتلاف مع هذا التيار الواسع والملتف حول قيادته والمرتبط بها عقائديا .

وهكذا شارك التيار الصدري ضمن الائتلاف الوطني الشيعي في انتخابات الجمعية الوطنية 2005، ولاول مرة اصبح للتيار الصدري ممثلين في السلطة والحكم ،ولم يثن ذلك السيد (مقتدى الصدر) من الاستمرار بعمليات المقاومة والتي اتخذت صورتين صورة المقاومة المسلحة والمقاومة السياسية ، وكان للعمليات العسكرية ضد القوات الامريكية والضغط السياسي الذي مارسه التيار الصدري على الحكومة والبرلمان ومجيئ (باراك اوباما) الى البيت الابيض عوامل حاسمة بالانسحاب الامريكي من العراق .

ومع استمرار وجود التيار الصدري في المشاركة في الحكم وادارة السلطة إلاّ إن ( مقتدى الصدر ) كان كثيرا ما يوجه وزراء التيار الصدري بالانسحاب من الحكومة في اشارة وتعبير عن رفضه و احتجاجه على الطريقة التي يدار بها الحكم والسياسة .

لقد استطاع التيار الصدري ان يثبت انه من أولى الحركات واكثرها نجاحا في تحقيق الانتقال التدريجي من كونه مليشيا مسلحة الى كتلة سياسية طموحة ومنخرطة بشكل فاعل في العملية السياسية ، وقد اصبح هذا الامر مُدركا عند القوى السياسية في العراق وعند القوى الدولية والاقليمية على حد سواء . فقد اختارت قيادته حل جيش المهدي الذي كان يمثل اكبر مليشيا عراقية للفترة ما بين عامي 2004-2008 ، وفي الحرب ضد تنظيم داعش اعيد تشكيله ضمن ما اطلق عليه سرايا السلام التي اختارت دورحماية المقدسات الشيعية وتجنبت التماس المباشر مع المدن في المحافظات السنية خشية ارتكاب الاخطاء التي تنال من عنوان السلام الذي حملته هذه المليشيا ، كما ان هذه القوات احتفظت باستقلال كبير في الادارة والتوجيه عن قيادة الحشد الشعبي .

ما بعد داعش .. نقاط التحول

ان الظهور الدرامامتيكي لتنظيم داعش وسيطرته على محافظات عراقية كان مؤشرا فاضحا عن وصول الحكم في العراق الى ما يسمى بـ( الدولة الفاشلة )، فالطريقة التي سيطر بها التنظيم كشفت عن مستوى الهشاشة في قدرة الدولة على بناء مؤسسات وقوات عسكرية وامنية تمكنها من القيام بمهامها الرئيسة في توفير الامن والاستقراررغم العدد الكبير من المنتسبين للقوات العسكرية والاجهزة الامنية والانفاق الكبير الذي بُذل من اجل ذلك .

ان هذا الحدث الجلل كان بمثابة الإشهار عن نهاية نمط ادارة الحكم الذي ساد منذ عام 2003 ، ترافق معها ظهور دعوات ونزعات الى العلن لمقارنة الوجه القبيح لصورة النظام السياسي القائم على اسوء تطبيق للديمقراطية الذي اظهرته تجربة الاحزاب السياسية الفاشلة ، مع النظام الدكتاتوري حتى باتت هذه المقارنة – غير المنطقية وغير المنصفة – حديثا مألوفا في الاوساط الجماهيرية ، ويرشد هذا النزوع الى ادراك الناس الحاجة لان يكون نظام الحكم اكثر قوة وصرامة وابتعادا عن النهج التوافقي لفرض النظام والقانون وتوفير الامن واحتكار الدولة للقوة والقدرة على بسط سلطانها وسيادتها ، ويمكن ان تجد هذه الحاجة استجابتها السياسية فيما يطرحه التيار الصدري من فكر للحكم والسلطة مبني على اساس تجاوزسلبيات التوافقية وقيام مؤسسات دولة قوية تبسط سلطانها على الجميع .

القيادة المتطورة للتيار الصدري

ان القاعدة الشعبية الواسعة والجناح العقائدي المسلح مكّن (مقتدى الصدر) من ان يفرض نفسه لاعباً أساسياً على الساحة السياسية ، وتحوّله إلى ما يشبه (صانع الملوك) الذي يتعين على رؤساء الحكومات المتعاقبة نيل مباركته ،على الرغم من ان جميع هذه الحكومات كانت تواجه دائما بمعارضة (مقتدى الصدر) .

ومع ذلك لم يبادر التيار الصدري الى التنافس على مقعد رئاسة الوزراء ،اذ كان بحاجة الى فترة اطول لكي تتهيأ كوادره السياسية والادارية وتتطور خبرتهم في ادارة الحكم والسياسة .

وبمرور الوقت كشفت التجارب التي مر بها التيار الصدري عن مواهب قيادته الشابة ويظهر ذلك في التغير الكبير في منهجه وخطاباتهالسياسية ، حيث اصبح السيد (الصدر) من اكثر الشخصيات تأثيرا في الساحة السياسة العراقية واكثرهم قدرة على مخاطبة الشباب وتفهم احتياجاتهم ، وصار اليوم يحظى بدعم من مستشاريه الذين تطورت قدراتهم وكفائتهم السياسية بشكل لافت انعكس في فاعلية التيار السياسية ، كما تحبذ اليوم الاطراف السياسية الاخرى ( السنة والاكراد ) سياسة التحالف معه او على الاقل عدم إتخاذ اي خطوة قد تعكر صفو علاقتها بالتيار الصدري .وقد اعتمدت قيادة التيار الصدري على التجديد والمراجعة الدائمة لصفوف التيار الصدري ، اذ كثيرا ما يتدخل السيد (مقتدى الصدر) لاستبعاد الشخصيات الفاشلة او المتورطة بالفساد ، كما اتبع سياسة التغيير الجذري في مرشحي انتخابات 2018 .

واليوم يؤكد الكثير من المراقبين المحليين والدوليين ان التيار الصدري قد شهد تطورا واضحا في تكوين نخبة من السياسيين والاداريين يجيدون ادارة المؤسسات وتوجيه السياسات وضبط مساراتها وفق اهداف محددة ، وتظهر مثل هذه الشخصيات على ثلاثة مستويات ، الاول هو صُناع السياسة والمستشارين المقربين من (مقتدى الصدر) ، والمستوى الثاني هو في مركز ادارة السلطة والحكم ، واخيرا على مستوى المحافظات وادارتها .

وتظهر على المستوى الاول اسماء من ابرزها ( نصار الربيعي ) رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري ، تبرز موهبته في تعدد مجالات الخبرة وتطورها عبر اشتراكه في مراكز السلطة العليا في البلاد( عضو مجلس النواب ورئيس الكتلة الصدرية في المجلس ووزيرا لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية) ،ان وجود ( نصار الربيعي ) يمثل اضافة نوعية للهيئة السياسية للتيار الصدري ، اذ يجمع بين المؤهل والرؤية العلمية وبين الخبرة العملية ، وهو يعي جيدا معنى واهمية وجود خبراء في السلطة يجمعون بين الجانب العلمي والممارسة السياسية .

اما على مستوى التعامل مع مراكز ادارة الحكم والسلطة فيظهرلنانموذجين من القيادات الشابة التي تتسم بالهدوء العالي والتمركز في مواقع مهمة في السلطة وادارتها كرجال دولة وليس كاتباع لاحزاب سياسية ، وهو امر تتطلبه عملية بناء الدولة و تقوية مؤسساتها المركزية .

في مقدمة هذه الشخصيات الامين العام لمجلس الوزراء (حميد الغزي ) الذي سبق له ان ترأس مجلس محافظة ذي قار، وكان قبل ذلك عضوا في مجلس المحافظة ، وقد تم اختياره امينا عاما لمجلس الوزراء وصوت عليه مجلس النواب كأول امين عام اصالة منذ العام 2003 وقد استمر في منصبه حتى بعد تغيير (عادل عبد المهدي ) ومجيئ ( مصطفى الكاظمي ) الى رئاسة الحكومة، وتظهر إدارة ( الغزي ) للامانة العامة تميزا في تعامله الحذر مع الامانة العامة كمؤسسة دولة لا مؤسسة حزب، فلم يجر منذ وصوله اي تغيرات هيكيلة على بنية الامانة العامة وموظفيها اللذين اكتسبوا خبرة سنوات من العمل ويأتي بآخرين محسوبين على التيار الصدري، وينم هذا عن قدرة ( الغزي ) على ادارة وتوجيه العمل المؤسساتي بكل شفافية ووضوح، كما قدم نموذج ( الغزي ) في الوصول الى مركز مهم في السلطة التنفيذية صورة عن كيفية تطور رؤية الصدريون لادارة مؤسسات الحكم والسلطة ، وقد ركز( الغزي ) في اعماله على الاهتمام بتقوية مركز الامانة العامة في السلطة التنفيذية وتسيير اعمالها مع بقية الوزارات والاهتمام بالسياسات العامة والخطط والبرامج الحكومية ، والاهتمام بمتابعة وتنسيق الجهد الحكومي في مجال الاتفاقات الحكومية مع الدول الاقليمية، وليس ذلك بعيدا عن ادراك ( الغزي ) – المتأتي من تحصيله الجامعي العالي في مجال السياسة الدولية – لأهمية العلاقات الدولية والاقليمية لمصالح العراق الوطنية .

ويمثل ( حسن الكعبي ) النائب الاول لرئيس مجلس النواب الشخصية الثانية في هذا المستوى ويبدو من متابعة هذه الشخصية جديته وتركيزه العالي على مهام ووظائف مجلس النواب ، فقد اظهر همة واستعداد كبير للاهتمام بجميع الملفات التشريعية بغض النظر عن موقف التيار الصدري منها ، فقد استطاع ( الكعبي ) ان يفصل بين كونه نائبا عن التيار الصدري وبين كونه نائبا لرئيس مجلس النواب، وان ينفتح على جميع الاتجاهات السياسية والتفاعل مع كل القضايا والمؤسسات الرسمية ، بشكل جعله يبدو اكثر فاعلية حتى من رئيس مجلس النواب .

ان ظهور نخبة من الكفاءات القادرة على ادارة وتوجيه الحكم والسلطة بكفاءة يمثل احد اضلاع المثلث الى جانب القاعد الشعبية الواسعة والقيادة الحازمة ( والملهمة ) الجديرة بجعل التيار الصدري الاتجاه السياسي الوحيد المؤهل لادارة الحكم في العراق ، لاسيما وان الظروف قد اصبحت مؤاتية لطرح التيار نفسه لاستلام رئاسة الوزراء . حيث يتوق الشعب في اطار حكومة جديدة وقوية الى الاصلاح الحقيقي في وقت يفتقر خصومه الى مميزات التيار الصدري على مستوى القيادة والقاعدة معا ، فضلا عن غياب الرؤية الوطنية وتبعية بعض القوى السياسية ، وتفضيل وترجيح القوى السياسية الاتفاق مع التيار الصدري لتشكيل الحكومة القادمة ، وبقدر ما ترتبط تطلعات التيار الصدري بنتائج الانتخابات والتي يبدو ان التيار قد اعد لها الماكنة الانتخابية المناسبة ، كما قد فعل في انتخابات 2018 فانه يرتبط من جهة اخرى بقرار ( مقتدى الصدر ) الذي يجد البعض انه سيفضل عدم تولي التيار الصدري لرئاسة الحكومة والاكتفاء بشغل المقاعد النيابية وبعض الوزرات والهيئات المهمة في ظل المشكلات الكبيرة التي خلفتها الحكومات السابقة وفي ظل الازمة المالية التي قد تشكل عقبة امام اجراء الاصلاحات الحقيقية وتطوير الاقتصاد وتحسين مستوى الخدمات ، الامر الذي قد يحمل التيار الصدري نتائج عدم القدرة على تحقيق ذلك.

ولكن يتعين على قيادة التيار الصدري التأني في إتخاذ مثل هذا القرار فاجتماع مثل هذه الظروف لا يتكرر دائما ، ولابد من ادراك حقيقة ان عدم التصدي لمنصب رئاسة الوزراء والانتقال بالتيار الصدري من مرحلة المطالبة بالاصلاح والاعتراض على اسلوب ادارة الحكم الى مرحلة المبادرة بالاصلاح الحقيقي وتغيير نمط ادارة الحكم والسلطة سيؤدي الى فقدان الثقة بقيادة التيار والانحسار التدريجي لقواعده ،فلا مبرر امام تخلي التيار الصدري عن فرصة توليه رأس الحكم والاخذ بزمام المبادرة والبدء بمرحلة جديدة للحكم والسلطة في العراق .