23 ديسمبر، 2024 11:00 ص

التوغل في الحدث

التوغل في الحدث

“مسرحية ألف حاء وتفاحة واحدة “.. توثيق النص من داخل المأساة
عرفتُ من خلال فعاليات مهرجان المسرح العراقي ضد الإرهاب الأول، أن الفنان المسرحي ماجد درندش يمتلك خاصية أخرى فضلا عن التمثيل والإخراج، وهي أنه كاتب مسرحي مرموق من خلال مسرحية «نون» التي قام بكتابتها والتي أخرجها كاظم النصار.
هذه المسرحية الاحتجاجية ضد الممارسات اللاانسانية التي قام بها تنظيم داعش ضد المسيحيين والأقليات الأخرى في مدينة الموصل، والتي سلطتْ الضوء على أوضاع النازحين والمهجرين الذين تركوا بيوتهم بسبب عمليات الإبادة من قبل داعش، كما أنها انتقدت استهداف حضارة وادي الرافدين وتدميرها.
أن ما يميز الكتابة عند الفنان درندش هو الواقعية الموغلة في أدق التفاصيل الحياتية، والعناية بالنص بوصفه وثيقة تاريخية لما يحصل في الواقع، فضلا عن المحاكاة والمعاناة الإنسانية والتطلع نحو حياة أخرى بديلة.
لذلك فإن ما يكتبه درندش عن المسرح تأليفاً هو صورة تجسيدية عن نجاح مقومات العمل المسرحي، لأنه الأكاديمي والمتمعن في تكامل العمل نصاً وتمثيلاً وتجريباً ووعياً في تأسيس مسرح عراقي جديد بعد عام 2003 نتيجة لاختلاف نمط الحياة ووجهات النظر في كل شيء، بل تغيير في إيقاع الحياة بصورة سريعة وهذا يحتم التأكيد على إعادة السؤال في المسرح العراقي الى نظرة أكثر جدية من سابقتها في معايير جدوى مسرح عراقي جديد يبنى على أسس تنطلق من مقومات مستحدثة في واقع يتغير، ووعي ينبض بالتغيير نحو مسرح يلغي ويبني ويؤسس خشبة ملتهبة ومبدعة وتكون مؤثرة في هذا الفن النبيل والساحر وخصوصا المسرح العراقي القوي والشامخ بمبدعيه وأصالته وقاعدته الرصينة في جمهور ذواق وناقد، ليس على مستوى النخبة وحسب، بل في عموم المحبين والعاشقين للمسرح.
وكان من دواعي الفرح أن اقرأ نصاً جديداً للكاتب ماجد درندش بعنوان «ألف حاءْ وتفاحة واحدة» الذي سماه «نص الميكانو» ويتكون من ثمانية مشاهد في محاورات بين «ألف» و«حاء» وحرف الألف هو رمز كما حرف الحاء رمز. إنها محاكاة إنسانية وفلسفية وواقعية في يوميات نعيشها ونمارسها ونحيا ونموت فيها.
يقول درندش للتوضيح في مقدمة المسرحية: “أعني بنص «الميكانو» هو النص الذي يحتوي على عدة مَشاهد من خلالها نستطيع أن نصنع أكثر من عرض مسرحي. نص الميكانو يمنح صلاحية للمخرج أن ينثر المَشاهد على طاولة القراءة كقطعِ لعبة الميكانو ثم يختار المَشاهد التي تتفق مع رؤيته الإخراجية ويترك باقي المَشاهد ليأتي مخرج آخر يتناولها ويصنع منها عرضاً مسرحياً آخر”.
ويضيف: “كذلك يسمح للمخرج أن يغمض عينيه ويختار مَشاهدَ لا على التعيين ويسلسلها دون تفكير ليحصل أيضاً على نص يستطيع من خلاله أن يبني عرضاً مسرحياً وفق المعايير الفنية والجمالية.
قرأتُ النص بعناية وحيادية لكي أصل الى ما يريد الكاتب في رؤيته وفكرته ومعالجته وحلوله وكيف يرى حين يغمض عينيه عن واقع أليم، فلا أنكر الجهد الكتابي في احترام المعنى أولا، المعنى الواضح والمفهوم والفلسفي في تهذيبه للحوار والكشف عن حالات نعيشها ولكن بنظرة موضوعية أستطيع أن أسميها النظرة الثاقبة للحياة من خلال النص العضوي الذي يتداخل ويعيش ويتنفس ويأكل ويشرب معنا بموضوعية جادة، وهذا النص هو رد ورديف وصراخ واحتجاج وتماثل لما يجري لنا ومن حولنا.
إن النظر من ثقب الباب الى المأساة هو الكشف وليس الكتابة في آتونها، لأن المأساة ما تزال تشتعل وتغلي وقائمة ولم تُطفأ بعد. بمعنى أن الكاتب الذي يعيش المأساة لا يمكن أن يكتب في وقت حدوثها، لكن الكاتب استطاع ان يدون ويوثق ويرسم ويصور ما يجري. وقد تكون هذه خاصية في سرعة بديهية الالتقاط في مجريات المأساة حتى أن رافقتها بعض التأملات والتوقفات والهنات.
 
إن المشاهد الثمانية للمسرحية تحوم وتطير وتحط في حوارات متكاملة وأن كانت حزينة ومؤلمة، ولا يمكن لأي مخرج أن يقدم أو يؤخر، هناك استرسال حواري بنائي يتسلسل في المضمون، هكذا هو النص لا يطاوع أي مخرج بتقديم أو تأخير، صحيح أن النهاية ليست خاتمة، ولكنها نهاية قسرية وتفرض نفسها عنوة على أي مخرج وفق النص.
في مسرحية «ألف حاء وتفاحة واحدة» النص هو السيد، هو المؤلف، هو المخرج، وهو المشاهد، نص يتفوق على أي مخرج حتى لو امتلك أقوى أدواته المهارية، وربما إلغاء المخرج وعدم الحاجة اليه، النص هو المخرج، والمخرج هو النص، ربما ثمة وقفات وأقصد الاعتياد في الكتابة، وهذا من خصوصية المسرح ولكنه كان اعتياداً لما يعمل به بالمسرح، ثمة تساؤلات كثيرة، وهذه لم تضع بل ظهرتْ بأسئلة وأجوبة تعالج الصمت والذهول.
وقد تكون هنات تشبه استراحة القلوب من ركض يتواصل، لأن الراوي والمشاهد بحاجة الى نفس عميق لكي يعيدا ما يتولد من انفعالات وصرخات وحيرة وتوقف وما ينتج عن ذلك عند القراءة أو أثناء مشاهدة العرض أو التوغل في النص.
إن هذا النص يسأل كثيراً، لكنه لا يجيب بسهولة، بل يترك القارئ يجيب على الأسئلة، فهناك مشتركات في الصورة، النص يشترك في الثيمة عند القارئ يسأل ولا يجيب. القارئ يجيب ولا يسأل، وقد يكون القارئ هو السائل وهو المجيب، وهو صاحب القضية في غثيان يفور ولا يهدأ، وهذا ضروري في وضوح المأساة وكيفية التعبير عنها، من جهة وبين تداعيات ما يصيب هذا الإنسان بعد زمن قادم، من غثيان أو غثيانات أشد تيهاً من جهة أخرى، بل ضياعاً بكيفية الإجابات الصادقة والحقيقية والموضوعية عن الذي جرى، وما هي وجهة نظر المثقف عن الحدث وتداعياته، وعن دوره، وعن موقفه بوصفه إنسانا يلزمه الوعي بالتغيير والتأثير وقيمة السؤال في نص يستحق الإشارة والإشادة.