18 ديسمبر، 2024 8:07 م

عندما عملت في إحدى مدننا الجنوبية , كنت أحيانا أتجول في أسواقها , ومن المناظر المؤلمة التي كنت أشاهدها, أن العديد من العربات المكدسة بالطيور المائية المذبوحة تحتشد على جوانب السوق , وفي فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجة الحرارة إلى حدٍ لا يُطاق , فترنو للمئات بل الآلاف من الطيور المقتولة التي ستتعفن بعد ساعات وستكون طعاما للكلاب السائبة , وتتساءل لماذا هذه العدوانية على الطيور المائية الجميلة؟

وقبل فترة تم نشر صور لطيور الفلامنكو المجزورة في الأسواق وبعدوانية لا مثيل لها , فالطير الجميل الذي جاء زائرا للأهوار تم القضاء عليه بتوحش منقطع النظير.

وقبل بضعة أيام إنتشرت صور لدولفين مسكين قرر أن يستكشف مياها أخرى فأبحر في شط العرب , ووجد نفسه في جحيم عدواني أثيم أدى إلى قتله والتفاخر بنحره والتباهي بصيده , لا لشيئ إلا لإرضاء غريزة القتل وسفك الدماء المتأججة في الأعماق الأميّة.

هذه سلوكيات لا يجرؤ على القيام بها أشرس الحيوانات المفترسة , التي لن تقتل جميع البط أو طيور الفلامنكو , وإنما تكتفي بواحد منها أو أكثر بقليل لسد حاجتها من الطعام , أما هذا الفتك الشرس بالمخلوقات المائية الجميلة المهاجرة , التي تقطع مئات الأميال لكي تحط بديارنا , فهو سلوك توحشي بدائي يكشف عن عاهات نفسية وإضطرابات سلوكية مرعبة.

فالذي يقتل الطيور والحيوانات بهذه الإندفاعية والشراهة يكون عنده قتل البشر سلوكا عاديا , والتفاعل بأعلى قدر من الوحشية هو السائد والمعيار.

وفي المجتمعات المتطورة يتم الإنتباه إلى علاقة البشر بالحيوانات من حوله , ويُحسب العدوان على الطيور والحيوانات الأخرى سلوك مرضي , ونذير أعمال ذات خطورة ستتحقق مستقبلا , ولهذا يتم التفاعل معه بحزم وتداخلات علاجية ويكون الشخص تحت المراقبة.

كما أن أي سلوك من هذا النوع يتسبب لصاحبه بمشاكل قانونية وغرامات مالية رادعة , وقد يُخبر عنه أحد الناس الذي شاهده يعتدي على مخلوق آخر كالطيور , وغيرها من الحيوانات الموجودة في البيئة.

بل أن هناك العديد من المتطوعين الذين يهتمون بالحيوانات المصابة فيعالجونها ويؤهلونها للعودة إلى البيئة بسلامة , وهم في حالة خفارة دائمة ويتلقون المكالمات والإخبار عن أي حيوان أو طير مصاب ليأتون إليه ويتعهدونه بالرعاية والعلاج.

كما أن القوانين صارمة بخصوص الصيد وهي تنظمه بأساليب علمية مستندة على دراسات وإحصاءات تحدد العدد المسموح به للصيد , ولا يمكن تجاوزه , لأنه سيعرض الفاعل إلى مساءلات وإجراءات قانونية صارمة.

والعديد من المؤسسات تدرس الحيوانات بأنواعها وتحاول أن تحتضن الذي تقل أعداده وترعاه وتكاثره وتطلقه حرا , ذلك أن القوانين الطبيعية الكفيلة بإدامة الحياة تستدعي توازنات خلقية فوق التراب , فلا يجوز الإخلال بالتوازنات القائمة لأنها تدمر الحياة وتفقدها الكثير من مؤهلات ومقومات صلاحيتها وتكفلها للموجودات بأنواعها.

فلكل مخلوق رسالة وغاية ودور في بناء الحياة وديمومتها وتحقيق السعادة فيها , وما يتحقق في ديارنا يساهم من حيث ندري ولا ندري في تدمير البيئة الطبيعية والنفسية والسلوكية للبشر , مما ينجم عنه تداعيات مريرة وخرابات خطيرة.

فتجدنا نتباكى على جفاف الأهوار ونحن من أشرس قتلة الحيوانات التي وجدت الأهوار من أجلها , فكيف بربك لا ينضب ماؤها وعدوانيتنا فائقة على كل طير يريد العيش فيها؟!

إن هذه السلوكيات خطيرة وتساهم في تأليب الطبيعة والبيئة علينا , لأنها تخل بآليات التوازن والتفاعل المتعادل المستقيم الذي يصنع الحياة الزاهية الجميلة , والتي أدركها البشر منذ الأزل , ولهذا تآلف مع الحيوانات من حوله وتعلم أن الحياة لا تتحقق بدونها , فأسس علاقة تكافلية بينه وبينها , فمضت الأجيال على سكة الأمل والرجاء والإيمان بغدٍ أفضل.

والعجيب في الأمر أن الذين يقومون بهذه الأعمال المتوحشة القاسية يدينون بدين رحيم قويم , يدعو إلى الرفق بالحيوان , ويحث على عدم القسوة حتى على الزرع والشجر, ويقر بحقوق الحيوان وواجب رعايته والرأفة به.

“وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيئ ثم إلى ربهم يُحشرون” الأنعام: 38

فأين الرفق بالحيوان , وهل سمعتم معمما حدّث الناس في هذا الموضوع؟!!

وهل في مجتمعاتنا قوانين لحماية حقوق الحيوان؟!!

تساؤلات في مجتمعات لا قيمة فيها للبشر , فكيف تحسب سلوكه سيستقيم وما يشعر بأنه إنسان؟!!