9 أبريل، 2024 3:16 م
Search
Close this search box.

التواصل العثماني السويدي: مبدأ شرب القهوة

Facebook
Twitter
LinkedIn

الاستراحة اليومية لشرب القهوة من الأمور التي اعتاد عليها السويديون. فهي تشرب عند الفطور وفي وسط النهار وفي المساء. وفي استراحات العمل في المصانع والمتاجر والمكاتب والمدارس، وفي المقاهي، وعند الاجتماعات والضيافة ولقاءآت الأحبة والاصدقاء، وعند الاستمتاع باشعة الشمس في الطبيعة وخلال استراحات الطريق عند السفر، وفي جلسات السمر في فناء البيت. عائليًا أو انفرادًا. فهم مثل شعوب كتيرة تستمتع بالقهوة، ولا غنى عنها. ولكن المميز لها في السويد انها عادة وتقليد اجتماعي لها طقوسها اليومية ومناسباتها السنوية ولها مغزاها. بمعنى انها ليست مشروبًا عاديا على الهامش لكونها حالة شائعة فقط. وإنما هي محطة يومية استثنائية، ونمط وطريقة حياة. تشكل عنصر استقرار واندماج، ووسيلة تواصل وتفاعل اجتماعي. وتقدم اليوم غالبًا مع الشطائر أو الحلوى والفطائر، وخاصة معجنات القرفة المحلاة.
الفيكا:
تدعى فترة شرب القهوة بـ (فيكا). وهي لفظة تقترن بأحاسيس محببة. ولها وقع وسحر دائم في النفوس وهي تعبير أو لفظة متأصلة بعمق في الثقافة السويدية،. ولا يعرف على وجه التحديد من اين جاءت هذه التسمية. ويبدو انّها محرفة من لفظة (كافي) بقلب حروفها. وتعتبر السويد واحدة من الدول التي لديها اعلى مستوى من استهلاك القهوة في العالم. اذ تشير بعض بحوث منظّمة البنّ الدولية (ICO) في بعض السنين ان السويديين يأتون في المرتبة الثانية بعد الفلنديين (1). اذ يستهلك الفلنديون ما معدله 1252 كوب قهوة سنويًا في حين يستهلك السويديون 1211كوب قهوة سنويًا. أي أكثر من 3.5 كوب يوميًا للفرد الواحد. ويشير موقع “Worldatlas” الكندي ان السويد السادسة عالميًا في استهلاك القهوة وتستهلك 8,2 كيلوغرام سنويًا للشخص الواحد (2)، ويبدو ان هذا التقييم قديم ولم يُحَدَّث. فوفق ما رصده موقع معلومات عن القهوة (السويدي) ان الاستهلاك هو عشرة كيلوغرامات من القهوة المحمصة لكل فرد في السنة (3). وللوهلة الأولى يمكن ربط الإقبال العالي على القهوة بالأجواء العامة، إذ من المعلوم ان برودة الطقس والشتاء الطويل عوامل مساعدة تساهم في تأصيل هذه العادة. ولكن يبقى السؤال: من أين جاءت ابتداءً عادة شرب القهوة الى السويد؟.
تاريخ القهوة في السويد:
تاريخيًا عُرفت القهوة لأول مرة في السويد، وبشكل محدود جدًا في صيف عام 1685م حيث وصل من امستردام مازنته (425) غرام من القهوة ، وخلال عامين تاليين، توسع الامر، وبدأ بيع القهوة في الصيدليات بكميات صغيرة (4). كنوع من الدواء، لتخفيف الآلام ومعالجة بعض الأعراض المرضية.
الملك كارل الثاني عشر والقهوة:
يبدو ان الملك كارل الثاني عشر (1682- 1718م) حينما كان ضيفًا في الدولة العثمانية (5). قد لفت انتباهه مشروب القهوة التي كانت منتشرة هناك. حيث أُغرم بإرتشاف هذا المشروب الفاخر والمنشط. واعتاد عليها بِحُكم فترة اقامته الطويلة في الدولة العثمانية العَليّة، والتي امتدت لقرابة خمس سنوات. ويقال انه اثناء مكوثه في الدولة العلية، كان يُعَدّ له ثلاثة كيلوغرامات من القهوة يوميًا. وقد مرّ معنا في بحث: (التواصل العثماني السويدي: 2- طبق الكفتة) ان الملك كان يتناول الكفتة هناك كوجبة خفيفة مع احتساء القهوة. ولا يستبعد أن يكون اعتياده على شرب القهوة في الدولة العلية، واستمرار هذا الأمر بعد عودته للبلاد، تأصيل وتأسيس لما عرف فيما بعد بـ (الفيكا) السويدية. وعلى اي حال، عند عودته الى المملكة سنة 1715م كان من ضمن من اصطحبهم معه طباخ القهوة التركي ليعد له قهوته المفضلة… ومن الطبيعي أن شغفه هذا قد فعّلَ، أونَبّه الناس، ولفت أنظارهم الى المشروب الأسود اللطيف الذي يرتشفه ملكهم. كانت عملية استيراد البُن في زمنه من الدولة العَليّة، قد ساهمت في توسع انتشاره. فإنطلقت بشكل فاعل وجدّي، عملية تذوق المواطنين الإيجابي للقهوة في مملكة السويد. وليتواصل هذا الحال على نطاق أوسع بعد رحيل الملك.
بالأضافة الى الملك والمقربين منه وحرّاسه وطباخيه. كان هنالك عنصر آخر ساهم – بشكل أو بآخر- في التعريف بالقهوة، تمثل في الوفود التي ارسلها السلطان العثماني. والتي تضم مسؤولين رسميين وبعض الأتراك الدائنين للملك. ولعل ابرزهم الوفد الذي وصل الى السويد بعد وفاة الملك كارل الثاني عشر بثلاثين عامًا، لتحصيل الديون التي ترتبت على الملك والتي اقترضها اثناء تواجده في الدولة العليّة. فجلبوا معهم حبوب القهوة واصطحبوا الطباخين المهرة (6). ومكثوا في السويد فترة لا بأس بها. ويُرجّح أن هناك من آثر البقاء في المملكة.
كانت البداية لأرتشاف القهوة تجري بين النُخَب والأعيان وعلية القوم من النبلاء والبرجوازيين بأعتبارها موضة الأغنياء ممن يستطيعون تحمل تكاليف شراء القهوة. ومع إزدياد الطلب عليها. اعتُبرت لاحقًا مشروب المثقفين والمفكرين، خاصة العاملين في الجامعات والمؤسسات الثقافية.
القهوة أو الكحول:
عالميًا، نافست تجارة القهوة (البُن)، تجارة المشروبات الكحولية. ولعبت دورًا اساسيًا في التقليل وخفض مبيعات واستهلاك المشروبات الكحولية ردحًا من الزمن. وغدت القهوة معادلة لعبارة: (الذهب الأسود) كونها تجارة رابحة وتدر دخلاً وفيرًا.
كان للقهوة عالميًا، دوراساسي في انقاذ العديد من الناس، فيما يتعلق بالحد من كميّات تعاطي الكحول اليومية. فبدل ان يستقبل البعض يومهم صباحًا – كما إعتادوا- بجرعة من المشروبات الكحولية، استبدلوا ذلك بالمشروب المفضل، رشفة من فنجان قهوة منعشة (7).
في السويد، حاول المزارعون الذين يعتمدون في تصريف منتجاتهم الزراعية على صناعة النبيذ والمشروبات الكحولية ، الاحتجاج ومنع استيراد البن، ولكن محاولاتهم الناجحة، كانت تتعثر ولا تستمر طويلًا (8). احدى تلك المحاولات الناجحة (بشكل مؤقت)، تكللت بإصدار البرلمان في سنة 1756م حظرًا على شرب القهوة، وفرض غرامة على من يخالف الأمر، وذلك استجابة لنداء الفلاحين، وقلقًا من خروج الأموال الى خارج البلاد. ولكن في عام 1769م تم رفع الحظر واستبداله بوضع رسوم على الإستيراد (9). ولقد تم فرض حظر شرب القهوة بعد ذلك لثلاث مرات في فترات مختلفة. وفي كل مرة تُحظر فيها القهوة رسميًا، يستمر الناس في طلب واستهلاك قهوتهم المحببة. ولعل هنالك من يرى انّ تعلق الناس بالقهوة، يرتبط بتكرار حظرها لمرات عدّة. وكما يقال: (الممنوع مرغوب). وهذا اختزال مُخل للذائقة. وأحسَبُه يُذكر من باب الطُرفة.
طوال القرن الثامن عشر لم تكن القهوة مشروبًا شعبيًا في السويد. لقد استغرق الأمر طويلًا لتأخذ مداها في الإنتشار بين الشعب. ولكن لم يأت منتصف القرن التاسع عشر، إلّا وقد وصلت القهوة الى الريف السويدي لتصبح مشروبًا شعبيًا. فاعتاد الشعب على عادة ملوكية فاخرة. ولتأخذ اليوم مداها وحجمها ، ولتصنف على انها ضرورة من ضروريات الحياة. تطفيء العطش، وتبعث على الحيوية وتجدد النشاط وتزيد الترابط الاجتماعي. ومن الطبيعي ان تلاحظ تعلق الناس اليومي بهذا المشروب المذهل، والذي اصبح عادة سويدية تمتد جذورها الى زمن الملك كارل الثاني عشر.
في الحرب العالمية الثانية عانت السويد من شحة في امدادات البن واشياء اخرى بسبب ظروف الحرب. وعندما تم السماح باستيراد بعض المواد من الخارج. كان البُن -كما يقال- اول شيء تم تحميله واحضاره في القوارب. مما بعث البهجة والإرتياح على من اعتاد شربها من الشعب السويدي. مع انها لم تكن تعتبر يومها من المسلّمات وضروريات الحياة اليومية كما هو الحال في الوقت الحاضر.
الفاتيكان وشرب القهوة:
في بدايات وصول القهوة الى القارة الأوربية، تجدر الإشارة الى انّ بابا الفاتيكان، وقد بدأ الحديث يُتداول في اوربا وفي اروقة الفاتيكان عن هذا المشروب الوافد الغريب من الشرق، فقد قُدمت له النصيحة ان ينأى بنفسه عن القهوة، لإعتبارات ظنوا انها تتقاطع مع الدين، بإعتبار ان القهوة قادمة من بلاد (الدولة العثمانية) تختلف عنهم في الدين. وهم في صراع تاريخي معها. فقرر البابا ان يتذوق شيئًا منها قبل ان يحدد موقفه النهائي. فكان ان استحسنها واولع هو الآخر بشربها. فتقبلها، وبارك وجودها في البلاد المسيحية. وفي عام 1645م اصبحت البندقية اول مدينة اوربية تفتتح مقهى لشرب القهوة (10). في حين تم افتتاح اول مقهى في ستوكهولم سنة 1710م (11) حتى بلغت اعداد المقاهي في ستوكهولم في منتصف القرن الثامن عشر (50) مقهى..
تحضير القهوة علم وفن:
اليوم وبسبب انتشار المقاهي الحديثة في كل مكان، وأن لكل شخص قهوته المفضلة، فقد اصبح اعداد القهوة وتقديمها فن ومهارة تقتضي الكثير من المعرفة والخبرة. فمن انواع البن الى درجات التحميص الى المطاحن، الى القهوة السادة أوالمضاف اليها السكر او رشفة الحليب، الى مجموعة كبيرة من الخيارات والبدائل العصرية الشائعة كالكبتشينو، والإسبرسو، واللاتيه، والأمريكانو، الى مكائن اعداد القهوة المتنوعة، الى رغوة الحليب والكريمة والآيس كريم، والطعوم، والمنكهات، والنقوش بحرفية ومهارة على الواجهة، والى القهوة المثلجة ، والقهوة التركية ، وقهوة الهيل العربية، وقهوة الشعوب الأخرى، وانتهاءًا بحجم أكواب التقديم المناسبة. كل ذلك يؤكد الشغف الحقيقي للناس بهذا المشروب (الصحي شريطة عدم الإفراط). وان العمل في اعداد القهوة وفي المقاهي اصبح يقتضي الكثير من العلم والمعرفة والتدريب (12).

المراجع والهوامش:
(1) موقع السويد الرسمي https://ar.sweden.se/culture-traditions/twenty-things-to-know-before-moving-to-sweden/ . ووكالة الصحافة الاوربية بالعربي (يورو برس عربية /ستوكهولم) في 14/6/2015 http://www.europressarabia.com/?aa=news&id22=1742
(2) القناة الاخبارية السويدية https://aktarr.se
(3) https://www.kaffeinformation.se/grunder/kaffets-historia/
(4) http://www.kaffefakta.se/kaffehistoria.aspx
(5) انظر بحث سابق بعنوان: (لماذا لجأ ملك السويد الى الدولة العثمانية؟).
(6) https://popularhistoria.se/vardagsliv/mat-dryck/sa-blev-kaffet-sveriges-nationaldryck
(7) http://www.kaffefakta.se/kaffehistoria.aspx
(8) https://www.ica.se/buffe/artikel/nar-kom-kaffet-till-sverige/
(9) https://sv.wikipedia.org/wiki/Kaffe
(10) مصدر سابق. www.ica.se/buffe/artikel/nar-kom-kaffet-till-sverige/ و https://en.wikipedia.org/wiki/Gustav_III_of_Sweden%27s_coffee_experiment
(11) https://www.spisa.nu/fakta/svensk-kaffehistoria و
http://faktoider.blogspot.com/2018/04/gustav-iiis-tvillingexperiment.html
(12) http://www.kaffefakta.se/kaffehistoria.aspx
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب