23 ديسمبر، 2024 9:49 ص

التواجد الامريكي في العراق ماله وما عليه

التواجد الامريكي في العراق ماله وما عليه

ان الوجود الامريكي في العراق جاء لحدثين مفصليين في التاريخ العراقي الحديث , الاول كان ازاحة نظام صدام حسين عام 2003 , والثاني اتى بعد احتلال داعش لثلث مساحة العراق مما دعت الحكومة العراقية للاتسنجاد بقوات التحالف الدولي التي تتراسها امريكا للمساعدة في تحرير اراضيه , وفي الحالتين كان للاطراف السياسية الموجودة في الحكم اليوم دورا بارزا في استدعاء الجيش الامريكي وفتح الابواب لها على مصراعيها عززه سكوت مطبق من المراجع الدينية والتي لم تمانع في دخول تلك القوات وامتنعت عن مقاتلتها . ويظهر ان الاطراف السياسية في العراق ومراجعه يرون في الجيش الامريكي مرتزقة لهم يلجأون اليها متى ما دعت حاجتهم الى ذلك .

في المناسبة الاولى خرجت القوات الامريكية من العراق ضمن اتفاقية الاطار الستراتيجي المشترك التي وقعت بين الطرفين عام 2006 ما دعى الى انسحاب القوات الامريكية سنة 2011 , ثم ما لبث ان احتل داعش ثلث الاراضي العراقية عام 2014 لتستدعي الحكومة العراقية القوات الامريكية من جديد لمساعدتها في حربها على داعش والانتصار عليه .

من المعروف ان لامريكا قواعد عديدة منتشرة حول العالم اما على شكل قواعد امريكية خالصة , او عن طريق قواعد مشتركة بين القوات الامريكية وقوات الدولة المعنية , تكون وفق اتفاقات مشتركة بين الطرفين لا تكون مقتصرة على النواحي الامنية والعسكرية فقط وانما حتى على النواحي السياسية والاقتصادية ايضا .

لماذا التواجد الامريكي في العراق

جغرافية تواجد القواعد الامريكية في العالم تكون احيانا وفق التوازنات الدولية للقوى العظمى ومناطق النفوذ التي تضبط تلك التوازنات , واحيانا اخرى تكون وفق مستوجبات المحافظة على مصالحها في بؤر التوترات في العالم وفي الاغلب تكون هذه المصالح اقتصادية , على هذا الاساس ستواجهنا الاسئلة التالية … ما اسباب التواجد الامريكي في العراق وضمن اي سياق هو , وما هي المصالح المتبادلة بين الطرفين , ولماذا تصر بعض الاطراف العراقية على خروج تلك القوات ؟

الوجود الامريكي في العراق كان لمصالح متبادلة بين الطرفين سواء في الالفين وثلاثة او في الالفين واربع عشر , رغم ان سقف المصالح العراقية لا يمكن مقارنتها بالمصالح الامريكية من حيث تباين حجم التاثير السياسي للطرفين على الصعيد الدولي , فالمصالح العراقية انحصرت في اسباب سياسية وامنية مؤقتة سواء ازاحة صدام حسين او تحرير الاراضي العراقية من الاحتلال الداعشي , بينما تجاوزت المصلحة الامريكية السقف السياسي والامني ليصل الى اسباب اقتصادية متعلقة بالثروة النفطية العراقية , وكذلك التوازنات الاقليمية والدولية المتعلقة بنفوذ ومصالح امريكا في المنطقة وحماية امن حلفائها .

الخطا الذي ارتكبته ادارة اوباما هو انها ركزت على الحفاظ على مصالح امريكا في النفط العراقي , هاملة الجانب السياسي والامني وتطوراته كتبعات لمغادرة القوات الامريكية من العراق . فاستغلت

ايران هذا الفراغ واستطاعت من خلال حلفائها في العراق ملئه بنفوذ امني وسياسي سيطرت من خلاله على العملية السياسية بشكل كامل في العراق , ومن خلال هذا النفوذ اكملت رسم الهلال الشيعي بين ايران وسوريا ولبنان من خلال العراق . وشهدنا تداعيات هذا الانسحاب الامريكي والتمدد الايراني محله فيما حصل بعد الثورة السورية من تغيرات سياسية وامنية في المنطقة , وما مثله تمدد النفوذ الايراني من تهديد مباشر على حلفاء واشنطن في المنطقة … اعتمادا على التطورات هذه فان ادارة ترامب التي رفضت الانسحاب الكلي من سوريا , لن تكرر تجربة الانسحاب من العراق مرة اخرى , وهذا ما يفسر الاصرار الامريكي لرفض الحديث عن اي انسحاب امريكي من العراق على الاقل في الوقت الحالي .

اضافة الى الاسباب السابقة فان بروز الدور الروسي في المنطقة ونجاح تجربته في سوريا امنيا وعسكريا وسياسيا , يجعل من العامل الروسي هو الرهان الافضل امام اي تهديد امني للحكومة العراقية مستقبلا اذا ما انسحبت القوات الامريكية هذه المرة , لذلك فمن الصعب بما كان على امريكا ان تترك العراق لاي نفوذ روسي مستقبلي .

وهناك عامل اقتصادي دولي مهم لا ينتبه اليه الساسة العراقيين الداعين للانسحاب الامريكي وهو خطوط الطاقة في المنطقة . فمغادرة امريكا للعراق سيقلل من الضغوط الامريكية على روسيا في موضوع خطوط الطاقة التي تمكنت روسيا من مدها عبر تركيا وبحر قزوين الى اوروبا , ويقضي على مخططاتها في مد خطوط طاقة لدول منتجة في المنطقة من خلال العراق وسوريا الى اوروبا , لذلك فبقاء النفوذ الامريكي في العراق وسوريا هو خيار امريكي ستراتيجي ستدافع عنها بكل السبل .

اما الاطراف العراقية الداعية لانهاء التواجد الامريكي فهي تحاول تحشيد الشارع العراقي ضد هذا التواجد بمبررات غاية في البعد عن المنطق السياسي واقرب ما تكون للسذاجة السياسية , بتخويف الشارع العراقي مما تسميه ب ( الاحتلال الامريكي) , مع ان استعمار الدول في القرن الواحد والعشرين تجاوز شكله القديم والذي كان يحصل باحتلال عسكري مباشر للدول . فيكفي ربط اي دولة بالاقتصاد الدولي وتكبيلها بالمسار العام للسياسة الدولية لتقع الدولة المعنية في فلك الدول الكبرى دون الحاجة الى تواجد جيوش جرارة , وهذا ما حصل مع العراق في الالفين واحد عشر , حيث حتى بعد الانسحاب الامريكي بقي التاثير الامريكي ماثلا اقتصاديا وسياسيا بشكل عام . اما تواجد قواعد امريكية في العراق حاليا فهي تتجاوز المصالح الامريكية في العراق لتصل الى المصالح الامريكية في المنطقة والتحديات التي تواجهها هذه المصالح , ومن بين تلك التحديات هي تطورات الملف الايراني وما تمثله من تهديد مباشر على تلك المصالح . وهذا تماما هو السبب الحقيقي من دعوة حلفاء ايران في العراق لانهاء التواجد الامريكي فيه .

من هذا المنطلق فان اصرار بعض القوى العراقية لاخراج القوات الامريكية من العراق لا يعني الشعب العراقي بقدر ما القضية مرتبطة بالمصالح الايرانية والتي تحاول الاطراف العراقية صبغها بصبغة عراقية , والا فما الضير من بقاء تلك القوات في الارض العراقية وفق اتفاق جديد او تغير في بعض بنود الاتفاقية السابقة للحصول على قدر اكبر من السيادة العراقية فيها . وكلنا نتذكر كيف ان الشارع في المانيا خرج معترضا على قرار امريكي باخلاء قاعدة امريكية على الارض الالمانية بسبب العوائد المالية التي كانت تدر على سكان تلك المنطقة .

السيد مقتدى الصدر .. لماذا تظاهرة وليس استفتاء ؟

دعى السيد مقتدى الصدر الى تظاهرة مليونية تندد بالوجود الامريكي في العراق وتعترض على الانتهاكات التي يقوم بها الجيش الامريكي حسب ما ذكر , ووجه حديثه لجمهوره قائلا : – ان حوزتكم تستصرخكم ..

اول ما يلفت الانتباه في رسالة السيد مقتدى تلك هو انها تتحدث عن تظاهرة (مليونية) , وتوجه الدعوة الى اتباع الحوزة لان يهبوا للتظاهر , ومثلما نعرف جميعا فان هناك حوزتين وليست حوزة واحدة , فعن اي حوزة يتحدث السيد مقتدى ؟ ان كان الحديث عن حوزة السيد السستاني فان دعوته هذه تضع السيد السستاني في حرج كبير , لان الاخير لم يبت باي موقف سلبي حيال الوجود الامريكي في العراق لا من قريب ولا من بعيد , وان كان يقصد حوزة الصدر فانه يثير جزئية ذات شجون عند الشارع الشيعي لا ينبغي اثارتها الان .

وسواء كان السيد مقتدى يقصد حوزته او حوزة السيد السستاني فهو يوجه كلامه للشارع الشيعي فقط , ويضعه وصيا على راي المكونين الباقيين الكوردي والسني , رغم ان المعروف عن السيد مقتدى انه حاول ان يظهر طوال السنين الماضية بمظهر الزعيم الوطني الذي ينبذ التوجهات المذهبية والقومية .

ان الطلب من مكون واحد ابداء رايه في شأن يهم كل المكونات هو احتكار للراي الاخر واستهانة به , ولا تشفع في رسالته وجود كلمة ( عراقكم) التي اتبعت كلمة ( حوزتكم) فهو خصص في الاول اتباع الحوزة ثم اتبعها بكلمة العراق بضمير التملك …

بغض النضر عن الاراء بخصوص الوجود الامريكي في العراق رفضا او قبولا , فان استباق السيد مقتدى الصدر وحكمه على عدم شرعية التواجد الامريكي قبل ابداء الحكومة العراقية لرايها بشكل واضح بشان ذلك , يعتبر عدم اعتراف منه بتلك الحكومة , رغم انه يمثل نسبة لا باس بها من تلك الحكومة بمؤسساتها الثلاثة …

الذي يؤخذ على السيد مقتدى انه دائم الجنوح لمعرفة راي الشارع من خلال التظاهرات والمسيرات , رغم ان التحشدات الشعبية المتمثلة بالتظاهرات والمسيرات لا يمكن اعتبارها تعبيرا دقيقا عن راي الشارع بقدر ما هو اظهار للتاييد الشعبي للطرف السياسي الداعي لتلك التحشدات . ولا ندري لماذا الاصرار على التظاهرات وهذه المظاهر الفوضوية وعدم اللجوء لمعرفة راي جميع المكونات من خلال الدعوة لاستفتاء شعبي لعموم العراق , فمن المعروف ان الاستفتاءات هي ممارسة منظمة معاصرة عكس التظاهر التي تعتبر ظاهرة فوضوية لا تعبر الا عن راي الاشخاص المشاركين فيها . وحتى اذا نجح الصدر في جمع مليون متظاهر ( وهذا امر اقرب للمستحيل) فيبقى اكثر من ثلاثين مليون عراقي لم يؤخذ رايهم في هذا الشان وبذلك لا يمكن اخذ شرعية الشارع من خلال هذه التظاهرة .

قد تفسر دعوة الصدر هذه محاولة منه لاسكات صوت التظاهرات التي مر عليها عدة اشهر ضد الحكومة العراقية . وقد تفسر ايضا بانها محاولة لحشد راي الشارع المعارض لامريكا فقط , بعد ان اصبح التحرك المسلح ضد القواعد الامريكية في العراق امرا ذات مخاطر عقب عملية اغتيال قاسم سليماني وابو مهدي المهندس , ولم يبق امام الفصائل المسلحة وايران الا اللجوء الى الوسائل المدنية للضغط على الطرف الامريكي واجباره على الانسحاب . وبالطبع فان الوسيلة المدنية الوحيدة التي تضمن لهم توجهاتهم هي اخراج مؤيديهم في تظاهرات , اما الاستفتاء فبالتاكيد لن تاتي بالنتائج المرجوة لايران وللاطراف العراقية المتحالفة معها , فالوقائع تشير الى ان الغضب الشعبي في العراق في الوقت الحالي منصب على التواجد الايراني والطرف العراقي المؤيد له اكثر ما هو منصب على التواجد الامريكي .

لا يمكن لمكون واحد فرض رؤيته على بقية المكونات ويدعو لابعاد او اقتراب العراق من طرف دولي دون اخر بمعزل عن المكونات الاخرى , وبما ان التظاهرة التي دعى اليها السيد مقتدى مقتصرة على مكون واحد فهي فاقدة للشرعية الشعبية مسبقا .

هل يمكن ان يعيش العراق بمعزل عن محيطه الدولي؟

منذ فجر التاريخ كان العراق مسرحا لصراعات القوى العظمى في العالم والتي كانت تتناوب في السيطرة عليه . والطرف الثابت في هذا الصراع على مر التاريخ كان الطرف الايراني , فايران صارعت كل الامبراطوريات القديمة على ارض العراق , واخرها كان صراعها مع الدولة العثمانية ( الصراع الصفوي العثماني) . لذلك فليس من الغريب وجود تنافس ايراني امريكي على هذه الدولة في الوقت الحالي , لكن هناك نقطة يجب توضيحها بهذا الصدد وهي : –

ما تطمح اليه ايران في هذه الحقبة تحقيقه في العراق هو سيطرة اقتصادية وسياسية مباشرة خدمة لطموحها العقائدي في المنطقة . اي ان ايران تتحرك بالضد من المفاهيم الحديثة لبسط النفوذ , خاصة في الجانب العقائدي . فكون ان ايران تتبنى وجهة نظر عقائدية تريد تصديرها في المنطقة من خلال جعل العراق قاعدة لما يليه , والوصول الى الهدف الاسمى وهو سيطرة عقائدية كاملة على كل دول المنطقة , فان هذه رؤية معقدة ومتشابكة , تقف بالضد من المفاهيم الحديثة لبسط النفوذ , تجعل من فكرة السيطرة الايرانية على العراق فكرة ( صعبة الهضم ) على اغلب المكونات العراقية . اضف الى ذلك ان النموذج الايراني الحالي من الناحية الثقافية ليس بالنموذج المشرق والامثل في العالم كي يحتذى به الشارع العراقي . في الجانب الاخر فان الوجود الامريكي في العراق لا يمس الجانب العقائدي لاي مكون عراقي , كذلك فان البعد الجغرافي مع امريكا لا يسمح بهيمنة امريكية مباشرة على العراق كما هو الحال بالنسبة للطموح الايراني , اضف الى ذلك تبني امريكا لثقافة هي اقرب للشارع العراقي مما هو عليه الحال مع ايران , والافق التي يمكن للعراق الاستفادة منها في اي تقارب مع امريكا من الجانبين الاقتصادي والثقافي والعلمي , يجعل من تقبل الشارع العراقي للتواجد الامريكي اسهل هضما من التواجد الايراني عسير الهضم .

يمكن تعريف اي تواصل امريكي عراقي بانه تفاهم او تقارب بينهما , بينما اي تقارب من ايران لن يكون له تسمية اخرى غير هيمنة ايرانية كاملة على العراق , على ذلك فان اي استفتاء شعبي على الوجود الايراني والامريكي في العراق سيكون لصالح الوجود الامريكي وبالضد من الوجود الايراني حتى عند المكون الشيعي العراقي ذاته .

ان المطالبة بخروج القوات الاجنبية تعني بشكل او باخر اخراج الامريكان فقط , بالمقابل اعطاء المجال امام النفوذ الايراني للتوسع من جديد في العراق خاصة وان المكون السياسي المسيطر على العملية السياسية العراقية هي الاطراف المرتبطة بشكل او باخر بايران , والتي ستفتح الباب على مصراعيه للنفوذ الايراني بمجرد زوال العامل الامريكي من العراق . لذلك فان الوجود الامريكي هو اخف الضررين في خضم المعادلات السياسية الموجودة حاليا , توازن الوجود الايراني التلقائي في العراق . وان ارادت الاطراف السياسية بالفعل ابعاد العراق عن اي صراعات دولية واقليمية فعليها بدلا من التفكير في كيفية اخراج القوات الامريكية في العراق العمل وفق النقاط التالية : –

-الابقاء على القواعد الامريكية في العراق طالما ان هناك تاثير ايراني متمثل بجود مليشيات مقربة من ايران .

-بدلا من الدعوة الى اخراج القوات الامريكية , ينبغي التفكير في كيفية ترسيخ التوازن بين النفوذين الايراني والامريكي في العراق ومحاولة استثمار الصراع بين الطرفين بما يصب في الصالح العراقي العام من خلال التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية .

-يستطيع العراق تمثيل ذات الدور الذي يقوم به دول اخرى في المنطقة ونجاحها في ابعاد نفسها عن كل الصراعات في المنطقة والتحول الى ملتقى لمصالح تلك الدول خاصة وان المكونات العراقية مشتتة بين الاطراف هذه من الممكن استثمار هذا التشتت لهذا الهدف ان نظم وفق اهداف وطنية .