تمهيد
قبل الدخول في هذا الموضوع لا بد من الإشارة الى أن المباحث التأريخية لا تقل صعوبة عن بقية العلوم البحتة، وربما تكون أحيانا أكثر صعوبة في حال عدم توفر المعلومات الكافية لموضوع البحث وتباينها وتضاربها بدرجة كبيرة مما يتطلب التأني والدقة والتحليل الهادئ والاستقصاء العلمي البعيد عن الأهواء الشخصية، والميول الدينية والقومية والمذهبية، والأهم من ذلك، عدم اعتبار رواية أي من الرواة والمؤرخين أمر مُسلم به، بغض النظر عن أهمية ومركز الراوي ودرجة الثقة التي تميزه عن غيره. مع العلم ان معظم الرواة الذين سطروا لنا الأحداث التأريخية، كان للعوامل الداخلية كالدين والمذهب والعنصر والقومية والعشائرية والأهواء الشخصية أثرا كبيرا على رواياتهم، علاوة على العوامل الخارجية مثل التقرب من الحكام والحصول على المزايا والمناصب العالية والحوافز المادية بالإضافة الى الخيانة التي تتجسد عبر التعاون من الأعداء او ما يسمى بالتجنيد لقوى خارجية، أي خيانة الأمة لسبب ما قد يكون ماديا، او دينيا، او مذهبيا، او قوميا.
كما أن سند الرواية وما يسمى بالجرح والتعديل عامل مهم لمعرفة الرجال الذي ذكروا الرواية وتناقلوها من فم لفم، فأحيانا قد يزيدوا عن العشرة رجال، مما يتطلب التحري عنهم بدقة ومعرفة ميولهم ونزاهتهم ومدى تقربهم من الحكام. وهناك إشكال آخر يتعلق بالمخطوطات التأريخية، فأحيانا قد يكون الراوي نزيها لكن الناسخ غير نزيه، لاحظنا مثلا أن بعض الناسخين يزيد من تكريم وتبجيل أئمة الشيعة في حين لا يترحم أو يترضى عن بقية الصحابة بما فيهم الخلفاء الراشدين الثلاثة، وهنا يكون الناسخ قد تلاعب عن قصد مبيت في النسخ، فأساء للراوي إساءة بالغة ونقل لنا صورة غير حقيقية متلاعب بها، وغالبا ما تلاحظ مثل هذه الإساءات عند الناسخين، بل أن البعض منهم يغير من الأحداث فيحذف ما لا يتوافق مع أهوائه، ويضيف ما يراه متوافقا معها. وهذه الحالة موجودة حاليا عند بعض مراجع الشيعة، حيث يدلسوا في نقل الروايات، وقد أشرنا اليها في كتابنا (اغتيال العقل الشيعي)، مع الأخذ بنظر الاعتبار تشويه الحقائق من قبل دور النشر، وهذا ما لاحظناه في الطبعات الإيرانية للكتب الصادرة في العراق مثل الثورة العراقية الكبرى لعبد الرزاق الحسني وغيرها. بل حتى كتب التأريخ التي تعتبر موثوقة فأن فيها ثغرات كبيرة تستوجب توخي الحذر، وتتطلب الاستزادة من المصادر وتنوعها والتحليل العلمي والاعتماد على المنطق والاستقراء للتميز بين المعقول واللامعقول، وعزل اللامعقول، بين الذي يتوافق مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والذي لا يتوافق معهما، أي الذي يتقبله العقل والمنطق السليم والذي يرفضه، لذا قال الشاعر الكبير معروف الرصافي:
ما كتب التأريخ في كل ما روت … لقرائها إلا حديث ملــــــــفق
نظرنا لأمـــر الحاضرين فرابنا … فكيف لأمر الغابريـن نصدق
نصح العلامة إبن خلدون الباحث في التأريخ بأنه” يحتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيانبصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المهزلات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوفعلى طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد“. (تأريخ إبن خلدون1/13).
على سبيل المثال لو نظرنا في كتابات الجاحظ، وهو من شيوخ المعتزلة الذين يعادون بني أمية وقد أسس فرقة حملت اسمه(الجاحظية) سرعان ما فشلت وانتهت بموته، تجد في رسائله(رسائل الجاحظ) رسالته المسماة (تفضيل بني هاشم) التي لم يقتصر فيها على إتهام الخلفاء الأمويين بالفسوق والمجون واللهو،بل بالغ إلى حد تكفيرهم! للمزيد راجع تكفيره لمعاوية ويزيد وزياد وابنه عبيد الله ( رسائل الجاحظ 2/12). وكرر ما قاله المؤرخ الشيعي المسعودي عن عمر بن عبد العزيز بأنه أعور بين عميان، قال ابن خلدون” قد حكاه المسعوديّ مثله في أحوال بني أميّة عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أميّة فقال: أمّا عبد الملك فكان جبّارا لا يبالي بما صنع، وأمّا سليمان فكان همّه بطنه وفرجه، وأمّا عمر فكان أعور بين عميان، وكانرجل القوم هشام”.(تأريخ ابن خلدون/258). ومثل هذا المؤرخ لا يعتد برسائله طالما تبع اهوائه، ويمكن الاخذ برواياته البعيدة عن سير الخفاء، أي الأدبية ذات الطرف والقصص الجميلة.
لذا نجزم ان الجاحظ لم يكن أمينا في تدوين تأريخ الأمويين البتة. ويمكن تلخيص السبب الرئيس في موقفه هذا علاوة على الخلاف المذهبي، العطايا الكثيرة والمكانة العالية التي منحها العباسيون له. وينطبق على الجاحظ قول عبد الرحمن بن مهدي بصاحب الهوى” ثلاثة لا يحمل عنهم، الرجل المتهم بالكذب، والرجل كثير الوهم والخلط، ورجل صاحب هوى يدعو إلى بدعته”. (العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل2/214). وهذا ما يقال عن المسعودي الذي ملأ كتابه بطعن بني أمية والكثير من الخرافات، قال ابن خلدون” وقد تعرّض المسعوديّ للبحث عن السّبب في خفّة السّودان وطيشهم وكثرة الطّرب فيهم وحاول تعليله فلم يأت بشيء أكثر من أنّه نقل عن جالينوس ويعقوب بن إسحاق الكنديّ أنّ ذلك لضعف أدمغتهم وما نشأ عنه من ضعف عقولهم وهذا كلام لا محصّل له ولا برهان فيه”. (تأريخ ابن خلدون/109). قال المغربي” حكى المسعودي أن فيها شجراً يخرج منه نبات كالابرنج ويولد منه جوار يتعلقن بشعورهن، وتصيح الواحدة منهن واق واق، فإن قطعن شعورهن وفصلن من الشجرة مُتن“. (كتاب الجغرافيا للمغربي/6).
من الكتاب الجدد د. علي سامي النشار مؤلف (شهداء الإسلام في عصر النبوة) و (نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام) فهو يماشي الشعوبيين في نظرتهم للخلافة الأموية ويطعن في كاتب الوحي أمير المؤمنين معاوية بقوله” مهما قيل في معاوية، ومهما حاول علماء المذهب السلفي المتأخر، وبعض أهل السنة من وضعه في نسق صحابة رسول الله، فإن الرجل لم يؤمن أبداً بالإسلام، ولقد كان يطلق نفثاته على الإسلام كثيراً، ولكنه لم يستطع أكثر من هذا”. (نشأة الفكر الفلسفي 2/19). ولم يلبث أن استلم أبو سفيان بشتيمته كأنه سبق أن عاشره أو رافقه في سفر أو جادله في أمر، بقوله” لقد كان أبو سفيان زنديقاً أي ممن يؤمنون بالمجوسية الفارسية”. (نشأة الفكر الفلسفي 2/31). متجاهلا إن النبي (صلى الله عليه وسلم) عينه عاملا على نجران. وكذلك مواقفه البطولية في معركة اليرموك حيث شارك فيها وهو شيخ كبير السن متطوعا مع ابنيه يزيد ومعاوية وكان له أثرا كبيرا في نصرة المسلمين في اليرموك. (للمزيد رجع كتابنا اغتيال العقل الشيعي). هذا عن كبار الكتاب فما بالك بمن هم بدرجة أدنى! بالطبع النجار انطلق في رأيه الشعوبي هذا من كراهية الفرس لأبي سفيان، الكثير لا يعرف ان أبي سفيان كان مبعوثا من النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى كسرى الفرس وهذا دلالة على أهمية، فهو صاحب البيت الآمن، من دخله لا خوف عليه، فقد كان سيد قريش.
قال ابن خلدون “ في آخر سنة ست من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام، ونصّه على ما وقع في صحيح البخاري” بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين. ((ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ به شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً من دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) 3/ 64 . فلمّا بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش وسألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا إلى أبي سفيان بن حرب، فقال لهم: إنّي سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله. ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو ينزه عنها، وكان هرقل عارفا بذلك، فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك“. (تأريخ ابن خلدون2/276). فهل يعتبر ان النبي (صلى الله عليه وسلم) اخطأ في اختيار أبي سفيان؟
عندما يخوض الكاتب في غير اختصاصه غالبا ما يقع في إخطاء، وهذا ما يمكن تشخيصه حتى عند كبار الرواة، على سبيل المثال قال إبن خلدون وهو مؤسس علم الاجتماع بلا جدل، كما إنه حجة في التأريخ ” للأستاذ أبي الحسن عليّ بن هلال الكاتب البغداديّ الشّهير بابن البوّاب قصيدة من بحر البسيط على رويّ الرّاء يذكر فيها صناعة الخطّ وقواعدها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفعبها من يريد تعلّم هذه الصّناعة، وأوّلها:
يا من يريد إجادة التّحرير ويروم حسن الخطّ والتّصوير
إن كان عزمك في الكتابة صادقا فارغب إلى مولاك في التّيسير
أعدد من الأقلام كلّ مثقّف صلب يصوغ صناعة التحبير
وإذا عمدت لبرية فتوخّه عند القياس بأوسط التّقدير
انظر إلى طرفيه فاجعل بريه من جانب التّدقيق والتّحضير
واجعل لجلفته قواما عادلا خلوا عن التّطويل والتّقصير
والشّق وسطه ليبقى بريه من جانبيه مشاكل التقدير
حتّى إذا أيقنت ذلك كله فالقطّ فيه جملة التدبير
(تأريخ ابن خلدون/530). وهذ بالتأكيد من روائع الشعر، والقصيدة من بحر الكامل وليس من بحر البسيط حسبما تصور إبن خلدون. لأن التأريخ وعلم الاجتماع هو اختصاصه وليس الأدب فلا ملامة عليه، بل عتب قليل. وهذا ما يمكن قوله على الكتاب المحدثين ومنهم طه حسين، الذي كتب ( الفتنة الكبرى) بجزئين، وجاء كتابه فتنة كبرى لأنه اعتمد على الروايات الشيعية، وعلى تسعة مصادر في كتابه فقط! والأغرب منها إن ستة منها شيعية من بينها بحار الأنوار للمجلسي. ضاربا بمنهج الجرح والتعديل عرض الحائط، على العكس مما ذكره في مقدمة كتابه حول التضارب والتعارض في الروايات التأريخية وضرورة تمحيصها من قبل الكاتب. وكتابه الفتنة الكبرى هو قصة أقرب منه إلى بحث تأريخي يفتقر الى النظرة العلمية، وربما لأنه تعلم على أيدي المستشرقين في فرنسا والتزم بمنهج بعضهم التحريفي ضد المسلمين والإساءة اليهم.
إن السند في الرواية مهم جدا، وعلم الجرح والتعديل من أهم العلوم في الدين والتأريخ، وهو الفيصل الحاسم في قبول الرواية أو رفضها، لابد من معرفة مصدر الرواية؟ وممن استقاها المؤرخ؟ وماهي مصداقية الراوي؟ وما هي ظروف الحادثة وظروف الراوي نفسه؟ وهل هناك مجاهيل في السند او غير أمينيين على نقل الحقائق؟ وهل هناك إدله قطعية على صحة الرواية؟ وما هو رأي بقية الرواة بنفس الحادثة؟ عند الإلمام بكل ذلك، يمكن عند ذاك الحكم على صحة الرواية من بطلانها. ومن الجدير بالإشارة أن أحاديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم) تعرضت للتحريف والزيادة والنقصان فما بالك ببقية الروايات التأريخية، ويمكن الجزم ان الدين الشيعي هو الأكثر تعرضا للتشويه وتزييف الحقائق، سيما ان معظم رواته من الفرس الغلاة والشعوبيين؟
من أشهر وضاع الحديث في العهد الأموي والعباسي وما بعده ابن أبي يحي ومقاتل بن سليمان ومحمد بن سعيد وابن الخطاب، وعبد الكريم ابن أبي العوجاء الذي اعترف لما أمر محمد بن سليمان بقتله في أوائل عصر الدولة العباسية سنة 153هـ بأنه وضع (4000) حديثا، حلل فيه الحرام وحرم فيه الحلال. علاوة على ذلك هناك العديد من الكتاب الشعوبيين الذين تفانوا في جهودهم لتشويه صورة الإسلام والعرب مثل يحي بن عدي، وابن البطريق، والكلبي، ويوحنا النقيوسي، والمئات غيرهم، مما يتطلب الحذر من رواياتهم. يضاف الى ذلك الأخذ بنظر الاعتبار مسألة النسخ وهو لا يتعلق بالقرآن الكريم فحسب، بل الأحاديث النبوية الشريفة أيضا، وهذا ما يفوت البعص من الكتاب. قال ابن خلدون” معرفة النّاسخ والمنسوخ من أهمّ علوم الحديث وأصعبها. قال الزّهريّ: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منسوخه”. (تأريخ ابن خلدون/557)
علاوة على ذلك كتابات المستشرقين، وهم صنفان:
أولهما: صنف قدم خدمة كبيرة للذاكرة العربية من خلال الكشف عن الكتب القديمة وتحقيقها ونقدها وفهرستها ونشرها في المطابع الأوربية والعربية، غاياتهم الكشف العلمي والفائدة العامة، ومنهم من اكتشف اللغات القديمة، فقدم خدمة جليلة للفكر الإنساني.
ثانيهما: صنف اهتم بالعلوم العربية بدفع من المخابرات الأجنبية (كالرحالة والمبعوثين وعلماء الآثار) سيما قبل فترة الاستعمار الحديث، للتعرف على تأريخ الشعوب التي ستصبح مستعمرات لاحقا بما فيها أخلاق تلك الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم وعشائرهم غيرها من المعارف. ويدخل ضمن هذا الإطار جهود بعض الحاقدين على العرب والإسلام من المتعصبين للديانتين اليهودية والمسيحية، وهؤلاء يمكن اعتبارهم امتدادا طبيعيا للشعوبيين الذين انتموا للإسلام ليس عن قناعة، بل لنخر جدرانه من الداخل، وقد نجح البعض منهم، مع ملاحظة ان جميع الفرق الشعوبية من الفرس.
فقد كان لهم الدور الأخطر في هذا المضمار، وهذا لا يعني الفرس عموما، فالكثير من العلماء المسلمين يرجعون لأصول فارسية، لكنها الحقيقة التي تثبتها الشواهد التأريخية. في الوقت الذي لا يترحم ولا يترضى الرواة الشيعة العرب على كبار الصحابة. لاحظ ما يقول الراوي الفارسي ناصر خسرو عن القدس” فيها وَادي جَهَنَّم، وَقد سَأَلت عَمَّن أطلق هَذَا اللقب عَلَيْهِ فَقيل أَن عمر رَضِي الله عَنهُ أنزل جَيْشه أَيَّام خِلَافَته فِي سهل الساهرة هَذَا فَلَمَّا رأى الْوَادي قَالَ هَذَا وَادي جَهَنَّم، وَيَقُول الْعَوام إِن من يذهب إِلَى نهايته يسمع صياح أهل جَهَنَّم، فَإِن الصدى يرْتَفع من هُنَاكَ وَقد ذهبت فَلم أسمع شَيْئا“. (السفرنامة/57).
تذكر لنا كتب التاريخ أن يزدجر كسرى الفرس قال في مؤتمره الذي عقده في نهاوند، قولته الشهيرة ” اشغلوا عمر بن الخطاب في بلاده وعقر داره”. وكانت هذه الخطة التي قد ابتدعها كسرى الفرس تمثل نواة الفكر الشعوبي، وقد سار عليها أحفاده من بعده، ما تزال نافذة المفعول حتى الوقت الحاضر. قال ابن خلدون ” كتب به عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه الى حرب فارس: انك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والحيرة، تقدم على أقوام قد جرءوا على الشرّ فعلموه وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون”. (تأريخ ابن خلدون2/406). لا شك ان الشعوبية مصدرها الضعف والوهن والحقد الأعمى وعدم القدرة على مواجهة الخصم وجها لوجه، لذلك فهي تعتمد على المخادعة والرياء والدجل والتكتيك الطويل الأجل، علاوة على عقيدة التقية وهي أنواع فصلها محمد صادق روحاني” التقية الخوفية، والتقية الإكراهية، والتقية الكتمانية، والتقية المداراتية“. (رسالة في التقية/148 ضمن كتاب الأمر بالعروف والنهي عن المنكر).
ما أن تتعزز قوى الشعوبية وتتاح لها الفرصة المناسبة حتى تسفر عن وجهها القبيح البشع وأهدافها الحقيقية، وهذا ما أشار إليهمحمد بن حبان بقوله” كان عمرو بن معد يكرب مع المسلمين في القادسية فجعل يحرض الناس على القتال ويقول: يا معشر المسلمين! كونوا أسودا، إن الفارسي تيس“.( السيرة النبوية2/ 469).
يُلاحظ أنه مهما كانت المناصب التي يحتلها الشعوبيين في دار الإسلام فأن جانبهم لا يؤتمن البتة، حيث تبقى نزعة الحقد متجذرة في أعماقهم المظلمة، وهناك الكثير من الشواهد التأريخية التي تدعم رأينا هذا، علاوة على شواهد الحاضر. مثلا في أوج عظمة البرامكة ونفوذهم خلال العصر العباسي الأول، لما همٌ الخليفة أبو جعفر المنصور بهدم إيوان كسرى، استشار خالد بن برمك في الفكرة، فنصحه بعدم الهدم. عندئذ قال له المنصور: أبيت إلى ميلا ً إلى العجمية! ومن ذلك أن يحيى بن خالدالبرمكي لما حج مع الرشيد الى بيت الله، أشار عليه بإضاءةالكعبة بالنار، ولكن الرشيد فطن إلى هذه البدعة، التي تكشفعن حنين البرامكة إلى عبادة النار. وظل الشاعر الأصمعي يتقرب إلى البرامكة، ويمدحهم عن حق وعن باطل، فلما نكبوا قال فيهم :
إذا ذكر الشرك في مجلـس… أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليـت عندهم آيــة أتوا .. بالأحاديث عن مــــــزدك
ما هي الشعوبية؟
الحركات الشعوبية هي حركات معادية للإسلام، ويدخل ضمنها الطعن في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة وسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأزواجه واصحابه، وكل ما يسيء للإسلام وقيمه العليا ويشوه الرموز الإسلامية وينسب لهم أحاديثا كاذبة، ويلفق لهم تهما باطلة. فالشعوبية تسيء الى العرب وتأريخهم عموما وتنسب لهم المثالب. لذا فهي بكلمة مختصرة معاداة الإسلام والعروبة معا. وهذ الأمر شاذ ففي كل الأديان يحترم الاتباع بل يقدسون حواري انبيائهم وصحبهم، ما عدا الدين الشيعي فهو يكفر جميع صحابة الرسول الأعظم الا ثلاثة، بمعنى ان الأئمة انفسهم وابنائهم واحفادهم، وآل بيت رسول الله جميعهم مرتدين وفق هذه النظرة الفارسية الضيقة.
بلا شك أن كراهية العرب تعني كراهية لغتهم وقيمهم وثقافتهم ومعارفهم وتأريخهم وكل ما يمتٌ لهم بصلة، في الوقت الذي كرم الله تعالى العرب بلغتهم العربية، فقد جاء في سورة النحل/103 ((وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)). وفي سورة الشعراء/192ـ 195((وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)). وفي سورة يوسف/2 ((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)). وغيرها من الآيات الكريمة. قال إبن كثير” ذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات، وأبينها، وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات”. (تفسير ابن كثير2/467). وذكر البيهقي “روى عبد الله بن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: أحبوا العرب فإني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي.وقال عليه السلام: من أحب العرب فيحبني أحبهم، ومن أبغضهم فيبغضني أبغضهم. وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله أنه إذا زالت العرب زال الإسلام. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: العرب نور الله في الأرض، فإذا ذهبت العرب أظلمت الأرض، وذهب ذلك النور“. (لباب الأنساب والألقاب والأعقاب/13). وذكر القاضي أبو يوسف” قال عمر بن الخطاب في وصية لخليفته: اوصيه بالأعراب فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام” (كتاب الخراج/ 14). وهذا رأي كتاب الغرب أيضا، فقد ذكر السيد ميكاليس” استمد العرب القدامى مجدهم من ثلاثة أشياء هي: لغتهم وسيوفهم وضيافتهم“. (مجموعة أسئلة حول الجزيرة العربية/ ترجمة عبير المنذر).