18 ديسمبر، 2024 11:59 م

التهامي : حكمُ المنيّةِ في البريّة جارِ

التهامي : حكمُ المنيّةِ في البريّة جارِ

حياته شعره تحليلاً ونقدا
حكم المنية في البرية جـــارِ **** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً * حتى يُرى خبراً من الأخبار
طُبعتْ على كدرٍ وأنت تريدها ** صفواً من الأقذاء والأكدار
ومُكلّفُ الأيّام ضــد طباعـــها ** مُتطلبٌ في الماء جذوة نار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنّــــما ****أعماركم سفرٌ من الأسفار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما * خُلُقُ الزمان عداوة الأحرارِ

لاريب لحظات استلهام هذه القصيدة الفريدة الرائعة، هي لحظات قفز فيها الفكر الإنساني بدافع الغريزة الأبوية الهائلة إلى مساحة السر الخفي لتكوين الشبكات الترابطية اللانهائية النوعية والفردية، وكيفية إبداع تشكّلها، وأنّى يحين تكسّرها لاستمرار ديمومتها، وكل الأحكام تجري بأسرع من رمشات العيون (بينا يرى … حتى يرى !!)، ولا يهمها قول القائلين قد طبعت أو طبّعت على كدر أو صفو من الأقذاء والأكدار، أو الأقدار والأقذارِ، لك أن تقول ما تشاء، وقد أجبرتك أن تطاوعها مرغماً حتف أنفك !!!:

ومُكلّفُ الأيّام ضــد طباعـــها ** مُتطلبٌ في الماء جذوة نارِ

يا صاحبي أنت الشاعر، وإن أقرّ معك أنّ الزمان ليس بمسالم، ولكن يؤسفني – رغم محنتك المريرة – أن أسايرك أنه عدواة الأحرار، بل أنا مع المتنبي العظيم (توفي 354 هـ / 965 م):
أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا **** فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
ومن قبله بأربعة قرون قال الفتى العربيد طرفة بن العبد (توفي 569م) :

أرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بمالِهِ *** كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَة ِ مُفسِدِ

الزمان ليس بعدوٍ للأحرار الثائرين المقتحمين، وليس بصديقٍ للعبيد الخامدين الخانعين، ربما هو أقرب إلى أولئك من هؤلاء، وإليك المتنبي اللجوج مرّة ثانية
:
وقد يترك النفس التي لا تهابه *** ويخترم النفس التي تتهـيب

ولعل شيخنا الحكيم الجاهلي المعلم زهير بن أبي سلمى، كان أصدق تعبيراً لواقع الحياة، ومسيرة الأيام، إذ تدور كما تشاء، وتخبط خبطة عشواء دون درايةٍ ولا هدىً، ولكن الناس يلعنون الزمان والأيام والدهر والحظ والقدر، لأنهم عاجزون قاصرون، والله غالب على أمره وأمرهم
!!:
رأيت المنايا خَبْطَ عشواء مَـنْ تُصِـب ****تُمِتْـهُ ومــن تخـطـئ يُعَـمَّـرْ فيـهـرَمِ

أعرفك الآن بصاحبي الشاعر،هو: التهامي (أبو الحسن علي بن محمد بن فهد) شاعر عصره المشهور، وإن يعد من أصحاب شعراء الواحدة، لشهرة قصيدته التي نحن بصددها، ولكنه صاحب ديوان صغير مطبوع عام 1813 في الاسكندرية . (1)
” نشأ أبو الحسن التهامي في تهامة المخلاف السليماني (جازان) كان في بداية حياته كما يقول الباخرزي في (دمية قصره): من السوقة، وُلِّي خطابة الرملة، ثم انقطع إلى بني الجراح حكام المخلاف آنذاكـ يمتدحهم، ويستضيء بهم ويقتدحهم، وكانت له همة في معالي الأمور تسول له رئاسة الجمهور، فقصد مصر واستدل على أموالها، وملك أزمة أعمالها،انتحل مذهب الاعتزال، وسكن الشام مدة، ثم قصد العراق والتقى الصاحب ابن عباد، وعاد فتقلد الخطابة بجامع الرملة، واتصل بالوزير المغربي فكان من أعوانه في ثورته على الحاكم الفاطمي، ” (2)

عصره كان عصراً مضطرباً متعدد الأهواء والميول والأعراق والأقوام، ربما أدرك المتنبي (توفي 354 هـ / 965 م) وهو طفل صغير، ولكنه عاصر الشطر الأكبر من حياة المعري من ولادة المعري (363 هـ / 973 م) حتى مقتل التهامي نفسه في (416هـ / 1025 م)، و المعري (توفي 449 هـ / 1057 م) كان قد سمع بقصيدة رثائه لولده – موضوع حديثنا – فأعجب بها،وكلما وَرَدَ عليه أديب استنشده إياها، ولما جاء التهامي إليه، ولم يكن يدري بقدومه، وألقى فصيدته أمامه، ولما أتمها، قال له أبو العلاء: أحسنت ولأنت صاحبها التهامي؟ قال: نعم .
ولما خرج التهامي، سُئل المعري، كيف عرفته؟!!
قال: سمعت منه القصيدة سماعاً يدل على أنه صاحبها بخلاف سماعي أياها من غيره. (3(

الحق لم تذكر كتب تاريخ الأدب العربي سنة تولّده، المهم عاصر الدولة العباسية، والخلفاء في أضعف وأفقر حالاتهم، بغداد يسيطر عليها البويهيون، وقد التقى بوزيرهم الصاحب بن عباد، وكانت الموصل وديار بكر وحلب تحت حكم الحمدانيين، ومصر يهيمن عليها الفاطميون، وكان الحاكم بأمر الله في عزّ حكمه (توفي 411 هـ / 1021 م)، ولا أعرف كيف تورط شاعرنا معهم، ودخل معمعة وزيرهم المغربي !!
الرجل كان كثير الحركة بهمة عالية، فتطلع للزعامة والرئاسة حتى وقع فريسة لهذا الاندفاع في عصر قلق (الطايح فيه رايح)، و(مجالس الفردة) تلخص الأمور فائلة: ” كان التهامي نِضْوَ سفر وحليف رحلة، تنقل من مكة إلى دمشق، ثم إلى طرابلس ثم بغداد، فالرِّي، فالرملة، فالموصل، فآمد، فميّا فارقين، فحلب، فالأنبار، حتى أنتهت به الرحلة في القاهرة، تلك التي خُتمت بها رحلته في الدنيا حيث لقي نهايته سجيناً في خزانة البنود في القاهرة في التاسع من جماد الأولى سنة 416هـ “(4)
ويتمها الباخرزي فائلاً:” وقصد مصر واستولى على أموالها، وملك أزمة أعمالها، ثم غدر به بعض أصحابه فصار ذلك سبباً للظفر به، وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي حتى مضى لسبيله . (5)، وذكرنا سنة مقتله .
وعن (الموسوعة الحرة): وفي (نضرة الإغريض) نوادر من أخباره، منها أن حسان الطائي أقطعه حماة لقصيدة قالها في مدحه. ولم يثبت ابن خلكان قصيدته المشهورة، لأنها كما قال من القصائد المحدودة. قلت: والقصائد المحودة هي التي تصيب حافظها بالسبب الذي كتبت لأجله.أهمله التاريخ ولم يكتب عنه كثيرا . (6)
ولكن ما هكذا جاء في (وفيات) ابن خلكان، الخبر غير دقيق، ليس هو الذي قال، وإنما ذكر الناس تقول….. !!، ثم صاحب (الوفيات)، نقل العديد من أبياتها مقارناً، محللاً، أنقل بعض ما دوّن ابن خلكان: أبو الحسن علي بن محمد التهامي الشاعر المشهور؛ قال ابن بسام الأندلسي في كتاب ” الذخيرة ” في حقه: كان مشتهر الإحسان، ذرب اللسان، مخلى بينه وبين ضروب البيان، يدل شعره على فوز القدح .
وله ديوان شعر صغير أكثره نخب. ومن لطيف نظمه قوله من جملة قصيدة طويلة مدح بها الوزير أبا القاسم ابن المغربي وله في المديح وقد بالغ فيه .
وله مرثية في ولده، وكان قد مات صغيراً، وهي في غاية الحسن ولم يمنعني من الإتيان بها إلا أن الناس يقولون: إنها محدودة، فتركتها، لكن من جملتها بيتان في الحساد ومعناهما غريب:

إني لأرحم حاسدي لحر ما *** ضمت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيـــونهم** في جنة ، وقلوبهم في نـــار

ومنها:

وتلهب الأحشاء شيب مفرقي *** هذا الشعاع شواظ تلك النار

ومعنى هذا البيت مأخوذ من قول أبي نصر سعيد بن الشاه، وهو:

قالت اسود عارضاك بشعرٍ*** وبه تقبح الوجوه الحسان
قلت أشعلت في فؤادي ناراً *** فعلـــى وجنتي منه دخان

والتهامي هذه النسبة إلى تهامة، وهي تنطلق على مكة، حرسها الله تعالى، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تهامي لأنه منها، وتنطلق أيضاً على جبال تهامة وبلادها، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن، ولا أعلم هل نسبة هذا الشاعر إلى مكة أم إليها، والله أعلم (7)
والحق يختلف الباحثون حول مكان ولادته، ناهيك عن مكان نشأته وترعرعه، ولكن من ختام ما نقلناه عن ابن خلكان، نستطيع أن نتفهم إشارة الشاعر إلى مكة، بل وزعمه أنّه منها في أحلك أيام سجنه:

أهذا التهامي من مكة *** برجليه يسعى إلى حتفه
وقوله الآخر:

على أهل مكة مني السلام *** ومن يصفيني الود أو أصفه

ويكاد يجمع من أرخ له كاالباخرزي في (دمية قصره …): ” كان له ولد واحد هو الحسن، وقد توفي صغيراً في مدينة الرملة ” (8)، وابن كثيرفي (بدايته ونهايته): ” وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا ” (9(.
هذه عبارة غامضة، نسبية، كم كان عمرهذا الصغير ؟!!، وما مدى تأثيره على نفس أبيه الذي رثاه بثلاث قصائد، إحداها ملأت الدنيا، وشغلت الناس، واستأثرت على قصائد رثاء عديدة لشعراء عمالقة، وفي الثانية كنّاه أبا الفضل:

أبا الفضل طال الليل أم خانني صبري *** فخُـيـل لــي أن الكـواكـب لا تـســري

يذكر الباخرزي قائلاً: ” وكنت نقلت في صباي قصيدة له يرثي بها ابنه أبا الفضل من خط الحاكم أبي حفص عمر بن علي المطوعي رحمهم الله. وحفظتها وراء ظهري، وعددتها من ذخائر دهري” (10) .
المرحوم أبو الفضل وحيد شاعرنا التهامي، على ما يبدو لي، لم يكن صغيراً عند موته !! وإنما فتى أو في مرحلة مراهقته الشبابية، تأمل قوله:

إني وترتُ بصارم ذي رونقٍ ****أعــددتهُ لـطِــلابةِ الأوتـارِ
زَرِدً فأحكم كل موُصِلِ حَلْقَةٍ *** بحُبَابَـةٍ في مـوضِع المسمارِ
لو كنت تمنعُ خاض دونك فتيةٌ *** منا بحور عـواملٍ وشـفـارِ
فَدَحَوا فويق الأرضِ أرْضاً مِنْ دَمٍ * ثم انثنوا فبنوا سماء غُبَــارِ

إذاً شاعرنا قد وتر بصارمٍ، والصارم قادر على دخول الحروب والقتال، والكرّ والفر، فهو فتى الفتيان، الذي أعدّه لأخذ ثاره، وكان الشاب حسن المظهر، أنيقاً، يسرّ الناظرات، يلبس الدرع، ويحبك حلقاته تأهباً لمنازلة الأعداء، ولكي لا تنفذ السهام إليه، وهذا المكنى بأبي الفضل، كان محاطاً بفتية من أصدقائه وخاصته في الموقف الصعب مستعدين بشجاعة وفروسية أن يفتدوه بأنفسهم …فذلكة الكلام هذه القصيدة البالغة الروعة، وأردغها بقصيدتين أُخريتين، ما كانت في حق طفل صغير، كما يروي مؤرخو الأدب أحدهم عن الآخر دون تحليل وتأمل، لذلك قد نوّهت في بداية مقالتي، أن التهامي قد أدرك المتنبي، وهو صغير !!!
المهم إليك القصيدة الفريدة التي تعدّ من أروع قصائد الرثاء العربي، كما تلذذت بها، وتعبت في تدوينها، والله الغالب على أمره:

1 – حُكــمُ المَنِيَّة في البَرية جارِ***** مــا هــذه الدنـيـا بدارِ قرارِ
2 – بينا يُرى الإنسان فيها مُخْبِراً**** حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
3 – طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها **** صَفْـواً من الأقذاء والأكدارِ
4 – ومكلِّفُ الأيام ضـد طباعها ***** مُتًطلِّب فـي الماء جذوة نارِ
5 – وإذا رجوت المستحيل فإنما **** تبني الرجاء على شفيـر هارِ
6 – فالعيش نوم والمنية يقظة ***** والـمـرء بينهـما خـيال سـارِ
7 – والنفس عن رضيت بذلك أو أبت ***** مـنقـادة بأزمة الأقـدارِ
8 – فاقضــــوا مآربكم عِجالاً إنمـــا ***أعمـاركم سفرٌ مـن الأسفـارِ
9 – وتراكضوا خيل الشباب وبادروا****أن تســترد فإنهــن عـوارِ
10 – فالدهر يخدعُ بالمنى ويغص إن ** هَـنّـا ويهدم ما بنى بـبـوارِ
11-ليـس الزمان وإن حَرصتَ مسالماً * خُلُقُ الزمان عدواةُ الأحرارِ
12 – أني وترتُ بصارم ذي رونــقٍ *** أعــددتهُ لـطِــلابةِ الأوتـارِ
13 – زَرِدً فأحكم كل موُصِلِ حَلْقَــةٍ ** بحُبَابَةٍ فــي مـوضِع المسمارِ
14 – لو كنت تمنعُ خاض دونك فتيـةٌ ** منا بحـور عـواملٍ وشـفـارِ
15 – فَدَحَوا فويق الأرضِ أرْضاً مِنْ دَمٍ ** ثم انثنوا فبنوا سماء غُبَارِ
16 – قــومٌ إذا لبسوا الدروع حسـبتها*** سُحُـباً مزرّرةً علـى أقـمارِ
17 – وترى سيوف الدارعين كأنهـا **** خُلُـجٌ تُـمَــدُّ بـها أكفُ بحـارِ
18 – لو أشرعوا أيمانهم من طولها ** طعنوا بها عَوْضَ القَـنَا الخَطَّارِ
19 – شُوسٌ إذا عُدِمُوا الوَغى انتجعوا لها ** في كُلِّ أوْبٍ نُجْعَةَ الأمطارِ
20 – جَنَبُوا الجياد إلى المطِيِّ ورَاوَحُـوا ** بَيْنَ السُّروج هناك والأكْوَارِ
21 – فكأنما مَلَئوا عِيَاب دُرُوعِهِـمْ *** وغُمُـودَ أنْصُلِهـم سَـــرَابَ قِـفَــارِ
22 – وكأنما صَنَعُ السّوَابِغ عَــــزَّه **مــاءُ الحديـدِ فصـاغَ مـــاءَ قَــــرَارِ
23 – فتَدرَّعوا بمتُــون ماءٍ جــامـــدٍ *** وتَقَنّـعـوا بِحَـبَــابِ مــاءٍ جـــارِ
24 – أُسْدٌ ولكن يُؤْثِــــرُون بِزادِهِــــم ** وَ الأُسْـــدُ ليـس تَدِيــنُ بالإيـثَـارِ
25 – يَتَزَيَّنُ النــادي بِحُسنِ وجوههـم*** كَــتَــزَيُّــنِ الـهَـالاتِ بالأقــمَـــارِ
26 – يَتَعَطَّفُون على المُجاورِ فيهـم **** بالمـنْـفِـسَـاتِ تَـعـطُّـف الأَظــــآرِ
27 – من كُلِّ مَنّ جَعَلَ الظُّبى أنْصَـارَهُ ** وَكـرُمْنَ فاستَغْـنَى عَــــن الأنْـصَارِ
28 – والليثُ إن بارَزْتَــهُ لم يَعْتَمِــدْ **** إلا عـلــى الأنـيــــابِ والأظْــفَــارِ
29 – وإذا هـــوَ أعتقَلَ القناةَ حَسِبْتَهـا **** صِلاً تَـأبــطــهُ هـــزبـــرٌ ضــارِ
30 – زرَدُ الدِّلاصِ مِنَ الطِّعَانِ بِرُمْحِـهِ *** مِـثْـلُ الأسَـــاوِر في يـدِ الإِســوَارِ
31 – ويَجُرُ حِينَ يَجُـرُ صَعْدَةَ رُمْحِـهِ **** في الجَحْفَـلِ المُتَضَايِـقِ الجَــرِّارِ
32 – ما بَيْنَ تُرْبٍ بالدمـــاءِ مُلَبَّــــدٍ **** زَلِـــقٍ وَنَـقْـــــعٍ بـالطِّـرَادِ مُـثَــارِ
33 – والهونُ فـــي ظِلِ الهوينى كامنٌ **** وجلالــة الأخْطَارِ فــي الإخْطَارِ
34 – تَنْدَى أسِـــرَّةُ وجهــــهِ ويمينـه **** فــــي حـــالة الإعسار والإيسـارِ
35 – ويَمُدُّ نحو المكرُمــــــاتِ أنــامِلاً ***** لـلــرِّزْقِ فــي أثْنَائِـهنَ مَـجَــارِ
36 – يَحْوِي المعَالـــي غَالِبــــاً أو خَالِباً**** أبــــداً يُـــدَاني دونها ويُــدَاري
37 – قد لاح في ليلِ الشبابِ كواكــــبٌ * ***إنْ أُمْـهِلَتْ آلَــتْ إلـــى الإســــفارِ
38 – يا كوكباً ما كان أَقصرَ عُـــــمْرِه ******* وكذا تكونُ كواكـــبُ الأسحارِ
39 – أُثْنـي عليـه بإثْـــــرِه ولـو انّـــه **** لـــم يُـغْـتَـبَـط أثـنــــيتُ بــالآثــــارِ
40 – وهِلالُ أيامٍ مضى لــــم يَسْـــــتَدِر**** بَــــدْراً ولم يُمهَـل لـوقـتِ سِـــرَارِ
41 – عَجِلَ الخسُــــوفُ عليه قبلَ أوَانــــه **** فَـمحَــــاه قـبــلَ مَـظِـنَّةِ الإبْدَارِ
42 – واسْــتُلَّ مـــن أتْرابِه وَلِدَاتِــــــه *** كالمُقْلَــــةِ اسْــتُلَّتْ مِــــنَ الأَشْــــفَارِ
43 – فـكــأن قـلـبـي قـبـــرهُ وكأنـــــه ***** فِــي طَـيِّه سِــــرٌ مـــن الأسْـــرَار
44 – إن يُحتقـر صِغَـراً فَـــــرُبَّ مُفَـخَّــــمٍ**** يـبـدُو ضَـئِـيلَ الشّـخْصِ للنُّظَّــارِ
45 – إنّ الكواكـبَ فــــي عُلّوِ مَحلِّهــــــا ***** لـتُرى صِغَـاراً وهي غـيرُ صِغارِ
46 – وَلَــدُ المُعزَّى بعضٌه فَـــــإذا انْقَضى*** بَعْــــضُ الفـتى فالكلُ فــي الآثــارِ
47 – أبكِيــــه ثـــم أقــولُ مُعــــتَذراً لــه **** وُفِّقــتَ حيــــنَ تــــــركـتَ أَلأَم دَارِ
48 – جَــــاورتُ أعْدَائي وجاورَ ربَّــهُ **** شَتَّــــــان بـيـنَ جِـــوَارهِ وَجِــــوَاري
49 – أشـــكو بُعَادكَ لي وأنتَ بموضِعٍ***** لـولا الـــردى لسَمِعْـتَ فيه سِـرَاري
50 – والشـــرقُ نحوَ الغربِ أقربُ شُقَّـة ***** من بُعـدِ تِـلكَ الخمسةِ الأشْــــبَارِ
51 – هيهـــات قــد عَلِقَتْكَ أشرَاك الردى **** واعْـتَاقَ عُمْـــرَكَ عَائِـقُ الأَعْمَـارِ
52 – ولقـــد جريتَ كما جَرَيـتُ لغايـــةٍ **** فبلغْتَهَـا وأبـــوكَ فــــي المِـضْـمَارِ
53 – فــــإذا نطقتُ فأنــــتَ أولُ منطقــي **** وإذا سكـتُ فـأنتَ فــي إضـمـاري
54 – أُخــــفِي مـــن البُرحـاءِ نــاراً مثلمـا **** يُخفِـي من الـنـار الـزنادُ الواري
55 – وأُخَفِّضُ الزَّفَرَتِ وَهْـــــيَ صَوَاعــــدٌ *** وَأُكَفـكِفُ العَـبَـرَاتِ وهيَ جَـــوَارِ
56 – وشِــهَابُ زَنْدِ الحُزْنِ إن طَاوَعتُـــــهُ **** وَارٍ وإن عَــاصَــيْـــتُــهُ مُتَـوارِ
57 – وأكـــفُّ نِيـران الأسى ولرُبّمَـــا *****غُلِـبَ التّصَــــبُّـرُ فارتَمَـتْ بِـشَـرَارِ
58 – ثــــوبُ الريـاء يَشِـــفُ عمّا تَحْتَهُ ***** فــإذا التَحَـفــتَ بــهِ فـإنـكَ عَـارِ
59 – قَصُرتْ جُفوني أم تبَـــاعَدَ بَيْنَهَــا **** أم صُــوِّرَتْ عَـيْـنِـي بِـــلا أَشْـــفَارِ
60 – جَفَــــتِ الكَرَى حتى كأن غِرَارهـا *** عِـنْـدَ اغْتِـمَـاضِ العـيـنِ حَــدُّ غِــرَارِ
61 – ولو استَزَارَت رَقدةً لرمى بهــا ***** مــا بَـيـنَ أجْفَـانِـي مـــنَ الـتَّـيَّـــارِ
62 – أُحْيِي ليَالِي التِّمِّ وهــي تُمِتُنـــي **** وَيُـمِـيـتُــهــن تَــبَــلُّـجُ الأنــــــــوَارِ
63 – حتى رَأَيْتُ الصُّبْحَ يَرْفَعُ كَفَّــهُ ****** بالضَّـوءِ رَفْـرَفَ خَيْـمَـةٍ مِـنْ قَــارِ
64 – والصُبحُ قـد غَمَـرَ النجـومَ كأنـه ***** سيـلٌ طغـى فطـمـا عـلـى الأنـوارِ
65 – وتلهب الأحشاءِ شَيَّبَ مَــفرِقي **** هــذا الضـيـاءُ شُـــواظُ تـلــك الـنَّــارِ
66 – شابَ القَذَالُ وكُلُّ غُصـنٍ صَائـــرٌ **** فَيـنَـانُـهُ الأَحْــوَى إلــــى الإزهـــارِ
67 – والشِّبْهُ مُنجَذِبٌ فَلِم بِيضُ الدُّمى **** عـن بِــيـضِ مَـفــرِقِـه ذواتُ نِــفَــارِ
68 – وتوَدُّ لو جَعَلَتْ سَـــوادَ قُلُوبِــــها *** وسَــــوَادَ أعيُنهـا خِضَـاب عِــذَاري
69 – لا تَنفِرُ الظَّبياتُ عنــه وقـد رأت **** كيفَ إختلافُ النَّبْـتِ فــــي الأَطْـوَارِ
70 – شَيْئَان يََنْقَشِعَـانِ أولَ وَهْلَـــــةٍ *** شَـــرْخُ الشَّـبَـابِ وَخُـلَّـةُ الأشْــرَارِ
71 – لاَ حَبَّـذَا الشّيْـبُ الوَفِـيُّ وَحَبَّــذَا **** ظِـــلُّ الـشَّـبَـابِ الـخـائِــنِ الــغَــدَّارِ
72 – وَطَرِي من الدُّنْيَا الشّبَابُ وَرَوْقُهُ *** فـإذا انْقَضَـى فقـد انقَضَـت أوطَـاري
73 – قَصُـرَت مسافتُـهُ ومـا حسنَاتُـهُ *****عـــــنــدي ولا آلاؤه بِـــقِــــصَــارِ
74 – نَزدَادُ هَمَّاً كلما ازدَدنـــــا غِنىً **** والفَقْـرُ كُــــلُّ الفَقْـرِ فــــــي الإكْـثَـارِ
75 – ما زادَ فَوقَ الزَّادِ خُلفٌ ضَائِــعٌ **** فـــي حــــــــادثٍ أو وارثٍ أو عَــــارِ
76 – إني لأرحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مــا ****** ضَـمَّـت صُـدُورُهُـم مــــــن الأوغَــارِ
77 – نَظَروا صنيع الله بي فعُيُونُهــــــم ***** فــي جَـنَّـةٍ وقلُوبُـهُـم فــــي نـــارِ
78 – لا ذَنْبَ لي كم رُمتُ كتمَ فَضَائِلي **** فـكـأنـمـا بــرقــعـتُ وجــــــه نـــهـارِ
79 – وستـرتُـهـا بتـواضُـعـي فتَطـلَّـعـتْ *** أعـنـاقُـهـا تَـعْــلُـو عــلـى الأســتَـــارِ
80 – ومــن الـرجـالِ معـالـمٌ ومـجَـاهـلٌ *** ومن الـنــجومِ غــوامِـــضٌ ودَرَاري
81 – والناسُ مُشتَبِهُون فـــــي إيرَادهِم ***** وتَـبَـايـنُ الأقــوَامِ فــــي الإصـدَارِ
82 – عَمْرِي لقد أوطَأتُهُم طُرُقَ العُلى **** فعَـمُـوا ولــم يَـقـفـــوا عـلــى آثـــاري
83 – لـو أبصَـروا بِقُلُوبِهِـم لأستَبـصَـرُوا *** وعَمَى البَصَائِـر مِـن عَـمى الأبـصَـارِ
84 – هلا سَعَوا سَعيَ الكِرَامِ فأدرَكـــــوا ***** أو سَــلَّــمُــوا لــمــواِقِـــعِ الأقــــدَارِ
85 – ذَهَبَ التكَرُّمُ والوَفَـاءُ مــن الــــورى *** وتَــصَــرَّمَـــا إلا مــــــن الإشـــعَـــارِ
86 – وَفَشَت خِيَانَات الثِّقـاتِ وَغَيرهُـــمْ **** حــتــى اتّـهَـمـنَــا رُويَـــــةَ الأبــصَـارِ
87 – ولربما اعتَضَدَ الحَلِيمُ بِجَاهِـــــلٍ ***** لا خَيْــــرَ فـــــي يُمـنَـى بِغَـيْـر يَــسَـارِ
88 – لله دَرُّ الـنَّــائِــبَــات فَــإنَّــهـــــــــا ***** صَــدَأُ الـلِّـئَـــامِ وصَـيـقَــلُ الأحْـــرَارِ
89 – هل كنــــتُ إلا زَبـــــرَةً فَطَبَعنَـنِي **** سَيفــــــاً وأطلـقَ صَرفــهُـن غِـــــراري
90 – زَمَنٌ كأمِ الكلبِ تَرأَمُ جَروَهَــــا ***** وتَصُـدُّ عـن ولَــــدِ الهِزَبـرِ الـضَّـاري (11)

يرى أبو بكر الحموي في (خزانة أدبه وغاية أربه): ” وهذه القصيدة يرثي بها ولده وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها:

ومكلف الأيام ضد طباعها **** متطلب في الماء جذوة نار
جبلت على كدر وأنت تريدها ** صفوا من الأقذاء والأقــذار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ** تبني الرجاء على شفير هـار
فالعيش نوم والمنية يقظة ***** والمرء بينهما خيال سـار

وما أعلم أن أحدا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات ومنها يشير إلى ولده وهو من المعاني المستغربة:
جاورت أعدائي وجاور ربه *** شتان بين جواره وجواري” (12)

وأخيرا ًنتطرق قليلاً إلى إنموذج آخر من شعره، إذ يذكر الباخرزي في (دميته وعصرته)، وله شعر أدق من دين الفاسق وأرق من دمع العاشق، كأنما روح بالشمال أو علل بالشمول، فجاء كنيل البغية ودرك المأمول . ثم يروي بعض أبيات قصيدة رائية أخرى له، مقدماً لها: فمن محاسنه التي تعلق في كعبة الفصاحة، قوله، ونحن ننقحها، ونزيد وننقص منها حسب اجتهادنا في انتقاء الجميل، ولله الأمر من قبل ومن بعد !!:

كن من لواحظ عينيها على حذر **** فإن ألحاظها أمضى مـن البتر
أهتز عند تمنّي وصلها طربا ******وربّ أمنيـــــةٍ أحلى مـن الظفر
تجني عليّ وأجني من مراشفها * ففي الجني والجنايات انقضى عمري
أهدى لنا طيفها نجدا وساكنه *** حتى اقتنصنا ظباء البدو في الحضر
فبات يخلو لنا من وجهها قمرا ***** مـــن البراقــــع لولا كلفة القمر
وراعها حر أنفاسي فقلت لهـا : ***هواي نــــار، وأنفاسي مــــن الشرر
فما نكرنا من الطيف الملم بنا ****ممن هوينــــاه إلا قلــــة الخفـــــــرِ(13)

ونكمل المشوار مع (دوازين الشعر العربي على مر العصور)،فمن بدائعه في هذه الرائية قوله
:
لولاه لم يقضِ في أعدائه قـــــلم *** ومجلب الليث، لــولا الليث كالظفر
ما ضرّ إلا وضلت بيضُ أنصله **** في الهام أو سمُر الأرماح في الثغر
وليس كل سوادٍ بصّ أســـــودهُ **** فيما سوى العين معدوداً من الحورَ
ولا يعدّان في عين امرئٍ حـــــوراً ******* إلا إذا اجتمـعا فيها على قدرِ
لما وطئت دمشقاً بيع مـــــا وطئت ***** منها التــراب بسعر العنبر الذّفر
وكلما شحَّ أهلُ الدهر زدتَ نــــــدى ***** بظلمة الشعر تبدو زينــة الغرر
أما العراق فيثني جيـــــدَ ملتـــفتِ ***** شـــوقاً إليـــك ويرعى عينَ منتظر(14)

ونرجع للباخرزي ولبيت من القصيدة السابقة، كنا قد فصلناه لنفسح المجال له كي يشبهه ببيت لابن المعتز قائلاً بعد ذكر بيت التهامي المفصول:
” وغادرت في العِدا طَعناً يحفُّ بهِ *** ضربٌ كما حَفَّتِ الأعكانُ بالسُّرَر
قلت: هذا والله هو المعنى البيع، والربيع المريع، والتشبيه للائق،والغرض الموافق وقد كان يملكني الإعجاب بقول ابن المعتز:
وتحتَ زنابيرٍ شَدَدْنَ عقودَها *** زنابيرُ أعكانٍ معاقدُها السُّرر ” (15)

يكفينا هذا من هذا،(16) وإلى تراث أدبي جديد نجدده، وإن غداً لناظره قريبُ !!!

…………………………….
(1) سير أعلام النبلاء: الذهبي – 17 / 382 – الهامش – الموسوعة الشاملة .
(2) أبو الحسن علي التهامي – الموسوعة الحرة
https://ar.wikipedia.org/wiki
(3) مجالس الفرده: قصيدة التهامي كاملة مع الشرح
http://www.alfredah.net/forum/threads/alfredah4515
(4) م. ن .
(5) دمية القصر وعصرة أهل العصر: الباخرزي – 1 / 17 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(6) أبو الحسن علي التهامي – الموسوعة الحرة .
(7) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، تحقيق: إحسان عباس – ج 3 ص 378 – 381 – دار صادر – بيروت – طبعة: 0، 1900م
(8) دمية القصر وعصرة أهل العصر: الباخرزي – 1 / 17 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(9) البداية والنهاية: ابن كثير – ج 12 ص 25 – موقع اليعسوب – الموسوعة الشاملة، وفي الهامش: في الوفيات 3 / 380: طبعت على كدر وأنت تريده
(10) دمية القصر وعصرة أهل العصر: الباخرزي – 1 / 17 – 16 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(11) مجالس الفرده: قصيدة التهامي كاملة مع الشرح
حذفت الشرح لأنه شرح كلاسيكي للمفردات، ورتبتها وناسقت بين أبياتها
http://www.alfredah.net/forum/threads/alfredah4515
(12) خزانة الأدب وغاية الأرب: تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري – ج 1 ص 35 – الناشر: دار ومكتبة الهلال – بيروت – ط 1 – 1987م – تحقيق عصام شعيتو .
(13) دمية القصر وعصرة أهل العصر: الباخرزي – 1 / 17 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(14) دواوين الشعر العربي على مر العصور – ج 78 ص 45، رقم القصيدة رقم القصيدة: 59373
موقع أدب الموسوعة الشاملة
(15) دمية القصر وعصرة أهل العصر: الباخرزي – 1 / 16 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(16) ارجع إلى هذا المصدر، إذ يذكر مراجع البحث عن التهامي، ونحن رجعنا إلى معظمها:(شاعر وقصيدة) – حكم المنية – أبو الحسن التهامي – د. بدر عبد الحميد هميسه – موقع صيد الفوائد .
http://www.saaid.net/Doat/hamesabadr/56.htm
يذكر: تجد ترجمته في ” وفيات الأعيان ” 3 / 381، الأنساب 3 / 224، الوافي بالوفيات 2 / 181، طبقات السبكي 4 / 114، 115، شذرات الذهب 3 / 203 .
وكذلك راجع (ديوان أبي الحسن التهامي) – ص 144 – 1893 – إسكندرية.