العربي قبل أن تشرق شمس الرسالة عليه كان يكره التنظير بل هو توّاق إلى التطبيق بغض النظر عن نوع التطبيق وأبعاده الاجتماعية والدينية، فإذا أراد تثوير قبليّته مثلا أصبح غازيا من غير تردد فسبى النساء وقتل الشيوخ والأطفال واستحوذ على الغنائم، وإذا أراد أن يئد البنات لم يتردد مطلقا،ونرى ذلك حتى في مجال الأدب كان صراع الهجاء واضحاً من أجل إثبات الوجود مرة أو لتحقيق منفعة معينة مرة أخرى.
لذا حينما هلّ هلال الإسلام حاول أن يتماشى مع هذا التطبيق المفزع في أول الأمر ليخلق تطبيقا مختلفا لايعتمد على التمرد في كل شيء أو بعبارة أخرى لايتكئ على حمية الجاهلية بل هناك قانون سمح يحافظ على ألوان التعايش بين القبائل والبشرية بشكل عام.
هذا الأمر لم يكن هينا على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعلى معيّته فانقسم الناس من بعده على ثلاثة أقسام الأول هضم رسالة الحق وبات مطّبقا لها على الرغم من صعوبة ذلك إذ كلفهم حياتهم، وقسم آخر لم ترق له أعلام الدين فبات متمردا كما كان مسبقاً، والقسم الأخير سلك طريق الحياد واكتفى بالتنظير وذكر مآثر أهله وصولاتهم من أجل الدين، ولا ننسى أن هذا القسم الأخير قد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بأنه ((خذل الحق ولم ينصر الباطل))؛ فهو قسم متخاذل بلا ريب أو شك؛ لأن الدين مع سماحته يبقى نابذا للحياد ((إنا هديناه السبيلَ إما شاكرا وإما كفورا)).
ويبدو أن قسم التنظير قد حل محل الأقسام كلها ولاسيما في ظل تمرد العربي الذي أبى أن يقوّم عود سلوكه الدين؛ وموقف الإمام الحسن عليه السلام أنموذج لذلك، ولفاجعة الحسين عليه السلام أيضا دليل آخر عليه فضلا عن قول أبي عبد الله عليه السلام : (( إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ))، والبلاء الذي يقصده الإمام عليه السلام لايقتصر على المرض فقط بل هو متنوع و يدخل في تفاصيل حياة الإنسان ولاسيما حين يصطدم بدعامة الدين المتينة يقل دينه!! ويفكر بالعقل الجمعي التنظيري.
واستمر قسم التنظير بالشيوع في أرجاء المعمورة وأضحت البشرية(المسلمة)مبتعدة عن روح الدين ولذة القرب الإلهي لتجعله على عواتق غيرهم وكأنه بضاعة لها أهلها ولايمكن أن تعمم على الجميع؛ ليكونوا عبيدا يتلقفون الكلمة من الآخرين بعيدة عن التمحيص أو التحليل ويذيعونها في مسامع أقرانهم، بل في أغلب الأوقات هم يعرفون أن رأيهم لايمثل الدين – يعرفها ويحرفها- لكنهم يصرون على تطبيقه متأثرين بالعقل الجمعي.
فالدين لايعرف المجاملة في جميع مفاصل الحياة ولابد من العمل فيه وترك التنظير ؛ لأنه يسحبنا إلى جادة التلون، ولاننسى أن أمير المؤمنين عليه السلام قد حدد معالم الدين إذ قال :((لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم،والتسليم هو اليقين،واليقين هو التصديق، والتصديق هو الاقرار،والاقرار هو الأداء، والأداء هو العمل الصالح))؛ فنهاية سلم الدين عنده، عليه السلام، هي بدايته (العمل) الذي يوصلنا إلى التسليم واليقين والاقرار.. إلخ.
فإذا تجرّد العربي قولاً وفعلاً من قسم التنطير ودخل في طور التطبيق الذي يمثله الدين بمحمد وأهل بيته عليهم السلام وجعلهم السبيل الوحيد لدنياه وآخرته -على الرغم من الغربة التي سيعيشها بين مجتمع أقل ما يوصف بالتمرد- لكنه سيكون في عيشة راضية في الدنيا والآخرة…بدلاً من دخوله في دائرة العربي الأول الذي عشق تطبيقا مختلفا ومخالفا لقيم الإنسان والدين؛ وهذا غير بعيد عن واقعنا الآن؛ لأننا نفخر بكلمة مسلم حينما نشاهد هويتنا الشخصية فقط أما إذا نظرنا إلى واقعنا المؤلم نظرة متجرد سنعلم أننا بعيدون عنه.