الدكتورة (جوليانا داود يوسف)، الأستاذة في جامعة البصرة، سبق أن قدمت تراجم أدبية و ثقافية وسينمائية في مجلات الثقافة الأجنبية وآفاق عربية ومجلة الطليعة الأدبية وبعض الصحف العراقية، وكذلك المجلات والدوريات الجامعية العراقية والعربية المحكمة.انفردت (د.جوليانا) مؤخراً بتقديمها ترجمة في كتاب مستقل عن جزء من الكتاب الموسوعي “رؤى الأمس” للناقد السينمائي الانكليزي” جيفري ريتشاردز” وكانت الترجمة مختصة بـ(السينما النازية) ووضع هوامش الكتاب المخرج المسرحي والباحث الأستاذ ” خالد السلطان. منذ اندحار( النازية) بعد الحرب العالمية الثانية، ثمة دراسات ومؤلفات تحليلية ونقدية تناولت البُنى والمرتكزات والتمفصلات الأساسية – العنصرية التي ارتكزت عليها أفكار وتوجهات الدولة (النازية) في ألمانيا وقد تناولت تلك الدراسات ، النظام النازي على مستوى الإنسان ، وكيفية التمكن منه ، وتجذير الأيديولوجية والممارسة التي مكنت النظام في ذلك . وهذه الدراسات المتعددة كانت متباينة بالنظر لتباين وجهات نظر كتابها ومنطلقاتهم الفكرية، لكنها استطاعت أن تبحث ، المكونات والتوجهات والحيثيات الجوهرية للمنطلقات الفكرية والممارسات العملية الاستبدادية للظاهرة النازية من جوانب عدة في أهمها الجوانب السياسة والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، وقد ترجم بعضها إلى اللغة العربية ،لكن أغلبها يقع في الجانب السياسي والفكري فقط لتوجهات النظام النازي وما صاحب تلك التوجهات والممارسات من فظائع وكوارث طالت البشرية خلال الحرب العالمية الثانية ، و تم التطرق- قليلاً- إلى الجوانب الفنية – الثقافية التي أفرزتها الفكرة والممارسات “النازية” وعنصريتها، خاصة في الجانب السينمائي ونشاطاته التي اعتمدتها المؤسسات الإعلامية للدولة النازية والتي كان يقود نشاطها الدكتور”غوبلز” صاحب المقولة الشهيرة:” كلما اسمع كلمة ثقافة.. أتحسس مسدسي”، بعض المؤرخين و الكتاب يؤكد إن هذه العبارة ليست له وانه قد اقتبسها، أو نُسبت له ، دون أن يذكروا المصدر، لكن من الثابت أن (د.غوبلز) قد عمل، بتواصلٍ
ممنهجٍ، على أن تُروج السينما(الألمانية) ، توجهاتها السياسية الديماغوجية وخرافاتها الأيديولوجية عن نقاء العنصر الجرماني ، كما أسهم د.(غوبلز) بشكل كبير في تأطير فكرها الإيديولوجي- العنصري إعلامياً.المدهش في الأمر إن بعض الأنظمة العالمية التي حاربت الدولة (النازية) وانتصرت عليها، بعد الحرب العالمية الثانية، استعارت خطابها في ما يخصها من توجهات فنية- ثقافية، خاصة أنظمة الحكم الشمولي في العالم. كما شمل هذا التوجه بعد ذلك العالم العربي، والعراق زمن النظام السابق الذي قدم صورة وخطاباً أبشع وأقسى مما كان عليه الخطاب والممارسات النازية، فقد قام على اختزال الشعب العراقي بكل عمقه الحضاري المعروف في صورة” القائد الضرورة” ، وتم تسمية الجهاز الإعلامي (الصدامي) بـ(الفيلق) مزيناً ولائم الدم في الحروب العبثية – اللامجدية والخاسرة من خلال تسخير ميزانية ضخمة وتوزيع المنح والهبات وشراء ذمم كثير من الشخصيات العراقية والعربية الإعلامية والسياسية و الثقافية – الفنية . وقع كتاب د.جوليانا داود يوسف،على(252 ) من القطع المتوسط/ط1 – شركة الغدير للطباعة والنشر المحدودة- البصرة-2014. وكان إضافة للمقدمة في أربعة فصول.الأول:”الأيديولوجية النازية”ص(9 -44 ) وتتم فيه متابعة تعيين (أدولف هتلر) رئيساً لوزراء ألمانيا عام 1933 وبعد سنوات قليلة على تعينيه حقق النازيون بزعامته برامجهم المتوجهة وفق التوجهات العملية الخاصة بالتوجه القومي الاشتراكي وتوجهاته النازية. عندها و خلال الاستفراد بالسلطة ألغيت جميع الأحزاب والمنظمات السياسية والاتحادات والنقابات العمالية والمهنية،كما تم تعليق الحقوق المدنية-الدستورية الخاصة بالحقوق الفردية، وتم تطهير السلطات القضائية والإدارات المدنية من العناصر المعارضة للتوجهات القومية النازية، واضطلعت منظمة الشبيبة الهتلرية بالعمل على إعادة تربية الأجيال الجديدة خاصة الشباب والجنود وصغار الضباط وتلقينهم مبادئ الفكر النازي كما أسهمت من جهة أخرى جبهة العمل ومنظمة عصبة المزارعين في إعداد العمال والمزارعين على وفق التوجهات الفكرية والقيم النازية ، ولسلامة امن النظام وتطبيق أوامره وتوجهاته الصارمة، تم إنشاء جهاز أمني – مخابراتي بالغ الخصوصية والتعقيد وعلى درجة
عالية من الكفاءة. أما الفصل الثاني فكان بعنوان:”ليني ريفينشتاهل- التوثيق والخرافة” ص(45 -90 ) إن التاريخ والواقع يكشفان أن السينما النازية لا تملك الموهبة والقدرات الجادة فنياً، ولكن يمكننا استثناء المخرجة السينمائية” ليني ريفينشتاهل” وذلك لقابيلياتها وموهبتها في توظيفها الخرافة المستندة إلى الفكر القومي النازي خاصة في فيلميها التسجيليين” انتصار الإرادة ” و ” الاولمبياد” وهما الأهم تمثلاً واستنطاقاً للمبادئ النازية ويمكن عدهما الأساس من اجل فهم الفكر النازي في تجلياته السينمائية، التي عمدت إلى إنتاج توجهات مضادة للخصوصية الفردية وللذاتية الإنسانية،فقوة المجتمع في توجهات الفكر النازي تكمن في اضمحلال الإرادة الفردية وذوبانها في إرادة الأمة والتي يتمثلها ويعبر عنها ويجسدها شخص (الفوهرر) المستبد وحده فقط. يؤكد” جيفري ريتشاردز” بأن أفلام”:”ليني ريفينشتاهل”من حيث البناء والأسلوب معاً، قمة الفن السينمائي الألماني ، التي لم تصل إليها السينما الألمانية في الفترة التي انتهت بصعود “هتلر” إلى السلطة، وكانت الميزة المهمة لتلك الأفلام تكمن في جماليتها المرئية أو البصرية المفعمة بالصور الذهنية، إضافة إلى الجمالية التي أضافتها الموسيقى التصويرية على أجواء الأفلام. الثابت تاريخياً أن الفكر القومي النازي توجه لتحقيق واقع قيام (إمبراطورية)تكون متواصلة و تتجاوز الألف عام وتتسيد العالم كله ولأجل ذلك عمدوا لتقديم برنامجٍ متكاملٍ من الطقوس والمراسيم الاحتفالية المليئة بالرموز القومية، بغية تعزيز ذلك الوهم الإمبراطوري، ففي النفس البشرية رغبة ما تتوق إلى تحقيق نوع من المباهاة والعظمة، وقد شرعوا في إشباع تلك الرغبة عن طريق التلاعب بعواطف الجماهير الألمانية، من خلال توجهاتهم الثقافية عبر وكتبهم ورسوماتهم وأفلام تلك المرحلة التي كانت مشبعة بطقوس الاشتراكية القومية النازية ، التي ستخلف الكنيسة والدولة معاً، وكانت الرموز الأساسية للطقوس النازية تتمحور حول الأزياء والأعلام وتماثيل.وتناول الفصل الثالث:” الأفلام الروائية النازية”ص(91 -182) وفي هذا الفصل يتضح إن القسم الأكبر من الأفلام النازية “يتجاوز إشكاليات الواقع الألماني وينحو إلى الاستغراق في اللهو وإشاعات الخيالات الهروبية.و كلما ازداد الوضع الألماني سوءاً
نتيجة للاخفقات والهزائم العسكرية في الحرب العالمية الثانية ازدادت تلك الأفلام بشكل مضطرد (….) كما انعكس الفكر القومي الاشتراكي النازي العنصري، بشكل كبير حتى في الأفلام الترفيهية المحضة” ص(94-95 ).أما الفصل الرابع فكان بعنوان “اليهودي الأزلي والانكليزي الخائن”(ص183) ونكتشف فيه أن الناقد السينمائي الانكليزي” جيفري ريتشاردز” يؤكد:”أضمر النازيون أشد مشاعر العداء والحقد ضد اليهود والبريطانيين على السواء. وكان العداء بمثابة حجر الأساس الذي أشاد عليه هتلر ايدويولوجيته النازية الهمجية”.لكن الهامش الأول الخاص بهذا الفصل يذهب إلى أنه في الغالب:” تقع الكتابات الأوربية في انشوطة الدعاوى الصهيونية المتنفذة في معظم الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية الأوربية. فالنازية كحركة سياسية ونظام لم تؤسس من أجل محاربة الجنس اليهودي. إنما جاءت كمحصلة لبعض الظروف التاريخية والسياسية” . من الثابت تاريخياً إن سياسة العداء لليهود،في أوربا تحديداً، ليست مقتصرة على الحقبة النازية فقط ، وصورة اليهودي البشع والجشع تم تقديمها ، من قبل شكسبير، كمثال ، في مسرحية( تاجر البندقية) ،كما عرفت أغلب الدول الأوربية ذلك المنحى ، أما ألمانيا فقد عرفته وتعاملت به منذ القرون الوسطى وقبلها، واتضح الأمر بقوة في حقبة الملك “فريدريك الكبير”، ويمكن هنا مراجعة مصادر كثيرة ، وفي تقدرينا المتواضع، أن كتاب”جاك أتالي” المعنون”كارل ماركس أو فكر العالم- سيرة حياة” والذي ترجمه عن الفرنسية”محمد صبح”- دار كنعان- دمشق. فيه الكثير من التفاصيل التاريخية الموسعة حول هذا الشأن. وقد الحق في كل فصل من كتاب د. جوليانا هوامش عدة تضمنت معلومات مهمة تاريخية وفنية, وثمة أكثر من(25 ) صورة وثائقية سينمائية، مع التعريف بها احتواها متن الكتاب.ما قدمته د.جوليانا داود يوسف في كتابها مساهمة مهمة في سد الفراغ الثقافي السينمائي المعرفي والنظري حول ظاهرة “السينما النازية” وتوجهاتها العنصرية الخاصة في تكريس صورة (القائد) الفرد الذي يختزل الجميع عبر توجهاته المتسمة بالقوة والإكراه والبطش، والتي مازالت تنتظر مَنْ يتصدى لها بالكثير من الدراسات البحثية –
الثقافية، والسينمائية،بالذات،المهمة والضرورية للسينمائي العربي وللقراء العرب.