في النظم القانونية التقليدية، تُعالج المسؤولية الجنائية عادةً من منظور الأفعال الإيجابية، فتُجرّم أي فعل ينتهك نصًا قانونيًا أو يُشكّل تهديدًا لمصالح محمية جنائيًا. إلا أن القانون الجنائي الحديث بدأ ينظر في نوع آخر من الجرائم: ليس من خلال الفعل، بل من خلال الامتناع عن الفعل؛ ليس من خلال الفعل، بل من خلال الامتناع عن الفعل. وهذا يُثير تساؤلًا حول ما إذا كان الامتناع عن تولي منصب ذي سلطة، عند الضرورة، يُمكن اعتباره جريمة، وما إذا كان الإهمال السياسي أو الإداري يُمكن أن يُصبح مسؤولية جنائية تُعاقب عليها الدولة أو الفرد.
المبدأ العام للمسؤولية الجنائية هو أنه لا جريمة دون نص قانوني، ولا عقاب إلا على سلوك مُحدد. ومع ذلك، مع تطور المجتمع وتعقّد الهياكل السياسية والإدارية، أصبحت بعض أشكال الامتناع تُشكّل تهديدًا حقيقيًا للأمن العام أو حياة الأفراد، خاصةً عندما يكون المُمتنع في وضع يسمح له بإنقاذ الموقف أو درء الخطر، سواءً كان سياسيًا مُنتخبًا أو إداريًا كفؤًا. من أمثلة ذلك رفض مرشحٍ لشغل منصبٍ رفيع المستوى خلال أزمةٍ وطنيةٍ حرجة، أو رفض مسؤولٍ إداريٍّ لشغل منصبٍ ضروريٍّ لإدارة مرفقٍ حيوي، أو حتى عدم قبول شخصٍ كفؤٍ وضروريٍّ لمهمةٍ عاجلةٍ في حالةِ طوارئ، مع علمه بأنَّ عدمَ توليه المنصب سيُسبِّبُ ضررًا جسيمًا.
هذا الرفض، وإن لم يكن فعلًا بالمعنى الحرفي، فهو سلوكٌ ذو عواقبَ قانونيةٍ واجتماعية، ويثيرُ مسألةَ تصنيفه في القانون الجنائي. هل يُمكن وصفُ رفضِ تولي منصبٍ بأنه شكلٌ من أشكالِ التقصيرِ في الواجبِ الوطني؟ هل يُمكنُ مُساءلةُ الشخصِ عن هذا الرفضِ إذا لم يكن مُجبرًا قانونًا على توليه؟ الإجابةُ ليست خاليةً من التعقيد. فالمبدأُ الأساسيُّ للقانونِ الجنائيِّ هو أنَّ شغلَ المناصبِ العامةِ مسألةُ اختيارٍ لا إكراه. ومع ذلك، في بعضِ الحالات، لا سيَّما في أوقاتِ الحربِ أو الكوارثِ أو انهيارِ المؤسسات، قد يُصبحُ رفضُ توليِ المنصبِ تهديدًا للأمنِ العامِّ، مما يتطلَّبُ نهجًا قانونيًا مختلفًا.
في بعض التجارب القانونية المقارنة، وخاصةً في أوقات الأزمات، رُفعت دعاوى قضائية ضد مسؤولين امتنعوا عن أداء واجباتهم، بدعوى أن امتناعهم تسبب في ضرر عام. في بعض الحالات، يُعدّ التقصير في أداء الواجب، حتى وإن بدأ برفض قبول مهمة، إخلالاً بالمسؤولية المفروضة قانوناً أو دستورياً على الأفراد المؤهلين أو ممثلي الشعب. إذا ثبت أن الرفض كان بدافع الإضرار بالمصلحة العامة، أو بدافع شخصي يُقدّم المصلحة الخاصة على الحاجة الجماعية، فقد يكون التعريف القانوني أقرب إلى جريمة الإضرار بالمصلحة العامة من خلال الرفض.
لا يمكن تجاهل الأبعاد الأخلاقية والسياسية لهذه المسألة. فتقلّد المناصب، وخاصةً في أوقات الأزمات، ليس مجرد حق؛ بل قد يصبح واجباً. وكما أن الجندي مُلزم بالدفاع عن الوطن عند الحاجة، فقد يُطلب من بعض المواطنين، بحكم كفاءتهم أو مناصبهم، تحمّل مسؤولية السلطة. لا يُعتبر الرفض هنا حيادًا، بل انسحابًا سلبيًا من واجب المشاركة في إنقاذ الدولة أو المجتمع، مما يجعل الجدل القانوني حول تجريمه مشروعًا وجديرًا بالاهتمام.
باختصار، لم يعد القانون الجنائي يقتصر على معاقبة الأفعال الضارة، بل أصبح ينظر بجدية إلى الأفعال السلبية التي يُسبب الامتناع عنها ضررًا جسيمًا. يجب تنظيم تجريم الامتناع عن تولي مناصب السلطة في أوقات الضرورة بشكل صارم لضمان عدم استغلاله سياسيًا. كما يجب التأكيد على أن المسؤولية الجنائية لا تكمن فقط فيما نفعله، بل أيضًا، أحيانًا، في تقاعسنا، عندما يكون في وسعنا إنقاذ الأرواح ونختار الصمت.