22 ديسمبر، 2024 10:53 م

التقاطع والتوازي : في المغيب المضيء

التقاطع والتوازي : في المغيب المضيء

1 – فن القراءة :
الكثير من الشعراء – مقداد مسعود أحدهم – ما عادوا يكتبون الشعر للقارئ الأبيض، الفقير القارئ الذي لا يمتلك ذخيرة معرفية من أجل الوصول إلى مكنون القصيدة. بل القصيدة نفسها لم تعد بحاجة إلى ذرائع تبعد عنها ما يسمى بسوء الفهم أو الغموض، أو ابتعادها عن الوضوح ودخولها منطقة الالغاز. القارئ اليوم يبحث عن قصيدة أخرى غير التي يقرأها. قصيدة ليست هي النص المكتوب. بل التي تتشكل داخل مختبر القراءة. اي أن هناك نصاً آخر يتخفى وراء تعدد القراءات .
هذه القراءات توفر حالتين متداخلتين
حالة القراءة التي تتدخل بصناعتها الذخيرة
حالة الكتابة التي تصنعها القراءة الأخيرة
إذاً هناك نص مقروء كتبه الشاعر
وهناك نص متخيل ينتجه القارئ
وحين تتعدد القراءات تتعدى النصوص المنتجة/ المتخيلة ومن ثم يتعدد الشعراء القراء الشعراء الآخرون
إن القراءة في يومنا هذا لم تعد إلا هماً. قد يتجاوز تأثيره دور الكتابة عموماً. إن اي إحصائية بسيطة، ستقدم البراهين والأدلة على أن أعداد الكتاب شعراء وقصاصين، وروائيين، نقاد، وتشكيليين، مسرحيين وسينمائيين، صحفيين أدباء، وأدباء صحفيين وكل من يهتم بالمدونات وكافة أشكالها لا بد لهذه الأعداد من أن تشكل أعداداً مضاعفة تفوق وبشكل لا يصدق أعداد القراء عامة، معنى هذا أن مجموع القراء ولجميع أنواع المدونات لا يشكلون إلا جزءاً يسيراً، من الكتاب، بل أن القسم الأغلب من الكتاب في يومنا هذا وداخل جغرافية العراق تحديداً ما عاد يعير أهمية لدور القراءة في الابداع والتجديد، بعد أن دخل المجتمع العراقي مؤخراً وبقوة تحت سلطة المشافهة والخطاب الالقائي/ المنبري مما يؤدي بالوضع الثقافي لهذا النوع من الكتاب إلى الدخول في نفق الاندثار.
إن المجتمعات المتجددة/ المتطورة هي مجتمعات قراءة – ثقافة مقروءة وليست ثقافة مسموعة – هي مجمتمعات المدونات وليست المشافهة حيث تكون القراءة حالة تواصل واتصال، حالة امتلاك لتصورات تواكب حركة المجتمع التي تجتاح الاعماق، وليست المسطحات.
2 – تقنيات :
في مفاتيح الشهيد: يوظف نفسه كحالة من حالات سلطة القصيدة – وليس الشاعر فحسب ، تقنيات بالاحتفاء، وتقنيات النص المدون، منذ بدء الخليقة كواحدة من وظائف الكهان والرهبان ورجالات الدين.
فهو – اي النص – ينطق باسم حشود واسعة استطاعت أن تقف بوجه القوة السوداء.
صحيح أن المتابع للتاريخ أثارياً سيجد قبوراً لزعماء وقادة وسلاطين وأمراء لرؤساء وقتلة وسفاحين وصحيح كذلك أن هذا المتابع ورغم التقنيات والحفريات لن يجد مقبرة واحدة للعامة من الشعوب وذلك بفعل قوة سلطة الدولة بكل أنواعها، قديماً وحديثاً، الدولة التي انتهجتها حركة المجتمع، فعملية التنقيب حالة شاملة تكاد تلقي بظلالها القاتمة على الجميع، أفراداً وجماعات أفكاراً ومنظمات، وعلى كل من استطاع أن يقف بوجه الطغاة.
(مفاتيح الشهيد) نص يذكر القارئ بـ (مفاتيح الجنان) ضمن عملية تقترب أو تبتعد من حالة تناص رغم الاختلاف والوقوف فكرياً ضمن طرفي المعادلة، مستفيداً من الحس الديني، الاحساس بالشهادة في مخاطبة الموت والشهداء والمغيبين.
الشاعر هنا يحاول امتلاك – إن لم يكن قد امتلكها فعلاً فيما بعد حالة من الأبوة بفعل تقادم الزمن، إحساس الشاعر بالزمن وعدم إحساس الشهيد به. أي دخول الشاعر فضاء الأبوة زمنياً. واحتفاظ الشهيد بالأخوة التي تقترب حينها من النبوة، زمن متحرك بالنسبة للشاعر، زمن ثابت بالنسبة للمغيب إذ يتحول الشاعر في هذه اللحظة إلى مجموعة أحاسيس/ مجموعة حواس من أجل خلق حالة من المجسات/ المسابير التي تصنعها حالة اليتم، والتي تخلقها عملية قتل الأب.
إن – مقداد مسعود – يستفيد من الشفاهية الدينية رغم مرورها بحالة التدوين توظيفاً، وصولاً إلى حالة من التداخل/ الاندماج، مع الآخر.
فتقنية الخطاب الذي يسلكه التابع في مناشدة المتبوع وفي الفكر الصوفي علاقة المحب بالمحبوب ” العبد بالمعبود ” ضمن حالة من الخطابات التي تبثها تشكيلات دينية في الاحتفاء بالمخاطب، كمرجع ديني – روحي لحظة الاحساس بالشطب/ اليتم، متبعاً صيغاً/ أشكالاً قد يكون فيها الكثير من الثبات لكن الخطاب الآني المغاير يضخ إليها حراكاً وتحولاً تلغي سكونيتها وصولاً إلى هندسة بناء معاصرة تذكرنا بالماضي/ الخامل من أجل صناعة قصيدة، مستفيداً من حداثة المدونات وكذلك من المنتج الديني في الإنشاء وإقامة المعنى وتتحول العصا وقدرتها على صناعة السحر/ التغيير إلى مطرقة، مستغلاً قدرة النص الشعري، في تحويل الخطاب السحري – كحالة إيهام – إلى خطاب واقعي بدلاً من تحول الواقعي إلى سحري– ضمن حالات من التبادل الموقعي/ المكاني. كما هي الحال في خطابات الواقعية السحرية سردياً.
مقداد مسعود، في معظم نصوصه، كائن غير قابل للخمول شاعر متحول ومعه تتغير الأدوات أدوات الإنشاد والكتابة، عاملاً على تشغيل المهمل، الذي لا يثير الانتباه والذي يتحول بأفواه العامة إلى حالة استهلاكية غير إنتاجية.
هذا المهمل يتحول بين يدي الشاعر إلى صيغة فعل إنقاذي حيث تتحول صيغة الأدعية والتوسل والتضرع ونصوص شفاعة إلى وسائل لخلق حالة خطابية موجهة للوطن وللشهادة والفكر.
ولأن الشعر نتاج بدائي ديني، من أجل خلق حالة من ارتباط ما بين الأرض والسماء، الواقع والميتاواقع ما بين الملموس والمحسوس. حالة لجأ إليها الإنسان البدائي/ الساحر أولاً، وصولاً إلى الماوراء.
نجد الشاعر اليوم/ الساحر بالأمس قد اتخذ من تلكم الحالة وسيلة لكتابة خطاب لا ديني. خطابي واقعي، اي أن الشاعر يعمل على قلب المعادلة تلك التي تقول – أن الواقع وبتفعيل من الشاعر يتحول إلى لا واقع – .
إن قلب المعادلة تقول – وبتحول من الشاعر نفسه – وهنا هو مقداد مسعود بنفسه يتحول اللاواقع / الميتاواقع إلى واقع شاخص/ ماثل أمام العين العاقلة .
إنه – الشاعر – يعمل على تثوير الشفاهي المتعارف عليه الذي لم يكن في يوم ما يشكل خرقاً أو يثير غرابة (بسبب سيادة الحس الديني واستقباله من قبل المتلقي بعيداً عن النقاش أو الجدل أو البحث عن المسبب والهدف، استقبالاً ليس بحاجة إلى وعي وإدراك أو معرفة) بل لا يتجاوز دوره خلق حالة موائمة – هي متوفرة بسبب الحس الجمعي المتوارث ما بين الضعيف والقوي، عبر حالة متأتية من الشفاعة، حالة الضعف هذه يحولها الشاعر إلى حالة من القوة من حالة الخضوع للقوي، إلى حالة احتفاء بالقوة. إذ القوي لدى الشاعر ليس سوى الوطن.
” يا أجمل الجميلين ،
أيها القائم الدائم يا وطني ” ص12.
إن الخطاب الديني المعتمد أصلاً على صيغة المخاطب المتبادل ما بين طرفي القول/ الشفة – الأذن أو المرسل والمتسلم ضم آليات التلقي هذه الصيغ المتبادلة، يعمل الشاعر على مدوناتها، ليتحول هذا الخطاب الديني – كشكل – إلى خطاب دنيوي.
لقد استطاع الشاعر أن يحول الروحانيات المشاعة والمستخدمة بعيداً عن التصميم والقصدية ولوقوعها في التلقائية، هذه المشايعة اكتسبت حالة من الخصوصية التي تقترب من الابداع الشخصي.
3 – القراءة / الكتابة :
” لهتك الستار سأكون جراحاً ” ص39
لو كان الشعر الذي يكتبه – مقداد مسعود – سهلاً لتمكن الجميع من كتابة الشعر، ولأصبح الشعراء أكثر العاطلين عن العمل وإن كان كتاب الشعر في يومنا هذا أكثر من القراء.
لأن القراء ليس من الأعمال السهلة، بل أن الكثير من الشعراء خاصة والكتاب عامة لا يحسنون صناعة القراءة كفن إبداعي قد يفوق الكتابة أهميته.
إن الكتابة لم تكن في يوم ما – ونعني بها الكتابة الإبداعية – حالة تسطح بل أنها محاولة لغور الأعماق والبحث عمن يقف خلف القناع [بعد أن تداخلت الوجوه والاقنعة وما عاد من السهل التمييز بين الاثنين عبر حالات الانفعالات والمكياج الذي اكتسبه الوجه الثاني/ القناع] وإلا فلماذا يعمل الشاعر – جاهداً – على الوصول إلى محنة الطبيب الجراح / الآثاري أو الجراح / المنقب والباحث عن العالم المتماهي خلف العالم المرئي.
إن هزال الحياة وخمولها لن تتمكنا من الظهور على السطح، إلا بسبب غياب الأحساس بوجود حالة مغيبة قسراً ولذلك يعمل الشاعر/ الجراح على خلق حالة فتق/ سرد/ جرح حالة خرق لتتولد عنها حالة حفر وتنقيب في جسد الشعر، لكي يتمكن القارئ من التعرف على أسباب الوهن، وأسباب اللذة/ المتعة.
في هذه اللحظة يتحول القارئ/ القراءة إلى ما يشبه/ يقترب من الشاعر/ الكتابة في خلق حالات عزل، وحالات انتخاب/ اختيار، حالات من الشعر واللاشعر كل هذا يتم عبر توفير ذخيرة معرفية توفر للكاتب علامات ودلالات يتمكن عبرها من تحديد مسارات الكتابة، ومسارات الحياة / القراءة.
4 – التقابل والتوازي :
في ” المغيب المضيء ” يظهر النفي في صناعة الآخر والاثبات من إنتاج الشاعر بشكل واضح حيث تلعب الذاكرة دوراً أساسياً في صناعة النص الشعري بنية وتفاصيل.
إن المتابع لأزمنة كتابة القصائد، سيجد أنها محصورة ما بين عامي 1989 / 2003 إن عملية إقامة صروح القصائد جاءت بعد نشوة الفعل المضاد الذي قامت به سلطة القمع – اي أنها اي القصائد، أو معظمها، جاء نتيجة ذخيرة استذكارية خاضعة لعملية انتقاء طويلة، وليس كرد فعل عاطفي فج يعتمد الاشتغال المحكوم بقوة الإحساس بالغياب الجسدي.
إن – المغيب المضيء – كقصائد تعتمد الهدوء، ومحاكمة الفعل المضاد وفق أدلة وبراهين، إذ أن الفكر هنا – هو الأساس – / الفعل التنويري في خلق المواجهة.
” ماذا بيمينك يا محمود
مطرقتي لألاقي راس الخنزير
ويسارك
من أنيابهم زرقاء ”
مستفيداً من خلق حالة التناص مع الآية القرآنية : وما تلك بيمسنك يا موسى ، هي عصاي اتوكأ عليها وأهش بها على غنمي . إن قراءة عرفانية تنويرية – يمتلكها الشاعر – لقادرة على أن تخلق حالة خرق توفر له فتوحات أخرى تمكنه من أن يصنع/ يصوغ أفكاراً وثيمات جديدة، وسط فضاء يعتمد الكشف عن حقول غير التي استطاع الآخرون أن يضعوا بصماتهم فوقها .
إنه – اي الشاعر – محكوم بانشغالات حادة، تحاول أن لا تقيم فناءاتها على جغرافية الغير بل ما يراه القارئ كثيراً هو ما يشدد على استخدام المسبار/ المشرط للانفراد بلعبته/ النموذج المراد وضعها في مختبر التحول والحراك للكشف عن قدراتها على تحمل تعدد الأوجه وتعدد الاحتمالات.
نفي/ اثبات، حضور/ غياب، يمين/ يسار، العصا/ المطرقة في ” ليس هناك شيء يذكرني بشيء ” ص32 يتحرك الشاعر خالقاً حالة تمويه عبر عدم تسمية المخاطب/ الطرف الآخر لتتمكن القصيدة من الانفتاح على أعداد غير متفق عليها وذلك عبر عدم توفر العنوان الذي تصل إليه الرسالة فلا مرسل إليه، ولا شروط للاستقبال فالبث المفتوح، والاستقبال مفتوح كذلك.
إنه التناقض، تناقض الحياة، تناقض الأفكار، اخراج المتحرك من بطن الخمول وإنتاج الخمول من المتحرك اي تناقض النفي والاثبات.
صحيح إن القصيدة تمثل نصاً لا يحتمل الانغلاق/ الرسالة المعنونة بل هو دعوة إلى ارسالية مفتوحة إلى القارئ غير المحدد/ غير المعروف، لا يحمل توجيهاً محدداً ولا يبحث عن متلق ذي مواصفات وملامح محددة، ولكن بنية القصيدة لا توحي إلا بوجود قارئ وهو نموذج لمجموعة هائلة على الرغم من عدم توفر وجود اتفاق مسبق من القرّاء.
قراء مختلفون قراء ممسكون بالتحول، قراء قادرون على إدارة ورقة العملية القراءاتية من أجل صناعة نص من إنتاج المتلقي.
إن الشاعر في هكذا نص/ أو نصوص شعرية، لا يمكن أن يخضع لحالة استهلاك سطحية فالتقابلات التي يخلقها النص إذا ما اعتبرنا أن الشاعر وسط ناقل/ كاتب، وسط كتابي – للنص، وإن لم يكن متفقاً عليه مسبقاً ما بين الشاعر والنص الذي لم يكتب بعد فالنص مكتوب وان كان في حكم الغيب/ الميتاكتابة ورغم ذلك يظل النص الشعري غير مقدس اي أنه خاضع للتغير خاضع لسلطة الإبداع تلك التقابلات ما هي إلا بعض بنية القصيدة التي تدفع بدلالاتها غير المهيأة لتلغي توقعات القارئ، وتحوله إلى صفحة بيضاء. قد تقترب من الطرس. وإن لم يكن هو هذه الأطراف الحاملة للاختلاف والتناقض رغم فنطازياتها إلا أنها تمتلك ملامح من الواقعية، والكثير من الصميمية إلا أنها – التقابلات – حين تخرج من مختبر الشعر، تخرج شيئاً آخر. شيئاً بعيداً عما في ذاكرة القارئ رغم تحولاته التي لا تفارقه ورغم كل هذا فالشاعر قد يضع القارئ أمام حقائق على الرغم من عدم اعتراف الشعر بالحقائق فالحقائق حالة اثبات والشعر حالة حراك.
التناقض في ” ليس هناك شيء يذكرني بشيء ” يشكل طرفاً مهماً في تكوين المنجز الثقافي والذي يشكل بدوره ركيزة/ فضاءً لا يمكن للحضارة، أن تنشأ وتقوم بعيداً عن تأثيرها على التشكيلات البشرية أما هكذا قصيدة – كمنجز إبداعي – يطلق الشاعر تصوراته عبر احتفاظه بثلاثة دون البقية.
القصيدة / إبداع
الفكر / القميص
الأبيض / التطلعات
هذه التقابلات وما شابهها يستعملها الشاعر كموطئ قدم في أرض بور لم تسحقها / تدوسها قدم أو حافر، أو خف بعير، أو إطار حافلة.
في القصيدة (تعويذة التوازي)/ ص34 حيث يصرح الشاعر ومنذ البداية ، بهندسة القصيدة عبر خلق حالات من التوازي أو المتوازيات، كاشفاً عن المخاطب/ عبر تداولية الكلمات التي تشكل مفتاح القراءة. وعلى الرغم من هكذا مفاتيح فإن القارئ لا يمكنه إلا أن يوفر معلومته في سبيل الدخول إلى القراءة، إذ أن مفتاحاً كهذا، لا يمكنه أن يفتح جميع الأبواب/ مغاليق النص علماً أن الكثير من هذه الأبواب تحتاج إلى حالة من السحر/ مفتاح.. عصا/ مطرقة وإلى الاستعانة بأفكار وليس بمفاتيح من معادن.
إن تعويذة مقداد مسعود هذه، بحاجة إلى ساحر ؟؟ ثائر. يفكك الرموز/ الحلقات ويزيل الغموض عبر الكشف عن حالات من الترسبات التي حولت القاع – أقصى حالات الشعر – إلى خزائن للماضي [ فليس أجمل من أن يتحول المنقب عامة، والشاعر خاصة إلى حالة تقرب من الدلتا/ المصب. إلى أماكن – ترسبات الأنهار الثقافية – من أجل نشوء تربة إبداعية قادرة على استنبات ثقافات جديدة، تصنعها حالات التراكم الكمي] .
خزائن بحاجة إلى قارئ منقب/ حفار. قارئ قد يكون آثارياً ليتمكن من العودة من مهنة القراءة بالغنائم التي قد يفتقدها حال انتهائه من القراءة مما يدفعه إلى أن يمارس عملية القراءة بعيداً عن التكرار بعيداً عن برمجة ميكانيكية. إن القراءة العاشرة أو ما بعدها لا يمكن أن تكون في عرف القارئ إلا قراءة أولى.
5 – تعاويذ :
الشاعر مداد مسعود لا يتردد لحظة في منح الاقتصاد، ومنتجاته، فضاءات شعرية، رغم توفر حالة من المقاطعة ما بين الروحي/ الشعر والمادي/ الاقتصاد حيث يتحول الضوء من فضاء للرؤية إلى فضاء للمحور/العتمة.
” ومحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ” قرآن كريم
إن استخدام الشاعر لفضاء التعاويذ الدينية ” المعوذون ” وتوظيفها من أجل صناعة حالة التناقضات وكذلك الاستفادة من تلك النصوص القرآنية، من أجل خلق حالة خرق، وسط نص شعري وسط هكذا فضاء متسائل يصنع الشاعر حالة اتصال/ تواصل، روحية/ ذهنية لتمتين موقفه في مواجهة القطع/ الانقراض. الذي قد تحدثه، قوة المال/ المعدن. والذي تواجهه حالة الغنى – الإثراء/ الفكر.
إن لجوء النص الشعري وبمساعدة الشاعر إلى نص قرآني ضمن واحدة وكصيغة شكلية، من المعوذتين هذا اللجوء لم يكن حالة للإحساس بفقر أو ضعف بل ضمن حالة اصطفاف ما في الروح من القوة إلى جانب قوة الفكر.
” أعوذ من ظلمة المال
من شرها
وشر ما فيها
وشر ما بعدها
أعوذ من ظلمة المال
من شراسة جنونه
أعوذ ” ص39 .
إن تداخلاً كهذا وسواه وضع الشاعر وسط فضاء من انتقاء الصورة والمفردة، انتقاء بعيد عن قسوة النظام المهيمن. الذي يحول القصيدة إلى قفص والشعر إلى ريبورت على هيأة طائر مغرد ليخسر القارئ والشاعر، مهمتي القراءة والكتابة اللتين لا بد لهما من إنتاج نص يعمل على الحراثة في الأرض البور في الأرض التي لم يصلحها ” الدسك ” قرص المحراث الدائري.
صحيح الحراثة في البحر عملية غير شاقة ولا تنتهي ولكنها غير منتجة واستهلاكية تكلف الشاعر جهداً وأزمنة، وإحساساً بالخسائر ولكن لا يمكن أن تكون قادرة على خلق حالة إثبات وإذا ما حدثت حالة إنبات مفترضة، فهو إنبات خارج الرحم/ لا يمتلك حالة تجذير.
مقداد مسعود – كشاعر – في جميع القصائد يبدو منتجاً يقف بعيداً عن الإحساس بالقناعة أو بالقبول بالأمر الواقع أو المتعارف عليه هذا الرفض لما بين يديه متأت من مساعيه إلى البحث عن الاستثناء هنا، والاستثناء هنا ليس الدخول في لعبة التغريب أو الغرابة بل هو البحث عن الأرض التي تبحث بدورها هي أيضاً عمن يصنع لها ملامحها وطوبغرافيتها البعيدة عن التماثل الباحثة عمن يحفر فيها – اريكولوجيا – ليخرج خبايا طبقاتها البعيدة عن الكشف.
بل أن الزمن يشكل عنصراً مهماً من عناصر حراك القصيدة
الزمن لدى مقداد مسعود ليس حالة انقراض، أو اندثار بل حالة مواصلة وتجدد بل أنه يحاول أن يستحضر الزمن نفسه وليس الإحساس به فحسب كحالة ذكرى.
” نهضت فينا الخضرة المصفرة
وأوجاع الإنسان
هبط الحماس
أرتفع السكري
نجحنا
كيف جنحنا صوبك يا أقاصي الخريف ” ص42.
6 – القراءة / العصا :
قناعة القارئ بما يقرأ حالة شحيحة الحصول، إلا أن قراءة يتيمة – تلك التي يمتلكها معظم من يستطيع فك الحروف اي القراءة غير المحسوبة على العملية الإبداعية – والتي يقوم بها القارئ الأبيض لا يمكنها أن تتجاوز الذي في متناول اليد وصولاً إلى ما خلف الخضرة المدلهمة ” ص52.
” وصولاً إلى
بالحصى رجمتني
رأيت الحصى
كلاباً سلوقية
لأنه شاهدها تستحم
حولتني غزالاً ” ص51 .
ورغم واقعية الكتابة التي تجنح نحو التحليق فإن فنطازيا الصورة/ فنطازيا التحول، تشكل ملحماً مهماً من ملامح الصناعة الشعرية التي ينتجها الشاعر. فبدءاً بالعنوان/ الثريا يكون الغياب الجسدي غير قادر على إلغاء الحضور الروحي الفكري/ الضوء.
فالذاكرة القادرة على استحضار المغيب، هي نفسها القادرة كذلك على ابتكار تكنيك المغايرة.
فالشاعر يدخل فضاء الشعر، عبر بوابة التقابل مرة والتقاطع/ التناقض مرة أخرى ويدخل معه القارئ لا ليتركه وحيداً وسط قلق الأسئلة بل نراه ومنذ البدء في الصفحة ألولى ” المغيب المضيء ” قصائد موضحاً لقارئه إنه أمام مجموعة قصائد اي أمام مجموعة تجارب تعتمد الخصوصية وليس أمام حالة مبهمة كأن تكون تحت عنوان – شعر – يدل على أن هناك تجارب شعرية لها أشكالها ومعماريتها – هذا دليل أول على علاقة الشاعر بالقارئ.
في الصفحة الثالثة هناك الإهداء [ الذي أستل من خلال عنوان مجموعة القصائد ] المعلومة التي قد يستند عليها الكثير من تلكم التجارب/ القصائد وهذا دليل ثانٍ.
في الصفحة الخامسة هناك دليل قراءاتي وضعه الشاعر تحت عنوان ” أصوات في صوت واحد ” قدم عبره مجموعة معلومات معارفية في محاولة منه لإلغاء الأقفال والأبواب المؤدية نحو الشعر، مستبدلاً إياها بخطوط وهمية، قد يعتبرها القارئ الأبيض، حواجز وعوازل وموانع ولكن العين الكاشفة، هي وحدها القادرة على استغوار المديات، وإماطة اللثام، ليجد القارئ نفسه واقفاً وسط جغرافيات الشعر، ويده بيد الشاعر، يتحركان وسط مجموعة أزمنة وأمكنة منتقاة، تحمل مبررات اختراعها، أو اكتشافها من قبل كائن بشري كائن هو الوحيد المتمكن من مغادرة موطن قدميه، من غير أن يبتعد عنه إنه الكائن/ المخيلة، الكائن الذي يعيش في المكان الذي يحتل الفراغ.
أي في اللامكان/ اليوتوبيا
وهذا هو ثالث الأدلة
ورغم محاولات الشاعر صناعة الانفاق المؤدية إلى الحلم فإنه يظل ممسكاً بعصاه السحرية التي لا يحسن استخدامها سواه، هذا الاستخدام الذي من الممكن أن ينتج مجموعة هائلة من المعارف والعرفانية/ الروحانيات، التي ستضيء له حلكة المعاني عندما يشتد الشطب ويصبح التغييب وسيلة الآخر في الانتصار على الضوء.
7 – الوقائع المتغيرة :
واعترافاً من الشاعر بالوقائع المتغيرة والتوجيهات القراءاتية/ المقدمات، وذلك حين يوفر حالة توضيحية عبر عملية كشف للكثير من شواغل القصائد.
[ على الرغم من أن الكثير من المهتمين بعملية النقد يعتبرون هكذا عمل هو عملية تدخل في شؤون القارئ وعملية الغاء للحيادية التي يستقبل عبرها المتلقي النص ].
تلك العملية ذات الفعل المزدوج، الفعل الذي يلغي خبايا القصيدة مما قد يفقدها قوة المفاجأة التي من الممكن أن تحدثها لدى المتلقي أي يضعها وسط حالة من التسطحات بعد أن يسلبها قوتها المتوفرة في العمق يقابله في الفعل المضاد، عدم اعتراف الشاعر بقوة القراءة،وقدرتها على الوصول إلى الكثير من التمويهات، التي أوكلت مهمة فضحها لمسبار القارئ. مما يؤدي إلى حدوث حالة من الخمول التي قد تعمم فعلها المضاد على الكثير من طرق القراءة في تحليل وتفكيك النص، وإعادة تشكيله وبنائه. وصولاً إلى حق القارئ في كتابة نصه المنتمي إلى مفروزات القراءة المغايرة.
إن محاولة الكتابة عن قصائد مقداد مسعود تدخل المتابعة في عملية الكتابة عن الشعرية، حيث تتحول التجربة الفردية، إلى حقول تابعة للتجربة الجمعية، تلك الحاملة لمعاني الكشف والفضح رغم تمتعها بالكثير مما يحتاج إعادة بناء عبر خلق حالة من الترابط التي تفرضها التجربة ذاتها التجربة الجمعية .
إذ أن تلك المقدمات التي كثيراً ما تلغي مكتشفات القارئ للكتابات الشعرية التي تحاول بناء كيانات/ معمار لا بد لها من أن تبدو مغايرة لما هو سائد هذه المغايرة التي قد ترمي بالقارئ الكسول إلى خارج عملية القراءة.
كل هذا من أجل أن يبعد الشاعر هذا الطرد/ العزلة الذي تضطر إلى صناعة المعارف التي ضخها الشاعر في النص أو التي قام النص بإجبار أو إغواء الشاعر على دفعها إليه.
فثقافة القصيدة هذه تخلق حالة افتراق ما بين الشعرية المكتوبة والحالة القرائية المفترضة المفتقرة بالأساس إلى أجندات تحولها من مجرد قراءة اعتيادية/ غير منتجة إلى قراءة إنتاجية متميزة.
العديد من القصائد تحاول تغيير وجهة العلاقة ما بين الشاعر والوطن ما بين الشاعر والفكر ما بين الشاعر والشهادة. وذلك عبر تبدل صيغة المخاطبة إلى المناجات ومن البحث على عكازة/ الاستعانة إلى البحث عن الشراكة عن صناعة الجغرافية والمستقبل والإنسان وعن الشعر. فقصائد مثل
مفاتيح الشهيد ص6
ومن مقام الغريق ص33
وليس هناك شيء لا يذكرني بشيء ص32
وتعويذة المتوازي ص32
والتفاصيل في سياق التقرير الآتي ص17
وحفريات حلم قديم ص41
ومسعود الثاني ص45
وقصيدة النوم ص29
والتاسع البرتقالي ص20
هكذا قصائد لا يمكن للقارئ إلا أن يحجز لها قراءة متميزة في الذاكرة الإبداعية. من الممكن أن يعود إليها متى شاء ليستثمر قوة القراءة في عدم الاستغناء عن المعرفة .
8 – قراءة تعريفية :
إن أية قراءة تعريفية للصفحة الأخيرة من الغلاف، تبين للقارئ المدى المعرفي الإبداعي الذي يمتلكه الشاعر مقداد مسعود في حقول الكتابة المتنوعة والمغايرة فهو يكتب
الشعر ، وله خمس مجاميع أو أكثر .
النقد والمتابعة وله خمس مخطوطات .
السرد والقص وله خمس كتب .
المسرح وله أكثر من كتاب
التفسير والتأويل وله أكثر من منتج .
إن الكتابة وعبر هكذا تنوع، يتطلب معارف إبداعية لها من العمق والاتساع ما يمنح الكاتب/ الشاعر القدرة على التنوع الإبداعي في حقول شتى . إن متابعة بسيطة تبين العبء الذي يتحمله المبدع عامة، ومقداد مسعود خاصة. ومدى ثقل المسؤولية التي تقع على عاتق المثقف في مواجهة فتنة السلطة القامعة/ فتنة رأس المال.
إنها مهمة المثقف المتنور، المثقف الماسك على جمرة الحياة من أجل أن لا تنطفئ الأسئلة، أسئلة الإضاءة التي تركها خلفه – المغيب –
[ الصابر / الظافر/ المحتسب/ المقبل غير المدبر
محمود الصفات
محمود ألفعال
محمود الصفات والأفعال ] ص60
و [ الذي سفك دمه
في طاعة وطنه
فتشرد أهله
ولم – في الذلة – يتقوسوا ] ص16
وبدلاً من أن يكون إنسان الشعر ضعيفاً متردداً غير قادر على اتخاذ قرار المواجهة والإصرار على خلق البدائل نرى أن مقداد مسعود لا يعمل على صناعة الشك، أو صناعة التصورات الهشة، غير القادر على إقامة صيغ فكرية تحمل المغامرة.
إن قصائد مقداد تبدو طافحة بالبحث غن اللغة، وعن الصوة، وعن بنية النص الشعري، أما المواضيع فقد باتت تقف بالقرب من منها. فالمواضيع مشاعة، باستطاعته تناولها، ضمن أفعال شعرية آنية، وذلك ضمن محاولات اختراق واضحة، لبنية القصيدة التي انتجت على ايدي الستينيين والسبعينيين، من الشعراء الذين استطاعت القصيدة أن تخرج على عقال القصيدة المتداولة.
إن مقداد يعمل على منح القصيدة الواقفة بعيداً عن الفضول، البعيدة عن الاسعجال البعيدة عن الاستهلاك فرصة لتتلمس حراكها الذي كان غائباً، والذي استطاع الشاعر أن يستله من بين ركامات القول والكتابة/ فهو يصر على كتابة معوذته التي تقيه أمراض رأس المال وما أنتجته الأسلحة وما يطلع من الفقر، كل هذا من أجل أن يتخلص:
[ الولد الكهل، المنحوس الماثل بين يديك
شك
المتوله بك
مقداد ولد مسعود ] ص40 .
لكي نتخلص من الإحساس بالاخفاق تحت ثقل/ السلطة الحذف، ومن [ وحوش السوق الغابة] ص39 وإذا ما كان هناك اهتمام بالموضوع. وكثيراً ما تكون مواضيعه فكرية، فهو اهتمام يحاذي اهتماماته بما تفرز اللغة من خلال إحداث حالة حرف/ ابعاد التعابير عن المعتاد عليه، وخرق جدار الخمول الذي ينتجه تكرار تقبل الشيء ذاته. والذي لا يبتعد كثيراً عن اهتمامه بفنطازيا القصيدة. تلك التي لا فضاء ولا حاضن لها سوى مخيلة كل ما لديها هو التحليق بالقارئ نحو فضاءات أكثر اتساعاً حيث يتحول الواقع إلى حلم. والقارئ إلى شاعر يحمل مهمة إكمال القصيدة .

* المغيب المضيء، قصائد، مقداد مسعود ، شركة دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر ، 2008