18 ديسمبر، 2024 5:14 م

التقابل والمفارقة في القصة القصيرة قراءة في المجموعة القصصية (طقوس لا تعرف الحياء) للقاص احمد الجنديل (الهجرة الى البحر) أنموذجا.
 “وعند الفجر، أيقظني صياحُ الحارسِ الليلي من حلمي ومن لغتي:
ستحيا ميتةً أخرى. لقد تأجل موعد الإعدام ثانيةً.
قلت: إلى متى؟
قال: انتظر لتموت أكثر. (مظفر النواب) .
ان البحث في في اي نص ادبي في الكثير من احواله هو بحث عن الفردية الخاصة لكل مبدع والفردية في هذا السياق هي الفردية الأسلوبية والفنية والفكرية التي تميزه عن غيرة من الكتاب ، ومن ثم فإن البحث عنها وتبيان تميزها يكون من خلال النص الذي أنتجه الكاتب واعتمده لنفسه كناطق رسمي عما يمتلكه من إمكانات ورؤى تميز ذلك النص. والقصة كغيرها من الاثار الأدبية ابداع أداته اللغة والاسلوب حيث تتسع مجالاتها لكل ابداع ذو طبيعة لغوية وفنية واسلوبية دون ان تعتمد على قواعد جاهزة، وهي فن مادته الشخوص والاحداث ووسائله التقنيات الفنية على اختلافها .لقد قدم كتاب القصة في العراق بمختلف أجيالهم جهدا مميزا لخلق قصة عراقية بعد ان كان ذلك الفن حكرا على القصص المعربة والمكتوبة لكتاب غير عراقيين ، كما تجلى دورهم كذلك في في جعل إنتاجهم القصصي ينصب على كشف وتشريح للواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي للعراقيين بغيت  التأثير فيه من خلال رصد جميع مواطن الخلل والإشكاليات لاجتماعية والثقافية .تعتمد  المجموعة القصصية ( طقوس لا تعرف الحياء ) للكاتب احمد الجنديل والتي صدرة سنة ٢٠٠٩ ، في بنائها على قوة العلاقة بالانسان  كفرد مؤثر في  قضايا مجتمعه الاساسية وان تجاهل هذه الخصوصية  للانسان الفرد في المجتمع هو اهم الأسباب التي أدت الى تعميق الإحساس  لدى الانسان بالنكوص والتقهقر الإبداعي والحضاري وغياب حضوره المؤثر والفاعل في المجتمع ،والعراق هو واحد من هذه المجتمعات التي تعتمد عبر منظومتها الثقافية والسلوكية طمس دور الفرد داخل المجتمع من خلال إعطاء دور وفاعلية للوعي الجمعي التقديسي والسلطوي على حساب التميز الفردي والإبداعي  ،  وهذا ما يحسب للكاتب في العديد من نتاجاته الأدبية والتي قدمنا بعض منها في بعض الدراسات النقدية حيث تبداء المجموعة باستهلال جميل يكشف عن حجم الثقل الذي يعيق ولادة ذلك الانسان القادر على تهشيم هذا الوجع الثقافي الذي نرزح تحته منذ ان تداعت كل محاولات التجديد والتطوير الحضاري في مجتمعات مسكونة بهاجس المثل والاعراف الصنمية الجامدة ( لا احد يستطيع اغتيال الشمس في داخلك ، ولا احد يستطيع اغتيال خيالك ، وخرافة تلك التي تقول : ان الصحاري تحاصرك لتقطع عنك طريق الابحار صوب محيطات الضوء ٠٠) لقد اعتمد الجنديل في جميع قصص المجموعة اُسلوب التقابل والمفارقة في بناء الشخوص والاحداث كما واعتماد دلالات رمزية مفتوحة على الكثير من المعاني  والإشكاليات الانسانية والثقافيةالتي تعج بها مجتمعاتنا  ، ففي قصة (الهجرة الى البحر ) التي اخترناه كنموذج توفرت فيه جميع العناصر الفنية والاسلوبية والفكرية للمجموعة  ،حيث تعتمد  هذه القصة في الكثير من أجزائها على اُسلوب  التقابل والمفارقة  بشكل جلي ،تبداء من العنوان الهجرة الى البحر ، فتقابل مابين لفظ الهجرة والبحر تقابل له معاني ودلالات كثيرة عند المتلقي فطالما ارتبط مفهوم الهجرة بالبحر كعامل مساعد للهجرة لكن هذا التقابل في اللفظ سرعان ما يأخذ  اُسلوب المفارقة من خلال تداعي المعاني اذ (( الضد او المقابل يجلب للزمن ضده او مقابله و يخفي الكثير من المفارقات المنتجة للسخرية والاستهزاء ومن ثم النقد لكل أشكال التضحية بالفرد هذه المفارقة حيث ان التقابل في المواقف في السرد ينتج لونا من المفارقة على مستوى الأحداث ؛ حيث تتصارع الأحداث ويقابل بعضها بعضا ، وتبدو الشخوص متقابلة الرغبات متعارضة المفهوم يقابل بعضها بعضا وقد تنقلب المكيدة على صحابها او يفيق الغافل عن غفلته فيقطع على صاحب المكيدة مكيدته حيث يجري على النقيض مما يخطط او ماهو منتظر .( تأخذني اللعنة حيناً ، اقفز بين محطات العتمة ، وأغرق أحياناً بين خطابات الوالي ) اذ ان هذا التقابل مابين الخوف من التمرد على ما هو سائد والرغبة بالتمرد عليه ينتج لنا مواقف متعارضة بين ما اطمح الى تحقيقه من رغبة وإحساس بوجودي كفرد حر ، وما بين وجودي كفرد تابع الى جماعة ترتبط بنظام وثقافة جمعية سلطوية صنمية  مسكون بهاجس الخوف من الخروج على الجمع و كسر حاجز الخوف من السلطة بكل اشكالها وبالتالي إلغاء  دوري في الوجود  ( أمس لا اعتقد ذلك بالضبط ، ربما قبل شهر او سنة يبدو لي في اليوم الفائت) فرغم هذه التقابلات في الألفاظ داخل النص او الصورة الكلية وتعارضها الصارخ لا ان ماتحمله من دلالات ومعاني تفتح الكثير من المسكوت عنه وتثير الكثير من التسائلات الفكرية والثقافية عن جدوى هذا الواقع ( منذ البدء والكلمات الساقطة الحلوة تلعب فينا ، فأصبحنا بفضل دعايتها علبا فارغة لا تصلح الا للنقر عليها ) وفي جملة اخرى يقول الراوي ( ليس لدينا زمن نؤرخ فيه العمر بوصلة الوقت يملكها الواعظ وحده ) ويستمر هذا التداعي الوجودي عبر حوار الراوي مع حبيبته هند ( هند هند مامعنى ان يحيا الانسان بلا مضمون ) ليتحول هذا التداعي الى طاعة عمياء رسختها ثقافة الوعظ والتلقين عبر مسلسل الفشل ( الكل هنا منتسب بالفطرة التي فطر الله الناس عليها الى شعب الغلمان ) ليتحول المشهد الى صوت الأم بما يحمله صوتها من ألفة وخوف على ابنها الذي تستعر بداخلة نيران الرغبة للتمرد عَلى كل ماحولة من مفارقات ( لا يجوز الجلوس على قارعة الطريق !!) يجيبها الابن ( الطريق مسرح الناس،وعلى قارعته ارى الأشياء بوضوح ) فهناك تقابل  كبير بين الشخصيتين من حيث الفظ والانتساب الفسيولوجي لكن هناك مفارقة في التوجه والمعنى، فشخصية الام تدفع الى تكريس الخوف وتدجين الواقع والابن يدفع بتجاه التمرد على هذا الواقع بكل رموزه ثم يقرن الكاتب بين الشخصيتين مستخدما تقنية المونتاج السينمائي التي تتيح للكاتب الجمع بين التقابل والمفارقة لتعميق الأثر الوجودي والانساني من خلال ما ننتجه من دلالات ومعاني جديدة قادرة على كسر حاجز الخوف والرهبة في داخلنا ( هاهي أمي قادمة من صوب الخوف الى صوب الرفض ،والليلة عرس ، وهند تبكي فرحا ، وعلى اجنحة اللامرئي ، وصلت مريم يتبعها نوفل ، اجتمع الشمل ، والعرس القادم سيكون مع الفجر ) فنحياز الام وهند ومريم  وتحررهم هو تحرر رمزي دلالي يسلط الضوء على دور المرأة الفاعل في دعم روح التحرر والثورة على كل أشكال التسلط والاقصاء التي لحقت بها من جراء الصمت على الظلم الاجتماعي والسياسي في مجتمعات رسخت طابع الذكورية المستبد وبكتمال هذه المشهد التحرري تكتمل صورة الفرد الإنساني القادر على انتاج واقع ينسجم مع تطلعات حياته وطبيعتها الوجودية،رغم سطوت العقل الجمعي واستبداده على رقاب الجميع . لذلك وحدها المفارقة هي من تكون قادرة على انتاج مجتمع قادر على التميز والابداع .