المنهج الجدلي (الديالكتيكي )
بدءا، يعتبر الفيلسوف الألماني هيغل هو المكتشف الحقيقي لقوانين المنطق الجدلي ومنه اخذ ماركس هذه القوانين وبلورها وصاغها بشكلها المادي…
على العكس من المنطق الشكلي لا يقبل المنهج الجدلي السكون أو الفصل بين مختلف جوانب الحياة بل يتناولها بمتغيراتها وتفاعلاتها ونتائجها وترابط ظواهرها…..
ثمة عدة قوانين تحكم المنهج الجدلي
الأول – قانون الترابط …
هناك ساعة جداريه بها رقاص معدني , هل يمكن ان ننظر إلى الرقاص بمعزل عن محيطه ؟ بالطبع لا , هناك من صنع الرقاص (المجتمع) من معدن استخرج من الأرض (الطبيعة) ، الرطوبة تسبب له التآكل ، الحرارة تسبب له التمدد ، لا يمكن ان يكون معزولا عن محيطه الخارجي.
الرقاص يتكون من ملايين الجزئيات المتفاعلة مع بعضها ، طريقة التفاعل مشروطة ومرتبطة بالمحيط الخارجي أي ان الرقاص ومحيطه بينها تفاعل متبادل.
النبتة تمتص الأوكسجين من الجو والمواد الغذائية من الأرض ، النبتة تنمو تتغير ، ولكنها تغير محيطها أيضا لأنها تطلق ثاني وكسيد الكربون وتغير الأرض ، هذا التفاعل بين النبتة والبيئة هو أساس كل نظرية علمية وشرط من شروط وجودها ولو قمنا بعزل أي ظاهرة عن محيطها وظروفها فانه يستحيل فهم الظاهرة ودراستها .
الإنسان لا يعيش بمعزل ،هو في تفاعل مستمر مع بيئته ومحيطة يؤثر ويتأثر ، وهو مسئول عن سلوكه في كل شاردة و ورادة .
اعتمادا على قانون الترابط هذا لا يمكن عزل الواقع الاقتصادي عن الحياة السياسية والاجتماعية…ولذلك المنهج الجدلي يدرس ويفهم الظواهر الاجتماعية بوضعها ضمن سياقاتها التاريخية التي تولدت منها وتفاعلت معها .
فليس صحيحا ان نفصل أي حدث تاريخي ،أي ظاهرة ونحاكمها بعيدا عن زمانها ومكانها ، لماذا أعطيت الخلافة لفلان ؟ لماذا فعل الملك فيصل هذا ولم يفعل ذاك ؟ كل هذه المحاكمات التاريخية لا يجوز ان تتم بشكل مجرد بعيدا عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأحوال المعاشية السائدة حينها وطباع البشر…كل هذه العوامل وغيرها هي التي أعطت الخلافة لفلان …وربما لو كنا معاصرين لذلك الوقت لكان قرارنا لا يختلف عن قرار الناس في ذلك الزمن .
الثاني – قانون التحول الشامل والنمو المستمر
تبدو هذه التفاحة ثابتة على الطاولة لا تتحرك ، لو نظرنا للموضوع بمنظار جدلي فان التفاحة متحركة ،فهي لن تظل كما هي بعد عشرة أيام ،كانت زهرة قبل ان تصير ثمرة سوف تتحلل وتتساقط حبوبها لتولد عدة تفاحات…
الحركة هنا لا تعني تغير المكان فقط فالسيارة التي قطعت ألف كيلومتر هي ليست نفس السيارة ، السيارة تحولت ببطء حيث يبلى محركها ويتغير لونها
وهكذا.
لقد اثبت العلم وبشكل قاطع قانون التحول ، تحولات الطاقة مثلا الطاقة الكهربائية تتحول إلى حرارية (المكواة ) والطاقة الكيمائية (الوقود) يتحول الى طاقة حركية (السيارة )….هذه التحولات ما هي إلا صور للمادة المتحركة ، فالمادة لا تفنى بل تتحول من صيغة الى أخرى ، إذا ارتطمت السيارة بحجر واشتعلت ، السيارة لا تفنى بل تحولت الى نار ، طاقة وهي مظهر من مظاهر المادة ، السيارة بمظهر أخر.
ان الكون الذي نعيش فيه هو ثمرة تحول وتطور ونمو شامل ، في كل لحظة تولد وتموت مئات النجوم ، حتى الكائنات الحية خاضعة لعملية التطور المستمر ، حيث اثبت العالم دارون ان الأنواع المختلفة من الكائنات الحية تغيرت و لا زالت تتغير بفعل التفاعل بينها وبين البيئة.
الحركة والتغير هي الصورة التي توجد بها المادة لا يمكن تصور المادة بدون حركة كما لا يمكن تصور حركة بدون مادة ، العالم في تغير وتطور مستمر وزوال القديم وظهور الجديد هو قانون التطور العام.
حين تفشل نظرية ما في تفسير الواقع عليها ان تفسح المجال لنظرية أخرى تحل محلها ، كل نظرية صحيحة ضمن ظروفها المحددة ، نظريات نيوتن صحيحة عند التعامل مع السرعة العادية حين ننتقل الى السرعة العالية علينا اعتماد نظريات اينشتاين وعند الانتقال الى الجسيمات الدقيقة علينا الذهاب الى نظرية الكم وهكذا.
إذا كان كل شيء في تحول مستمر فمن الواضح انه ليس هناك أفكار خالدة دائمة لا تقبل الخطأ ، ليس هناك مجتمع ابدي لا يتغير ، ليس هناك وصفات وقوالب فكرية جاهزة نحملها باعتزاز بأدمغتنا ونسقطها على ظواهر العالم ، إننا نلوي ونحرف ونضغط الظواهر لنجعلها توافق القوالب الفكرية الجاهزة.وهذا مخالف للتفكير العلمي الذي يبني أفكاره ويغيرها بناءا على معطيات وتجارب الواقع.
الثالث – قانون التحول النوعي….
حين ترتفع درجة حرارة الماء يأخذ بالغليان ويتحول الى بخار ، ازدياد درجة الحرارة هو( تحول كمي) ، قاد بالضرورة الى( تحول نوعي) هو تحول الماء الى بخار، ازدياد الكمية أو نقصانها هو تحول كمي التحول من صفة الى أخرى أو من حال الى حال هو تغير نوعي. ما نصل إليه ان التغيرات الكمية المتراكمة حتى لو كانت ضئيلة ستقود الى تحولات نوعية.
ان الأمر بالمثال أعلاه ليس صدفة بل هو ضرورة حتمية ونتيجة لارتفاع درجة الحرارة وهذه العلاقة بين التحولات الكمية والنوعية هي قانون شامل بالطبيعة والمجتمع.
يلزم المرشح 1000 صوت للفوز بالانتخابات ، تجميع الأصوات صوت بعد صوت (تغير كمي ) هي التي ستمكن المرشح من الفوز(تغير نوعي ) حين يصل المرشح الى 999 صوت فان الصوت الباقي هو الذي يحقق
الانتصار، هنا تحدث ما يسمى علميا بالقفزة , القفزة ليست ثورة أو تغير مفاجئ بل هي ثمرة تجميع الأصوات .
وكما هو الحال بالطبيعة ليس هناك تغير مفاجئ بالمجتمع بل مجموعة من التحولات والتغيرات التي تنمو ببطء والتي تقود الى تحول نوعي بالمجتمع حيث لا يمكن تغير الحال بين ليلة ويوم .
ودائما التحول هو عمل تقدمي لأنه انتقال من البسيط الى المعقد ، يولد الكائن الحي من خلية واحدة تبدأ بالتكاثر والانقسام (تحول كمي ) ليصبح جنينا ثم طفلا (تحول نوعي ) والجنين هو حالة متقدمة وأرقى من الخلية الواحدة .
الرابع – قانون الأضداد….
أشياء الطبيعة وظواهرها تحتوي على تناقضات داخلية حتى لو بدت ساكنة غير متحركة.
مثلا، قدح الماء يبدو ساكنا ولكن هذا المظهر الخارجي يخفي الحقيقة ، فثمة صراع وتناقض بين قوتين ، قوة تمسك جزيئات الماء الى بعضها وقوة تحاول تفريقها ،طالما هذه القوى متوازنة يبقى الماء على حالة، انتصار قوة التفريق يحول الماء الى بخار، انتصار قوة التماسك يحول الماء الى ثلج .
فالماء مهما تكن حالته هو نضال بين قوى متناقضة وهي قوى داخلية… ولكن هل هذا معزول عن الظروف الخارجية ؟
هل يعني هذا ان الظروف الخارجية ليس لها دور ، قانون الجدلية الأول ينص على ان كل شيء مرتبط بالأخر ، ولذلك لا يمكن عزل الواقع عن ظروفه المحيطة ففي مثال الماء كان هناك شرط خارجي ضروري لتحويل الماء الى بخار وهو الحرارة ، زيادة الحرارة يؤدي الى زيادة الطاقة الحركية للجزيئات …..ولكن هذا لم يحدث لو لم تكن هناك تناقضات داخلية كافية.. أي ان التناقضات الداخلية هي الأساس أما العوامل الخارجية فهي ثانوية بتأثيرها …. جميع الوسائل لا تجدي نفعا في حمل الطفل على المشي إذا لم يسمح نموه الداخلي وتكوينه الجسمي بالمشي .
ان علاقة ووحدة الأضداد والصراع بينهما هو أصل وجوهر ودافع عملية التطور فدائما هناك صراع بين ضدين ينتج عنهما شيء جديد وهذا الجديد يحمل في أحشائه تناقض جديد وصراع جديد وهكذا.
أنا اجهل اللغة الانكليزية وللتغلب على هذا الجهل علي دراسة اللغة وتعلمها فالصراع هنا بين الجهل ورغبتي بالتعلم هذا الصراع هو الذي يدفعني للدراسة….كل تقدم بالدرس هو كسب وحل للتناقض…ولكن يولد دائما تناقض جديد لأني ما زلت اجهل بعض الأمور وعلي دراستها ، فلا احد يعرف كل شيء. هنا تبرز بوضوح وحدة الأضداد الجهل والتعلم ، وكل علم هو نضال ضد الجهل ، حيث لا يوجد علم مطلق ،بل هناك أبدا شيء يجب معرفته ….
الأضداد تتحارب ولكنها لا تنفصل عن بعضها ، الحياة والموت ، السعادة والشقاء ، الفلاح والإقطاعي ، العامل وصاحب العمل ،الحرية والسلطة ، المعرفة والإيمان ، الذات والآخر،العقل والطبيعة ….كلها أشكال لوحدة وصراع الأضداد.
يتميز قانون التناقض بعدة ميزات……
ان التناقض والنضال بين الأضداد هو داخلي ، البذرة سوف تصير شجرة لأنها تملك القوة في داخلها على التحول ،لماذا تسير الحياة الى الموت؟ لان الحياة تحمل في أحشائها تناقضا داخليا ولان الحياة هي نضال يومي ضد الموت.
انه تناقض متجدد بمعنى دائما هناك حديث يولد من رحم القديم وينمو بالرغم عنه وينحل هذا التناقض حين يتغلب الحديث نهائيا على القديم.
لا يوجد هذا التناقض إلا بوجود النضال بين قوتين،أي انه يحتوى على طرفين يتعارضان ورغم ان هذه الأضداد تتحارب ولكنها لا تنفصل عن بعضها وهذه هي وحدة الأضداد ، مثلا كل علم يحتوي على جانب من الجهل، ويحتوي كل جهل على جانب من العلم، فحتى اجهل الناس لدية قدر كاف من المعلومات التي تمكنه من العيش.
التناقض شامل فهو الدافع لكل حركة ، هو الدافع في الطبيعة والمجتمع ، في الرياضيات عملية الطرح هي الوجه الآخر لعملية الجمع ، المجتمع هو ثمرة نضال بين الإنسان والطبيعة ومحتوى هذا النضال هو العمل ، الذي يغير الطبيعة والإنسان في نفس الوقت . والعمل هو الذي حقق الانتقال الكيفي من الإنسان البدائي الى إنسان اليوم.
ليس للتناقض صلة باختلاط الأفكار لان الفكر الذي يناقض نفسه ليس فكرا جدليا ، الفكر الجدلي يدرك التناقض أما الفكر الذي يناقض نفسه فيذهب ضحية هذا التناقض لأنه فكر مشوش.
من المهم ان نلاحظ ان مفهوم التناقض هو جزء من مفهوم التعارض بمعنى ان مفهوم التعارض أوسع واشمل ، يتحمل جسم الإنسان كمية محدودة من السم ، العلاقة بين الجسم والسم هي علاقة تعارض طالما بقي السم ضمن الكمية المحدودة ،بزيادة السم يتطور التعارض الى تناقض..أي ان التناقض هو مرحلة متطور من التعارض. ضمن هذا الإطار يمكن فهم استمرار النظام الرأسمالي رغم وجود التعارض بالمصالح والأزمات حيث ان تطور النظام الرأسمالي والثروة التي حققها استطاعت جعل الصراع غير تناحري، صراع في إطار المطالب النقابية…حولت الصراع الى صراع مطلبي وليس تناحري.
حتى نتبنى التفكير الجدلي ،كأسلوب وطريقة ومنهج للمعرفة ، علينا ان لا ننظر إلى الأشياء وكأنها أزلية لا تتغير ….لان هذا التفكير يجمد الحياة ويعطل العلوم…وإذا كان المنهج الجدلي هو السمة الرئيسية للفلسفة الماركسية فان الكثير من المحسوبين على هذه الفلسفة غير جدليين بالمرة لأنهم حولوا الماركسية إلى قوالب شكلية وأقوال مجتزئه ،يعيشون على قدسية الماضي بإيمان شبه ديني وانغلاق عن فهم الواقع ولم يتخذوا المنهج الجدلي كطريقة لتفسير الوقائع وتحليل الأمور وربما هذا هو الذي دفع ماركس إلى القول بأخر أيامه، أنا لست ماركسيا ، قالها بعد أن راى نظريته تتحول الى مجموعة من القيود التي تعيق التفكير