يتنافس المتنافسون في تفسير كتاب الله تعالى حسب الطريقة التي يجد كل مفسر نفسه فيها كما سيمر عليك خلال البحث المخصص لهذا المقال، إلا أن الذي يقف عثرة في طريقهم يكون مرده إلى السبل البعيدة عن فهم كتاب الله تعالى بسبب انغماس أتباع هذه السبل في تراث أسلافهم، مما جعل جميع الأبواب مرصدة قبال هذا العلم، وبالتالي لا يجد المتأخرون ما يستحق القيام به من أجل إتباع أسلافهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بسبب تراكم الكم الهائل من الأساطير والاسرائيليات التي ارتضوها بديلاً عن العلوم الشرعية التي يمكن الوصول من خلالها إلى معرفة مراد الله تعالى من كتابه المجيد، من هنا يظهر أن هذه النتائج قد أدت إلى تخوف عامة الناس من الإقدام على فهم كتاب الله تعالى دون الرجوع إلى التحليلات الدخيلة التي يظنون الوصول من خلالها إلى ما تعذر عليهم فهمه وإن كان ذلك على حساب الأدوات البسيطة المتوفرة لديهم، ولهذا فإن ما يؤاخذ عليه العامة يكمن في الطريقة الجائرة التي تلقوها جاهزة من أسلافهم دون دراية أو تمحيص مما جعلهم يتناقلون تلك الطريقة من جيل إلى آخر حتى أصبحت من المسلمات التي لا يمكن التخلص منها.
ولهذه الأسباب الباطلة تراهم يحاولون الوقوف بوجه كل أنواع التجديد بسبب ما ألفوه لعقود من الزمن، وهذا من أهم مصاديق ما ورد في الأثر من أن الناس أعداء ما جهلوا، ومن هنا نرى ظهور ما تقدم في جهل العامة لأهم علوم الدين وهو تفسير القرآن الكريم الذي اختفى لقرون من الزمن ولم يدرس في المدارس الدينية، ولعمري كيف يطمئن الناس للعلماء وهم لا يعدلون آية من كتاب الله تعالى الذي أصبح في المرتبة الأخيرة بعد أصول الفقه والحديث والمنطق وهلم جراً.
ونحن بطرحنا هذا لا نريد أن نرصد الأبواب أمام هذه العلوم ولكن الذي ينبغي معرفته أن هناك تفاضل بين هذه العلوم، ولا يخفى على من لديه أدنى بصيرة، كيف أن الله تعالى فضل هذا العلم بل وقدمه في كتابه المجيد على خلق الإنسان نفسه، كما هو ظاهر في قوله تعالى: (الرحمن***علم القرآن***خلق الإنسان) الرحمن 1-3. وهذا لا يحتاج إلى كثير من التأويل لأنه علم يبحث في مراد الله تعالى من كلامه، وقد تكفل تعالى في إيصال هذا العلم للناس بما يتناسب والزمان الذي يعيشون فيه، ولذا قيل: إن القرآن يفسره الزمان، وهذه الحقيقة الكبيرة إذا ألقيت مرسلة إلى الجاهل دون شروطها نجده لا يفهم منها إلا تعطيل علوم القرآن وتفسيره معتمداً على الزمان الذي يتكفل حسب رأيه بتفسير القرآن الكريم. والمثير للغرابة أن هذا الإتجاه لا يخرج عن ترجمة ما في الأفكار من سذاجة لا حدود لها.
وإذا أردنا القيام بدراسة هذه الحقيقة والوقوف على العلل الناتجة عنها بعيداً عن السطوح الضبابية، نجد أن الله تعالى أشار في معرض حديثه عن التدبر في كتابه المجيد وتفسيره بما يتناسب مع كل إنسان حسب الأدوات التي يمتلكها، كما في قوله جل شأنه: (إن علينا جمعه وقرآنه***فإذا قرأناه فاتبع قرآنه***ثم إن علينا بيانه) القيامة 17-19. وكذا قوله: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) النساء 82. وقوله: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) القتال 24.
وهذه الآيات الكريمة تحث على التدبر من وجه ومن وجه آخر فيها نوع من التوبيخ المبطن لمن يعرض عن الإهتمام بمعرفة أسرار القرآن الكريم، وأنت خبير بأن المقطع الأول يشير إلى توجيه النبي (ص) إلى اتباع القراءة أما البيان فقد وعده الله تعالى بإظهاره للأجيال اللاحقة، بتعبير آخر سوف يُفسر القرآن الكريم من قبل أناس تتوفر لديهم الشروط والأدوات المفقودة إبان عصر النبي (ص) وهذا ما يبطل إدعاء بعض الصحابة من أنهم يمتلكون القدرة على فهم الآيات وقت نزولها، نعم قد يصدق هذا إذا كان القصد منه يحدد في لغة الآيات لأن هذه الصناعة متوفرة لديهم، ومع هذا نجد أن بعض الآيات يتعذر عليهم فهم معناها من حيث اللغة، وخير مثال على هذا ماورد في الأثر من أن عمر بن الخطاب كان يقرأ على المنبر قوله تعالى: (أو يأخذهم على تخوف) النحل 47. ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: [التخوف عندنا بمعنى التنقص] ثم أنشده:
تخوف الرحل منها تامكاً قرداً……كما تخوف عود النبعة السفن
فإن قيل: ماهي الأسباب التي تجعلهم لا يتوصلون إلى معرفة مراد الله تعالى إبان نزول الآيات؟ أقول: أهم الأسباب مرده إلى عدم تكامل النزول المنجم، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ولهذا ظهرت البوادر الأولى للتفسير بعد جمعه، وقد وصل التفسير إلى أوج عظمته في عهد التابعين، ثم توالت العصور التي اختلفت فيها طرق التفسير حسب ما متوفر لديهم من المأثور المصاحب للرأي بشقيه المحمود والمذموم، وصولاً إلى أصحاب الأفكار الهدامة التي أخذت نصيبها في الظهور، إضافة إلى الاتجاهات المتمثلة في التفسير الباطن والإشاري وغيرها. وهذا ما جعل ضعاف العامة يروجون إلى هذه الصناعة، وكأن القرآن الكريم لا يتضمن إلا الإشارات والألغاز، التي يظن البعض بعدم التوصل إلى معرفتها إلا من قبل أصحاب الشأن الذين تحدد صفاتهم حسب أتباعهم من الاتجاهات الطائفية.
من هنا يظهر الاختلاف بين العلماء وأتباعهم وهذا ما يجعل العبء يقع على عاتق بعض أصحاب العلم الذين ارتضوا تسيير هذا النهج، من أجل الحصول على مجتمع يسمع أكثر من أن يتكلم، ولهذه الأسباب مجتمعة بدأت الأفكار الهدامة تنفذ إلى قلوب ضعاف الناس باعتبار أن هذا الإتجاه هو الوحيد الذي يضمن لهم البقاء في مراكزهم التي لا وجود لها على أرض الواقع إلا في أوهام أتباعهم، ثم بدأ هذا الصنف من العلماء يحلل الروايات وما يتناسب مع مناهجهم المستمدة سلفاً من مذاهبهم مع ملاحظة المصالح الخاصة بهم دون المذاهب فتأمل.
وكان لهذه المصالح الدور الكبير الذي جعلهم يقتطعون أجزاءً من الروايات لتسييرها بين الناس وطرح الأجزاء الأخرى التي لا تخدم نعيمهم الزائل، وقد سرت هذه العادة إلى آيات القرآن الكريم، حتى أصبح الحلال حراماً والحرام حلالاً، بسبب إدخالهم التقسيم على القرآن الكريم، وبفعلهم هذا أصبحوا مصداقاً لقوله تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين***الذين جعلوا القرآن عضين) الحجر 90-91.
ولذا نجد أن هؤلاء يحاولون جاهدين في إبعاد أصحاب الذوق السليم الذين وهبهم الله تعالى التفقه في كتابه المجيد، حتى وصل بهم الأمر إلى نشر فرية التفسير بالرأي بين الناس، علماً أن هذا النوع من التفسير يقسم إلى قسمين محمود ومذموم، إلا أنهم جعلوا كلا القسمين بنفس الدرجة، ولهذا أصبح من يسير على نهجهم، لا يفهم من التفسير بالرأي إلا المعنى الثاني، مع العلم أن هذا لا ينطبق على الباحث الذي تتوفر فيه الشروط والأدوات التي يحتاجها في التفسير، وإنما ينطبق على من يريد هدم الدين بما في الكلمة من معنى وهذا يمكن الوصول إليه بأقل جهد من خلال التأكد من الأدوات التي يمتلكها والتي لا تتطابق مع الأصول والضوابط السليمة في منهج التفسير.
أما الصنف الأول فقد يظهر بيانه بعدة لوازم يُستدل عليها من المعنى الفعلي الذي يحيط بالرأي المتمثل في الاجتهاد، وكيفية استنباط الحكم من القرآن الكريم، وهذه الحقائق لا يمكن التسليم بها إلا إذا كانت خارجة عن المأثور بكل لوازمه، بسبب ما يستجد من الأمور وتغير العصور مع الحفاظ على القواعد القرآنية التي من أهمها.. العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو المورد لا يخصص الوارد وهكذا.
من هنا ندرك أن الذي يجب أن نخرجه من الأثر يجب أن يكون تابعاً لنوع الخطابة، حيث أن نوع الخطابة يجب أن يتناسب والعصر الذي يعيشه المفسر، وما تتوفر في ذلك العصر من علوم صالحة مع مراعاة الثوابت البيانية، كالنحو والبلاغة، البيان، المعاني، البديع، الاشتقاق، وغيرها من العلوم التي عددها الزمخشري في الكشاف وأضاف إليها علم الموهبة، علماً أن هذه العلوم لا يمكن توفرها في إنسان بعينه، وإن كان العقل لا يرفض هذا، ولكن الذي نجده على الورق لا يُعتد به على أرض الواقع في كل المراحل.
فلذلك نجد أن طرق التفسير بالرأي تأخذ الجانب الذي ينبغ فيه المفسر، ولهذا السبب اختلفت الطرق التي فُسر فيها القرآن الكريم، بين قصصية وفقهية، نحوية، فلسفية، كلامية، أو ما يعرف بالتفسير العلمي، ولهذا فإن الشروط السابقة أو بعضها، يمكن أن تبين كلام الله تعالى بالقدر الذي نحتاجه في ممارساتنا الحياتية، فمن وجد في نفسه هذه الشروط فليس ثمة مانع يحول بينه وبين تفسير كتاب الله تعالى.