19 ديسمبر، 2024 7:53 ص

التفاضل في درجات الرزق

التفاضل في درجات الرزق

لا تقتصر العدالة الإلهية على جانب معين من جوانب الحياة وإنما تمتد لتشمل النظام الكوني بكامل مكوناته المادية أو المعنوية التي سنشير إلى بعض منها في هذا البحث دون أن نغفل التباين الناتج عن الطرق المنحرفة التي تجعل بعض الناس أفضل من بعض، ولا يخفى على المتأمل من أن الكثير من المجتمعات قد توارثت النوعية الفاعلية في الحصول على الأرزاق، دون المجتمعات الأخرى التي لا تزال في الدرك الأسفل، وذلك نظراً إلى كيفية الاستعداد غير المشروع الذي يعد من الحالات الدخيلة التي تُظهر الآثار السلبية بجميع أبعادها، وإن كان بعض أصحاب الشأن لا يُخرج ذلك عن الاستعدادات المنتظمة لتسيير الشؤون المرتبطة بأمر الناس على ما يتفاضلون فيه.

من هنا نرى أن القرآن الكريم يشير في كثير من متفرقاته إلى ظاهرة التفاوت والاختلاف بين طبقات الناس، وكأنها من المسلمات التي لا ترتبط بالأسباب الطبيعية، إذا ما أخذنا بالبعد التشريعي لبناء هذا النهج، دون الرجوع إلى المكونات العامة التي أقرها الحق سبحانه، وأجرى عليها قانون العقاب والثواب، وذلك عند الجمع بين البعدين، كما في قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) الزخرف 32.

فإن قيل: يظهر أن هناك نوعاً من التضاد في الآية آنفة الذكر، وبين قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) النجم 39. فكيف يمكن الجمع بين الآيتين؟ أقول: التضاد الظاهر في الآيتين أقرب إلى الفرق، بين قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة 195. وبين قوله: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) التوبة 51. حيث إن المقصود بالتهلكة، في آية البقرة يرجع إلى أصل النفقة، أي إن الإنسان يجب أن ينفق بعضاً من ماله في سبيل الله تعالى، دون التبذير غير المبرر، وهذا ما يفهم من السياق، وقد يكون الأمر أكثر وضوحاً، إذا جمع هذا المعنى، مع قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) الفرقان 67. وكذا قوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً) الإسراء 29.

وبناءً على ما تقدم نعلم أن آية التوبة، تختص بامر لا يرتبط بالمعنى العام المتداول بين الناس، وهذا ما يستفاد من السياق، وكذا ما يدخل ضمناً في الأثر الراجح للمؤمنين في قتالهم مع العدو، وذلك عند ظنهم، من الحصول على التمكين والنصر، ولهذا يجب مراعاة اختلاف المتعلق. فإن قيل: وماذا عن قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم) التغابن 11. أقول: المصيبة التي ذكرت في آية التغابن تعود إلى القضاء المتفرع على الإذن التكويني دون التشريعي، وهذا النوع من المصائب، خارج عن إرادة الإنسان، وعن دفع البلاء المشار إليه في الآية.

من هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) الحديد 22. وبناءً على هذا المعنى، يظهر السبب في تذييله تعالى لآية التغابن بقوله: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم) التغابن 11. وكذلك يظهر السبب في سياق الآية اللاحقة لآية الحديد، التي يقول تعالى فيها: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور) الحديد 23. حيث إن جميع ما ذكر في الآيتين لا يراد منه إلا القضاء التكويني فتأمل. وهذا ما يجعلنا نفهم أن الله تعالى لا يأمر الإنسان أن لا يفرح بما آتاه، أو يأسى على ما فاته، فتدبر هذا المعنى، دون اللجوء إلى التفريق بين العلل التكوينية، وما يقابلها من التشريع، وكذا ما يفرض من الأوامر المولوية أو الإرشادية. ولهذا يجب أن لا نحكم على ظاهر الآيات بالتضاد من الوهلة الأولى.

وبناءً على ما تقدم نعلم أن التضاد الظاهر في آيات الأرزاق، يرجع إلى نفس الأسباب والمتعلقات، التي تتضح من خلال السياق أو الموضوع، ومن هنا يظهر الفرق في المؤثرات العامة التي يعتمد عليها الإنسان في طلب الرزق، أو بتعبير آخر يمكن القول إن من هذه المؤثرات ما يبنى على الأمر التكويني، وهذا ما أشارت إليه آية الزخرف، ومنها ما يرد إلى الأمر التشريعي، كما في آية النجم، وكما في قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك 15. وكذا قوله: (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) الجمعة 10. علماً أن ابتغاء فضل الله تعالى لا يراد منه الرزق المادي المتعارف عليه، وإنما يتفرع ذلك إلى مصاديق لا حصر لها، كالعلم والقوة والجاه وما إلى ذلك، وعند النظر إلى معطيات هذه المواهب، نرى أثر الاختلاف فيها من جهة، والتفاضل من جهة أخرى، ويكون مرد ذلك إلى الجهد الذي يبذله الإنسان في الحصول على مقومات التفاضل، جرّاء العمل الصادر عن إرادته.

من هنا نرى أن بعض الناس، قد يمتلك العلم دون أن ينتفع به، أو قد يركن إلى الأرض وينسلخ من ذلك العلم، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين***ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف 175-176. فإن قيل: هل يمكن اجتماع المواهب التي أشرت إليها في إنسان واحد؟ أقول: لا يمكن اجتماع المواهب التي ذكرناها في إنسان بعينه، وذلك لأجل أن يتم التفاضل بين الناس، على الوجه الذي مر عليك في آية الزخرف، وهذا ما يجعل التكامل يجري في النظام الطبيعي، الذي هو ليس بمعزل عن أنظارنا، أما ما نراه من تفاوت طبقي، يصل إلى أبعد مديات التفاضل بين إنسان وآخر، فهذا خارج عن القياسات الطبيعية، كما بينا ذلك في مقدمة المقال، وأنت خبير من أن الله تعالى أراد من مبدأ تشريع المساواة أن يسخر بعض الناس لبعضهم، ولهذا وبّخ الذين فضلوا في الرزق، دون الالتفات إلى غيرهم، وذلك في قوله تعالى: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون) النحل 71. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:

الرأي الأول: قال ابن عجيبة في البحر المديد: يقول الحق جل جلاله: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) فمنكم غني ومنكم فقير،ومنكم ملوك مستغنون عن غيرهم، ومنكم مماليك محتاجون إلى غيرهم (فما الذين فضّلوا) وهم الموالي، أي السادات (برادّي رزقهم) بمعطي رزقهم (على ما ملكت أيمانهم) على

مماليكهم، أي ليس الموالي بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها شركة بينهم، وبين مماليكهم (فهم) أي المماليك (فيه سواء) مع ساداتهم، وهو احتجاج على وحدانيته تعالى وإنكار ورد على المشركين، فكأنه يقول: أنتم لا تسوّون بين أنفسكم ومماليككم، في الرزق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، بل تأنفون من ذلك، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي في ألوهيتي؟! وهذا كقوله: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) الروم 28. ويحتمل أن يكون ذماً وعتاباً لمن لا يحسن إلى مملوكه، حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما في الحديث “أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون” (أفبنعمة الله يجحدون) حيث يجعلون له شركاء، فإنه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم، ويجحدوا أنه من عند الله، أو حيث أنكروا هذه الحجج، بعد ما أنعم الله عليهم بإيضاحها، أو حيث بخسوا مماليكهم، مما يجب لهم من الإنفاق، على التفسير الثاني.

الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) إلى آخر الآية، فضل بعض الناس على بعض في الرزق، وهو ما تبقى به الحياة، ربما كان من جهة الكمية، كالغني المفضل بالمال الكثير على الفقير، وربما كان من جهة الكيفية، كأن يشتغل بالتصرف فيه بعضهم ويتولى أمر الآخرين، مثل ما يستغل المولى الحر بملك ما في يده، والتصرف فيه، بخلاف عبده الذي ليس له أن يتصرف في شيء، إلا بإذنه، وكذا الأولاد الصغار بالنسبة إلى وليهم، والأنعام والمواشي بالنسبة إلى مالكها.

وقوله: (فما الذين فضلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) قرينة على أن المراد هو القسم الثاني من التفضيل، وهو أن بعضهم فضل بالحرية والاستقلال بملك ما رزق، وليس يختار أن يرد ما رزق باستقلاله وحريته إلى من يملكه ويملك رزقه، ولا أن يبذل له ما أوتيه من نعمة، حتى يتساويا ويتشاركا، فيبطل ملكه ويذهب سؤدده. فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ولا برادّين لها على غيرهم، وليست إلا من الله سبحانه، فإن أمر المولوية والرقيّة، وإن كان من الشؤون الاجتماعية التي ظهرت عن آراء الناس، والسنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم، لكن له أصول طبيعية تكوينية، هي التي بعثت آراءهم على اعتباره كسائر الأمور الاجتماعية العامة.

ويضيف في الميزان: ومن الشاهد على ذلك أن الأمم الراقية منذ عهد طويل أعلنوا بإلغاء سنة الاسترقاق، ثم أتبعتهم سائر الأمم، من الشرقيين وغيرهم، وهم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية، وإن ألغوا صورتها، ويجرون مسمّاها، وإن هجروا اسمها، ولن يزالوا كذلك، فليس في وسع الإنسان أن يسد باب المغالبة، وكون هذا المعنى نعمة من الله، إنما هو لأن صلاح المجتمع الإنساني، أن يتسلط بعضهم على بعض، فيصلح القوي الضعيف بصالح التدبير ويكمله، وعلى هذا فقوله: (فهم فيه سواء) متفرع على المنفي في قوله: (فما الذين فضّلوا برادّي رزقهم) دون النفي.

والمعنى: ليسوا برادّي رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين، وفي ذلك ذهاب مولويتهم، ويحتمل أن يكون جملة استفهامية حذفت منها أداة الاستفهام، وفيها إنكار أن يكون المفضلون والمفضل عليهم في ذلك متساويين، ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من أن يرد رزقه على من فضل عليه، فإن في ذلك دلالة على أنها نعمة خصه الله بها. ولذلك عقّبه ثانياً بقوله: (أفبنعمة الله يجحدون) وهو استفهام

توبيخي، كالمتفرع لما تقدّمه من الاستفهام الإنكاري، والمراد بنعمة الله هنا التفضيل المذكور بعينه. والمعنى والله أعلم: والله فرق بينكم بأن فضّل بعضكم على بعض في الرزق، فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه، وبعضكم عبد تبع له، لا يتصرف إلا عن إذن فليس الذين فضّلوا برادّي رزقهم الذي رزقوه على سبيل الحرية والاستقلال، على ما ملكت أيمانهم، حتى يكون هؤلاء المفضلون والمفضل عليهم في الرزق سواء، فليسوا سواء، بل هي نعمة تختص بالمفضلين، أفبنعمة الله يجحدون؟ هذا ما يفيده ظاهر الآية بما احتفت به من القرائن، والسياق سياق تعداد النعم.

انتهى.. وفي البحث آراء أخرى للمفسرين ذكرها الطباطبائي، وهذه سنّة متبعة في كتب التفسير، فمن أراد المزيد فليراجع تفسير الميزان.

أحدث المقالات

أحدث المقالات