(تحليل سيكولوجي لدراسة استطلاعية)
اعتدت أن أستطلع الآراء في القضايا التي تخص الناس والوطن عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبريد الألكتروني،ولعلَّ أهمها في الوقت الحاضر هو الموقف من الانتخابات التشريعية المقبلة تضمن الاستطلاع سؤالين في فترتين متباعدتين:
الأول: ما توقعاتك بخصوص نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة 2018؟
والثاني:مع أن جماهير الشيعة اكتشفت انهم أُستغفلوا،وعضّوا اصابعهم البنفسجية ندماً ،فان هنالك مَن يراهن على انهم سيعيدون انتخاب مَن خذلهم.
بلغ عدد الذين اجابوا على السؤالين (214) بين أكاديمي ومثقف ومتابع..وفي ما يأتي تحليل نتائج الاستطلاع.
النتائج:
بلغت نسبة المتشائمين الذين لا يتوقعون حصول تغيير في نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة (94%) مقابل (6%) لمتفائلين يرون امكانية حصول تغيير..وان كان بسيطاً.
ولدى تمعننا في اجابات المتشائمين وجدنا انها تتوزع على اربعة أصناف عزوها لأسباب عدم حصول تغيير وعلى النحو الآتي:
أولا: الشعب.
كان (الشعب) هو السبب الرئيس الذي حمّله المستجيبون عدم حصول تغيير في الانتخابات المقبلة،واليكم نماذج من اجاباتهم نوردها كما جاءت:
• شعب أُمّي لا يعي من الأمور.. شيء طبيعي لو انتخبهم مرة ثانية بفعل رجل دين او شيخ عشيرة.
• لأن الشعب منقسم على شكل فئات ومجاميع على الأحزاب المتصارعة.
• لأن قلوبهم طيبة يصدّقون كلامهم وأنا شاهد على الآلاف من هذه الحالات،بحيث اقسموا بأغلظ الايمان بأن لن ينتخبوهم ..ولكن انتخبوهم وندموا مرة أخرى.
• نعم سيعيدون انتخابهم بأصرار..الغباء موهبة.
• شعب تحركه فتوى ولا يتحرك من وحي عقله وتجربته.
• نعم سيعيدون انتخابهم ولكن بواجهات جديدة مثل المدنية والحشد والاصلاح.
• شعب كتبت عليه الذلة والمسكنة.أكيد الطغاة والظلم ينتشران اكثر.
• معظم العراقيين..من جماعة (آني شعليه).
• الشعب هو من رضي بالهوان وجعل من نفسه العوبة بيد هؤلاء الأغبياء..نظرته القصيرة الأمد والمنفعة الآنية أوصلته لهذا الحال.
ثانيا:مبررات
عزا عدد من المستجيبين عدم حصول تغيير في الانتخابات التشريعية المقبلة الى مبررات يرونها واقعية،نورد هنا نماذج من اجاباتهم:
• هذه التيارات والأحزاب عندها جيوش خلف الكواليس.
• شيوع الفساد وتردي الأخلاق.
• ليس هناك انتخابات لأن التزوير وعمليات البيع والشراء هي التي ستنجح وليس الناخب.وحين تقرر امريكا واللاعبون الآخرون تغيير اللعبة..ستنتهي بسرعة.
• رغم كل الخسائر والنكبات التي تعرض لها المواطن الشيعي يبقى ولاؤه لحزبه وزعيمه السياسي والديني هو الذي يحركه انتخابياً.
أكيد يعيدون انتخابهم،لأن المرشحين الشيعة راح يخوفون بالسنّة ويقولون لهم بعد ما يخلوكم تلطمون ولا تمشون لكربلا.والمرشحون السنّة راح يقولون ذلّونه الشيعة ولازم نُعيد اعتبارنه وهيبتنه.
ثالثا:اليأس
عزا مستجيبون ان الناس وصلوا الى قناعة بأن تغيير سوء الحال أمر مستحيل لأنهم اصبحوا عاجزين،واليكم نماذج منها:
• نعم لن يتغيير شيء لأن كل شيء جاهز ومرتب.
• الانتخابات فقط للاستهلاك المحلي.
• الناس بسطاء..لم يحصلوا على تعليم ولا قوت يوم مضمون..ويائسون من المستقبل ولا يريدون التفكير به.
• النتائج محسومة من الآن ومقسّمة بين دول الكعكة وعملائهم..
• هو الوضع خربان يادكتور وما تصيرله كل جاره.
رابعا:غياب البديل.
يرى عدد من المستجيبين ،وبينهم أكاديميون بنسبة كبيرة،عدم وجود بديل وطني منافس،توضحها النماذج الآتية:
• لا يوجد بديل في الوقت الحاضر وان وجد فهو متخفي عن الانظار او ليس لديه القوة للمواجهة.
• التيارات المدنية والعلمانية ضعيفة ومسالمة والتيارات الاسلامية قوية وعنيفة.
• مرشحو التيار المدني الذين فازوا في الانتخابات السابقة أثبتوا انهم لا يختلفون عن النواب الآخرين.
• لا يوجد بديل مطروح والجمهور منقسم على نفسه.
• لا توجد شخصية وطنية قوية تتمتع بكارزما شعبية.
تلك هي مصادر الأسباب التي يرى المستجيبون انها تحول دون حصول تغيير في الانتخابات التشريعية المقبلة..فهل ان توقعاتهم هذه صحيحة؟.وما الذي جعلهم بهذه النظرة المفرطة في التشاؤم والشعور مقدماً بالخيبة؟
تحليل سيكولوجي
بدءاً نُشير الى ان مواقف العراقيين من العملية السياسية ومن احزاب الاسلام السياسي في عام( 2017) هي ليست نفسها في عام( 2010) وما قبله، لحصول اربعة متغيرات جوهرية:
الأول:شيوع الفساد باعتراف الحكومة والبرلمان والكتل السياسية،وعدم محاسبة متورطين بنهب اموال لو انها استرجعت لما بقي خمسة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر.
الثاني: تغيّر موقف المرجعية من الحكومة وادانتها لفشلها في ادارة الدولة،ودعوتها الى اقامة دولة مدنية.
الثالث:قيام العراقيين بتظاهرات بدءاً من شباط (2011) وما تزال مستمرة رفعت شعارات تطالب بالاصلاح وتسخر من البرلمانيين باهزوجات شعبية(نواب الشعب كلهم حرامية).وكان لسلوك الاحتجاج هذا ان ادى الى توعية الناس بثقافة جديدة توحّدهم في التعامل ضد الظلم وتدفعهم الى ايجاد معنى للحياة،ونجم عنها تقارب بين علمانيين ودينيين كان يعدّ قبلها احتمالا بعيدا.
والرابع:اعتراف قادة سياسيين اسلاميين بوجود نقمة في الشارع على احزاب الاسلام السياسي،واعتراف جماهير واسعة بالشعور بالندم على انتخاب اشخاص وجدوا انهم خذلوهم وأذلوهم.
هذا يعني ان اسباب التغيير موجودة بقوة،فلماذا يكون التشاؤم بهذه الحدة؟!
الجواب هو ان المبالغة في التشاؤم تزداد في زمن الانكسارات النفسية وتوالي الخيبات،وتشيع بين الناس عدوى الشعور بالاحباط،الذي يدفعهم الى نبش الأحداث والمواقف السلبية في الذاكرة التاريخية السياسية لتبرير حالة التشاؤم..وهذا ما هو حاصل الآن مع ان تفعيل اسباب التغيير سهل بتأمين أمرين:
الأول: يقين المواطن بأن صوته في الانتخابات سيكون مضموناً عبر انتخابات مستقلة عن التأثيرات الحزبية والسياسية،ووفق معايير الكفاءة والنزاهة المهنية..وهذا ممكن عبر أصرار المتظاهرين على تغيير قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية عليا مستقلة تعتمد آليات وطنية ودولية،والتعاون مع مؤسسة نظم الإدارة الدولية(International Management Systems) لتحقيق انتخابات نزيهة.
الثاني:ادراك القوى الوطنية والعلمانية والدينية اللاطائفية ان قوة احزاب الاسلام السياسي تكمن في فرقة هذه القوى،وتوحّدها داخليا ومع الكفاءات العراقية في الخارج في احزاب وتيارات نوعية تستثمر التذمر الشعبي الواسع وتوظفه في برامج سياسية عملية تلبي احتياجات الناس،وتعتمد خطابا سهلا مبنيا على سيكولوجيا اقناع جماهير تبحث عن بديل منقذ يتمتع بالمصداقية.
وفي هذا السياق يعزو مستجيبون ان( البديل الغائب) يفتقر الى وجود من يتمتع بـ(كارزما)..وهذا صحيح..ولنا هنا وقفة عن الشخصية الكارزمية في السياسة العراقية.
تعني الشخصية الكارزمية تلك التي تتمتع بجاذبية كبيرة وقدرة عالية في التاثير على الاخرين ايجابيا قائمة على تمتع صاحبها بسمات الكفاءة الشخصية والنباهة والاقناع وكسب الولاء. ويعد نوري السعيد الشخصية الكارزمية المميزة في العهد الملكي،وعبد الكريم قاسم الشخصية الكارزمية في العهد الجمهوري الأول.ومع ان صدام حسين كان طاغية الا انه كان يتمتع بكارزما ليس فقط لامتلاكه تاريخا سياسيا وتحدياته وتعرضه لمواقف كان يمكن ان تقضي عليه،بل ولمواصفات تتعلق بهيئته وشكله ونباهته وتدفقه في الكلام. وكان يمكن للراحل الدكتور احمد الجلبي ان يكون شخصية كارزمية لولا انه اضطر الى أن ينضوي تحت عباءة الاسلام السياسي الشيعي.وكان يمكن للدكتور اياد علاوي ايضا ان يكون لولا قيادات شيعية نافذة محليا ومسنودة اقليميا،وتهم فساد ايضا.
ونرى من وجهة نظرنا السيكولوجية ان زمن ظهور كارزمات في العراق السياسي قد انتهى لسببين،الأول:ان التنافس بين قادة احزاب الاسلام السياسي على السلطة والثروة لن يفرز بالمطلق شخصية كارزمية،لأن من شروطها توافر عنصري الكفاءة والنزاهة.والثاني:ان حكم احزاب الاسلام السياسي في مجتمع طائفي لن يسمح بظهور شخصية كارزمية علمانية.
وقضية اخرى لها فعلها السيكولوجي المؤثر في العقل الجمعي هي ان المطالبة بالتغيير يفهمها الإنسان البسيط المغيب وعيه على انها تستهدف القضاء على احزاب الأسلام السياسي(وسيعمل قادتها على تخويف الناس من العلمانية)،وهذا ليس بصحيح، فالتغيير لا يعني ازاحتها عن السلطة برغم انها اذلت الناس وافقرتهم وهجّرت مئات آلاف المسيحيين والصابئة،واحالت الوطن الى خراب، بل يعني القضاء على استفرادها بها،فضلا عن ان التغيير اصبح مطلبا جماهيريا صار يطالب به حتى من كان مؤيدا لتلك الأحزاب..ما يعني ان الغالبية المطلقة من العراقيين باختلاف هوياتهم الدينية والقومية والمذهبية اقتنعوا الآن بضرورة مجيء قوى وطنية تعمل على تأسيس دولة مدنية..تعتمد مبدأ العدالة الأجتماعية الذي يضمن للعراقيين جميعا حياة تليق بهم في وطن يمتلك كل مقومات الرفاهية..وتلك هي مهمة المفكرين والمثقفين والمرجعية و(شعب) الفيسبوك، بتفعيل سيكولوجيا التبشير بأن التغيير أكيدٌ راح يصير!
————–
* تنويه لتحوط : على القوى الوطنية والتقدمية ان تدرك من الآن حقيقة ان الطائفية السياسية تلتقي مع النازية في ان كليهما تعتمدان اعلامياً سيكولوجيا التخويف من الأعداء، الذي يدفع الجماهير البسيطة الى ان ترضى بالبؤس على أن تفنى !
نقلا عن صحيفة المدى