شهد التعليم العالي نهضة حقيقية منذ ثورة 14 تموز 1958 حيث انيطت رئاسة جامعة يغداد الحديثة بالعالم المرموق الاستاذ عبد الجبار عبد الله كما جرى ابتعاث المئات من الطلبة المتفوقين للدراسة في الجامعات الاوربية وخاصة بريطانيا والمانيا الغربية وفرنسا وكانت اختيار طلبة البعثات وفق المعدلات دون اي اعتبار او تمييز على اساس المذهب اوالدين او القومية .
تعرضت العملية التربوية بكافة مراحلها لانتكاسة كبيرة بعد غزو الكويت وفرض الحصار الظالم على الشعب العراقي ، رغم ما سبق ذلك من عملية تبعيث قبيحة للجامعات تلك العملية التي افقرت الجامعات علميا وادت الى خسارة العراق للمئات من خيرة الاساتذة والعلماء ، الا ان ما حصل بعد الحصار كان كارثة حقيقية حيث اضطرت الكوادر التدريسية للجامعات الى اللجوء الى اعمال ومهن بسيطة وصلت حد بيع السكائر ببسطات لغرض توفير لقمة العيش .
لقد بدأت عمليات الغش وتزوير الشهادات منذ تللك الفترة حيث انتعش سوق مريدي للاوراق المزورة وتمت عمليات واسعة لكتابة الاطروحات للطلبة باثمان بخسة وكانت تشترى الدرجات والشهادات وبدأ الفساد ينخر في جسد العملية التربوية ولذلك يمكننا القول بموضوعية بان تدني مستوى التربية والتعليم وخاصة التعليم العالي لم يكن وليدة يومه بعد الغزو والاحتلال عام 2003 .
اود ان اوضح قبل الاسترسال بان ذكر هذه المقدمة للفترة الماضية هو بهدف توضيح خلفيات الظاهرة الحالية في تدني مستوى التعليم العالي كما اود ان اذكر بان شرح هذه الحالات المرضية ليس بغرض التعميم او الانتقاص من القدرات العلمية لطلبتنا فرغم تلك الصعوبات مازال لخريجي الجامعات العراقية وخاصة الاطباء والمهندسين والعلماء بصمة عالمية ايجابية واضحة كما انهم اثبتوا جدارة كبيرة في سنوات الحصار في مواصلة انتاج المصانع العراقية واستمرار عمليات البناء وتوفير الخدمات الصحية على قدر المستطاع .
يطول الحديث عما يجري حاليا من خراب ممنهج للعملية التربوية منذ مرحلة رياض الاطفال الى مرحلة الدراسات الاولية والدراسات العليا في الجامعات وقد كتبت ونشرت مئات المقالات والدراسات من الاساتذة الافاضل حول تلك المواضيع لذلك احاول التطرق لموضوعين اساسيين احدهما القانون القبيح الذي اصدره البرلمان العراقي والذي ليس هناك مثيل لبعض بنوده على النطاق العالمي والموضوع الثاني يتعلق بالجامعات الاهلية التي اصبحت كما يبدو اخطبوطا يسيطر على مجمل التعليم العالي .
لقد اصدر البرلمان العراقي قانون اسس تعادل الشهادات والدرجات العلمية العربية والاجنبية رقم (20) لسنة 2020 في سابقة تعدي خطيرة على مهمات وصلاحيات الجهات المهنية المختصة ( وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) وبالرغم انه يعتعمد في الكثير من مواده على قانون تعادل الشهادات القديم لعام 1976 وتعديلاتة الا انه تضمن اضافات خطيرة مفصلة على مقاس العناصر الطائفية الفاسدة التي يظهر انها لم تكتفي بتسميم العملية السياسية كاملة بل قررت وبغياب رقابة المحكمة الاتحادية العليا على القونين ان تضيف مواد قراقوشية في القانون الجديد ليتمكن المسئولين والنواب الفاسدين (وهم مرضى بالالقاب) الحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه حتى بدون امتلاكهم لشهادة الاعدادية ؟!
ان البرلمان العاجز عن اصدار القوانين التي تهم مصلحة الشعب والوطن كقانون الاحزاب وقانون النفط وقانون من اين لك هذا على سبيل المثال لا الحصر ، لا يتورع من اصدار هذا القانون المسخ للاستفادة والمنفعة الشخصية اذ كيف يمكن كما نصت المادة الثانية من القانون للامانة العامة لمجلس النواب ان تمنح صلاحية تعادل اية شهادة حيث انها وفق قانون وزارة التعليم العالي هي حصرا من صلاحيات مديرية تعادل الشهادات بالوزارة والتي من واجباتها التاكد من رصانة الجامعة والشهادة كما الغى القانون في مادته السادسة ضرورة البقاء بشكل متواصل في البلد الاجنبي للفترة المطلوبة للحصول على الشهادة واعتبر فترة 4-6 اشهر للبقاء حتى بشكل غير متواصل كافية للحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه ولمدة دراسة سنة للماجستير وسنتين للدكتوراه اي ان قضاء فترة العطلة الصيفية لمرة او مرتين للنزهة كافية للحصول على الشهادة كما منح القانون امتيازات خاصة للنواب والمدراء العامين وذوي الدرجات الخاصة تستثنيهم من شرط العمر وتسمح لهم الدراسة اثنا الوظيفة وهي مخالفات صريحة لقوانين التعليم العالي النافذة ومخالفة لمباديء الدستور في تكافؤ الفرص .
من الواضح ان القانون قد شرع للمصلحة الانانية الشخصية ولتحقيق منافع وامتيازات خاصة بهم ولمنح الشهادات العليا لعناصر الاحزاب والقيادات السياسية بدون استحقاق في تجاوز واستهانة صارخة بصلاحيات واختصاصات وزارة التعليم العالي ومن المؤسف ان يقف مجلس الوزراء صامتا متفرجا او متواطاْ في اصدار هذا القانون الذي سيدمر اية سمعة تذكر للرصانة العلمية في مؤسساتنا الجامعية وان الاصوات التي رفعت ضد القانون لم تكن مع الاسف بمستوى الضرر الذي يسببه هذا القانون وارى ان من مسؤولية الاكاديميين العراقيين داخل وخارج الوطن القيام بحملة نشيطة لالغاء هذا القانون خاصة ان من المحتمل ان يكون احد اهداف تشريعه المصادقة على 5000 شهادة مزورة لم تعترف بها الوزارة مما يهدد مصداقية التعادل يايشع الاشكال ؟
الموضوح الآخر هو اتساع ظاهرة الجامعات الاهلية التي بدأت بالانتشار بعد عام 2003 ورغم ان القطاع الاهلي يلبي حاجةالطلبة الميسورين الذين لا تكفي معدلاتهم للدخول الى الجامعات الحكومبة وكذلك الاعداد الكبير منهم الذين لا تستوعبهم الجامعات . ان الاسئلة المشروعة التي تثار حول الجامعات الاهلية هي دوافع انشائها من ناحية ومستواها ومدى جودة التعليم فيه من ناحية اخرى .
لقد تم تأسيس معظم هذه الجامعات التي بلغ عددها 67 جامعة وكلية اهلية لحد الان من قبل متنفذي العملية السياسية وازلامهم والكثير منها نشأت بعيدة عن الضوابط المهنية المطلوبة ولم تؤسس وفق اية دراسة عن الحاجة والجدوى ولا يتوفر فيها الكادر التدريسي المؤهل وهي تخضع للعلاقات الشخصية والولائات الحزبية في انجاح الطلبة وقبولهم وتخضع للصفقات المشبوهة، وانفتحت الابواب مشرعة امام المستثمرين مهما كانت مؤهلاتتهم حيث اصبح مجالا للاثراء السريع حيث تقدر ايرادات الجامعات الاهلية بالتريولانات واصبحت ماقيا التعليم الاهلي تتحكم بوزارة التعليم وتعيين الوكلاء والمستشارين في الوزارة وتتلاعب بمقدرات الوزارة ومن اخر فضائح التعليم قضية ما يسمى بالجامعة الامريكية التي تم منحها القصور الرئاسية ومنحة حكومية كما منحت بعض لجامعات الاهلية حق فتح كليات للطب البشري من دون وجود مستشفيات تعلمية وتم استثنائها من هذا الشرط ، وطبعا الكل يعرف ان تدمير البلد يتم عبر تدمير التعليم والغش الذي يؤدي الى تخريج اطباء فاشلين يقتلون المرضى ومهندسين فاشلين في يناء المباني او العمل في الصناعة .
ان التزوير في الشهادات ظاهرة مستفحلة ولاتتم محاسبة او محاكمة هؤلاء المزورين لانهم جزء من الحكام الفاسدين الذين لاتتوفر لدى بعضهم وهو عضو برلمان الا شهادة اعدادية مزورة كما ان وزير تعليم عالي سابق وقيادي اسلامي اعترف قبل سنوات بوجود عشرات الالاف من شهادات الاعدادية المزورة التي تم قبولهم في الجامعات وفقها .
ان الخطورة في استمرار هذه الظواهر المرضية التي يجب عدم السكوت عنها وفضح العملية السياسية المحاصصاتية الفاسدة التي دمرت وتدمر حاضر العراق ومستقبله .