تأتي أهمية إصلاح التعليم العالي بشكل خاص باعتباره الأداة الإستراتيجية التي يعتمد عليها في تقدم المجتمعات وحل مشاكلها الحاضرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصنع مستقبلها وترسيخ مكانتها بين الأمم في عصر لا يعترف إلا بالأقوياء والأقوياء في هذا العصر هم أولئك الذين امتلكوا ناصية العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي, والتي كانت النظم التعليمية وخاصة العالية من ورائها ومن العوامل التي ساعدت على تطويرها, ونحن إذا ما تتبعنا تاريخ النهضات الاقتصادية للدول المتقدمة فأننا نجدها ترجع من قريب أو بعيد إلى عوامل التربية والتعليم والتأهيل والى النظم التعليمية المتطورة, والى التعليم العالي بشكل خاص !!!.
ولذلك وللأسباب المذكورة أعلاه أصبح الإنفاق على التعليم بصورة عامة وعلى العالي والبحث العلمي بشكل خاص هو من باب الاستثمار ذو العوائد طويلة الأمد, وليست من باب الاستهلاك على نسق ما ينفق على السلع والبضائع الكمالية, وأن ما ينفق على التعليم هو توظيف مثمر للموارد ويؤتي ثماره مضاعفة ويؤدي إن أحسن استخدامها إلى عائدات اقتصادية تفوق العائدات الاقتصادية للمشروعات الصناعية والزراعية وسواها. وقد أكدت الدراسات ذات العلاقة بالاقتصاد التربوي والتي قام بها دينون الأمريكي وريداوي البريطاني وستروملين الروسي وهي تؤكد جميعها أن الزيادة في الإنتاج لا تعود فقط لزيادة رأس المال واليد العاملة بل يرجع إلى عوامل التقدم التقني والمعلوماتي وما وراءه من إعداد وتدريب وتعليم للموارد البشرية !!!.
نستطيع القول أن مستوى التعليم العالي في العراق عند نهاية عقد السبعينيات كان متقدما مقارنة مع جامعات المنطقة, عندما كان هناك ست جامعات فقط هي : ( بغداد والمستنصرية والتكنولوجية والموصل والبصرة والسليمانية ), ولكن الأوضاع السياسية العامة كانت تحمل في طياتها نذير شؤم تجسده سياسات التبعيث والتضييق على الحريات الأكاديمية للأساتذة وتحويل مؤسسات التعليم العالي إلى بؤر للدعاية السياسية للحزب الحاكم, مما اخل بمعايير النزاهة والجودة وأفسد البحث العلمي وغاياته في هذه المؤسسات, تلتها سنوات من الحروب العبثية التي أقدم عليها النظام وسنوات حصار وتجويع أوقعت هذه المؤسسات في شللية كاملة عن أداء دورها في خدمة المجتمع والبحث العلمي, وفد بدأت في عقد الثمانينيات والتسعينيات ملامح الهجرة للكادر التدريسي إلى الدول العربية وترك الجامعات على خلفية تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية العامة !!!.
وقد أصدرت حديثا وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تقريرا عن عمل الوزارة خلال السنوات 2011 ـ 2013 حمل عنوان ” التعليم العالي والبحث العلمي: أرقام وحقائق, انجازات ثلاث سنوات “. وقد ناقش الدكتور محمد الربيعي هذا التقرير بموضوعية وعلمية فائقتين في البعدين الكمي والكيفي في مقاله المنشور على صفحات الانترنيت والموسوم: ” مناقشة هادئة لتقرير” التعليم العالي والبحث العلمي: أرقام وحقائق, انجازات ثلاث سنوات “, ويمكن العودة إلى هذا المقال
للوقوف على ابرز الملاحظات ألانتقاديه الخاصة بتطور التعليم العالي للفترة القريبة المنصرمة في مختلف أبعاده. وقد ركز تقرير الوزارة على كم هائل من الأرقام والإحصائيات لأعداد الطلبة والتدريسيين وأعداد الجامعات التي بلغت 29 جامعة, إلى جانب 39 كلية أهلية, في وقت تتزايد فيه بطالة الخريجين, مما يثير تساءل عن جدوى هذا التوسع الكمي, وافتقد التقرير إلى معلومات تفصيلية عن الجامعات والدراسيين في إقليم كردستان !!!.
ويجب الإشارة هنا إلى أن 80 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي في العراق تعرضت للتدمير والتخريب والنهب منذ بدء الاحتلال الأمريكي عام 2003 ,وعملية إعادة الأعمار الجارية تشمل فقط 40 بالمائة من مؤسسات التعليم العالي, بينما تتواصل هجرة الأساتذة والمعلمين إلى المناطق الأخرى, حيث غادر حوالي 40 بالمائة منهم منذ عام 0199 والتي بلغت عشرات الألوف, كما قارب عدد ضحايا الإرهاب والاغتيال منذ سقوط النظام السابق 300 كادر شملت كبار التدريسيين والأكاديميين من مختلف جامعات وكليات العراق, وقد تكثفت حملة الإرهاب ضد الأكاديميين في منتصف العام 2005 وبلغت ذروتها في العام 2006 ـ 2007 مما أدى إلى هجرة جماعية لعشرات الآلاف من المفكرين والعلماء والفنيين العراقيين وعائلاتهم إلى الخارج, وقد ذكرت ذلك بالتفصيل في مقال لي على الانترنيت بعنوان ” قطاع التعليم العالي والبحث العلمي, ملاحظات على خلفية تعيين الوزير الجديد ” !!!!.
ح تدهور قطاع التعليم العالي والبحث العلمي فيما يأتي:ويمكن إيجاز ابرز ملام
ـ التدهور الأمني المستمر لمؤسسات التعليم العالي وتدخل رجالات الأحزاب والمليشيات الطائفية في شؤون التعليم العالي مما يضع طرفي العملية التعليمية : الطالب ـ الأستاذ والعملية التعليمية برمتها في دوامة عدم الاستقرار والخوف من المستقبل¸مما يترك أثره الواضح في تسرب الطلاب وهجرهم لمقاعد الدراسة وهجرة الكادر التدريسي.
ـ الإجراءات التعسفية في إقالة أو إحالة الكادر التدريسي الجامعي ومن درجات علمية متقدمة ” أستاذ وأستاذ مساعد ” على التقاعد بذرائع ومبررات واهية, منها كبر السن أو بتهمة عدم الكفاءة, وهي إجراءات تنفذ في الخفاء بواجهات سياسية أو انتماءات طائفية, وتحرم هذه المؤسسات من خيرة كادرها المتمرس في التدريس والبحث العلمي.
ـ تدهور البنية التحتية اللازمة لتطوير التعليم العالي من مكتبات علمية ومختبرات وشبكة انترنيت ومصادر المعلومات المختلفة, وقد تعرض الكثير منها إلى الحرق والإتلاف الكامل والى التخريب والسرقات المقصودة لإفراغ الجامعات من محتواها المتمثل بالمراجع والكتب والأبحاث والمقررات الدراسية بمختلف التخصصات, وغلق أقساما للدراسات العليا بكاملها تحت ذريعة عدم توفر الكادر التدريسي اللازم لها .
ـ تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة, أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية, بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي, وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.
ـ تغييب الكليات الإنسانية والتضييق على دورها المهم في الحياة الثقافية العامة عبر الحد وعرقلة أنشطتها المختلفة التي يفترض لها أن تسهم بإشاعة ونشر قيم التسامح والعدل والحق ومكافحة الإرهاب, وقد شهدت هذه الكليات حرق العديد من مكتباتها بالكامل, وعرقلة إصدار دورياتها الثقافية الشهرية أو الفصلية أو السنوية, وانعدام الأجهزة اللازمة لاستمرار عملها كأجهزة الاستنساخ والطباعة وغيرها, إضافة إلى محاصرة العديد من مبدعي وكتاب هذه الكليات ومنعهم من الظهور العلني للحديث عن نشاطاتهم ونتاجاتهم الثقافية والأدبية المختلفة.
ـ استشراء الفساد بمختلف مظاهرة الإدارية والمالية, من محسوبية ومنسوبيه وسرقة الأموال المخصصة لهذا القطاع وتزوير للشهادات والتلاعب بسجلات الدرجات من خلال ممارسة الضغط والابتزاز على إدارات الأقسام الدراسية و عمادة الكليات لمنح ضعاف التحصيل ما لا يستحقوه أو إضعاف المتفوقين دراسيا والعبث بدرجاتهم بدوافع الانتقام والثأر بواجهات مختلفة, سياسية ومذهبية وطائفية وغيرها.
ـ ضعف التنسيق بين الجامعات والكليات الأهلية من جهة وبين الجامعات والكليات الحكومية من جهة أخرى, حيث الإرباك في تكرار الاختصاصات المتشابهة في كلا الطرفين وعدم انتهاج مبدأ التكامل في التخصصات بين المؤسسات التعليمية العالية الحكومية منها والأهلية, الأمر الذي لا يخدم أغراض التنمية وسد الحاجة لمختلف التخصصات, وانعدام الهيكلة الإدارية التي تضمن بقاء التعليم الأهلي تحت إشراف فعلي وليست شكلي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تلك المؤسسات, مع احترام استقلاليتها الإدارية والمالية, بل يدخل التعليم الأهلي في أحيان كثيرة كمنافس للتعليم الحكومي و كمصدر لاستنزاف الكادر العلمي والتدريسي من المؤسسات الحكومية تحت وطأة المغريات المادية والمالية, وبالتالي فأن الكثير من خريجي الجامعات والكليات الأهلية مهددين بالبطالة وانعدام فرص العمل لاحقا بسبب من ضعف الحاجة لاختصاصاتهم, علاوة على ذلك نرى أن التوسع السريع في إنشاء مؤسسات التعليم العالي الأهلية والذي زاد عددها أكثر من ضعف مقارنة بعهد النظام السابق يثير تساؤلات كثيرة عن جدوى هذا التوسع والحاجة الفعلية له !!!.
ـ عدم السماح وعرقلة جهود المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وأجهزتها المعنية بشؤون التعليم العالي على الإشراف والتأكد من ظروف عمل هذه المؤسسات بما يستجيب لشروط الجودة العالمية لهذه المؤسسات وحماية خريجها من عدم الاعتراف بالشهادة, وكذلك عرقلة جهود اللجنة الدولية للتضامن مع أساتذة الجامعات.
ـ في ظروف العراق الحالية والذي توقفت فيه التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة, تضعف فيه كنتيجة منطقية قدرة ودور الجامعات والمؤسسات البحثية في المجتمع وبالتالي تضعف روابط التعليم العالي ودوره الأساسي في التخطيط والاستجابة لظروف التنمية البشرية الشاملة وحاجتها الفعلية لمختلف القيادات والكوادر في مختلف التخصصات العلمية والأدبية والمهنية والتقنية وغيرها.
ـ تشير الكثير من المقابلات الميدانية التي أجريت مع أساتذة جامعات وقيادات أدارية وطلابية إلى أن الكثير من مؤسسات التعليم العالي تحولت إلى مؤسسات مصغرة للمساجد والحسينيات والجوامع, تجري فيها الشعائر والاحتفالات والطقوس الدينية على نسق ما يجري في المساجد والجوامع, وكأن لم يكفي الآلاف من المساجد والجوامع المنتشرة خارج الجامعات, حتى أن العديد من المختبرات العلمية تحولت إلى حسينيات لزمرة هذا الحزب السياسي الطائفي أو ذاك, ولكي تتحول
بالتدريج إلى بؤر للفساد والاحتقان الطائفي والمذهبي وللتفرقة بين الطلاب, حيث تسيطر كل ميليشيا حزبية على إحدى الكليات ومرافقها داخل الجامعة, وانتشار صور المعممين في أروقة الكليات والجامعات والشعارات الدينية الطائفية الاستفزازية والعبث بمسميات هذه المؤسسات وتسميتها برموز قيادات أحزاب أو طوائف, انه امتهان للحرية الأكاديمية وتسييس للمؤسسات العلمية وزجها في الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية .
ـ ضعف الإنفاق على التعليم العالي والبحث العلمي باعتباره دعامة أساسية لإعادة بناء بنيته التحتية وإقامة المشاريع البحثية والتعليمية المتقدمة, وبالتالي فأن أي نوايا للإصلاح دون توفير الأموال اللازمة هي نوايا باطلة وقد تعكس بنفس الوقت رؤى متخلفة للقيادات التربوية والتي ترى أن ما يصرف على التعليم هو من باب الاستهلاك الغير ضروري وليست الاستثمار طويل الأمد.
ـ ضعف وتدهور البحث العلمي وأصالته ومكانته في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وضعف استقلالية الأستاذ الباحث الذي يتعرض إلى ضغوطات مختلفة لتوجيهه الوجهة التي يرغب فيها هذا الكيان السياسي أو ذاك, وأن اغلب ما يجري من أبحاث يعتمد على نظريات ومفاهيم مهجورة أو أنها تقادمت في ظل عصر تتغير فيه المعلومة يوميا, أو أنها هجنت بطريقة عجيبة نتيجة للقيود والضغوطات الرقابية والحزبية والطائفية, وهي تذكرنا بحقبة توظيف ” البحث العلمي ” لخدمة مصالح الحزب القائد وتمجيد قائد الضرورة.
ـ غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها, حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك, ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث, ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث, وضعف القاعدة المعلوماتية, وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية, وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي, وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.
:مبررات ومستلزمات أصلاح التعليم العالي
أن مبررات إصلاح نظام التعليم العالي في العراق كثيرة وقد لا يسع المجال للحديث عنها في هذه الورقة البحثية المتواضعة, إلا إننا يمكن اختزالها بالمبررات والأسباب الآتية:
1 ـ لقد انقطع العراق عن الثورة المعرفية والمعلوماتية لعقود بفعل سياسات النظام السابق وطبيعة حكومته ذات الحزب الواحد التي فرضت حصارا على مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي, واعتبرت أن ما يصدر عن الحزب وقيادته الحكيمة هو المصدر الأول والأخير للمعلومات ومصداقيتها في مختلف العلوم, وبهذا كان النظام السابق بمعزل عن الثورة المعرفية المتزايدة وما تفرضه من زخم التحديات والسرعة الفائقة في إنتاج هذه المعرفة وتطبيقها في مناحي الحياة المختلفة, وقد تناسى النظام السابق والأحزاب السياسية الحاكمة اليوم والمليشيات الطائفية أن امتلاك المعرفة لا السلاح يمثل
القوة التي بموجبها تصنف الدول ومستوى رقيها وتقدمها, وان السبق في عالمنا المعاصر مرهون بامتلاك المعرفة, كما أن مجتمع المعرفة يقوم على قاعدتين هما البحث العلمي المبدع والتطبيق التقني المبتكر المتمثل بالعلم والتكنولوجيا.
2 ـ أن البيئة الدولية المعاصرة تشهد ازديادا مضطردا في دور العلم والمعرفة وتأثيرها على مجريات العلاقات الدولية ارتباطا بظاهرة العولمة وتآكل حواجز السيادة التقليدية وهيمنة ثورة المعلومات, وعلى ما يبدو فأن العراق مهيأ للانفتاح عليها في ظل اقتصاديات السوق الحر باختلاف النوايا والتوجهات, ففي دولة الفساد قد يكون الانفتاح يشكل فرصا مواتية ومضاعفة لسرقة المال العام ونهبه, وفي الدول المستقرة تكون الفرصة أعظم للاستفادة من منجزات التطور العلمي والتكنولوجي وتقنية المعلومات, وفي الحالة الأخيرة تظهر أهمية تطوير التعليم العالي والبحث العلمي لمواجهة تيارات العولمة الجارفة من خلال رفع مستوى الكفاءات الفردية العلمية والمهنية والبحثية.
3 ـ أن عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وثورة المعرفة يستدعي بالضرورة إلى تعليم يؤدي إلى تطوير وتنمية قدرات الأفراد على قاعدة التعليم المستديم والمستمر مدى الحياة بما يؤدي إلى الوصول إلى المعلومات وتنظيمها وحسن استخدامها والاطلاع عليها في عقر ديارها وحسن استخدامها في التفكير والتعبير والاتصال والعمل وبناء العلاقات, في عصر يتسم بتناقص الموارد غير المتجددة من طاقات وخدمات, وبالتالي فأن على التعليم والعالي منه بشكل خاص أن ينتقل بالمجتمع من الصناعات التقليدية إلى صناعات حديثة, ومن العمالة العضلية إلى العمالة العقلية والتقنية, ومن المركزية إلى اللامركزية, ومن التنظيم الهرمي إلى التنظيم الشبكي, ومن النمطية إلى التميز, ومن الخيار الواحد إلى الخيارات المتعددة, والعراق اليوم أكثر من أي وقت مضى يحتاج إلى هذه الانتقالية لإعادة هيكلته بعد حرمان طويل الأمد من المعرفة العلمية وحسن استخدامها .
4 ـ أن ضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الشاملة في مجتمع ينشد الديمقراطية الحق يستدعي إعادة النظر جذريا في نظام التعليم العالي بمختلف عناصره المكونة ابتداء من المناهج وطرائق التدريس والتخصصات الإنسانية والعلمية وإعادة بنائها على ضوء ما هو مستجد في ميادين هذه العلوم, وتعزيز الحريات الأكاديمية والدفاع عنها وصيانة الحرم الجامعي من تدخلات الأحزاب والمليشيات المسلحة, والارتقاء بمستويات البحث العلمي بما يخدم حل معضلات التنمية الشاملة, والابتعاد عن الارتجال والعشوائية في تقرير سياسات هذا القطاع والآخذ بإستراتيجية واضحة المعالم في الإصلاح تستند إلى أفضل ما أفرزته تجارب البلدان المتطورة في هذا المجال.
5 ـ أن استمرار تدهور مؤسسات التعليم العالي أدى إلى عدم مقدرتها في أداء رسالتها الحضارية والثقافية وسط مناخ سياسي وتعليمي استمر لعقود لا يساعد على استقرار العمل وترسيخ تقاليده في هذه المؤسسات ولا يدعم الإصلاح والتطوير حتى إن وجد في ظل منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية متخلفة, ومن هنا تأتي المبررات القوية لانتشال وإصلاح هذا القطاع في ظروف التغير الجديد والتي يفترض أن ينتقل فيها البلد انتقاله جادة على طريق تعزيز مكانة العلم والمعرفة في حياة المجتمع.
أن مبررات إصلاح التعليم العالي في العراق لا تعني بالضرورة الشروع به, ولكنها تشكل خطوة الإحساس الضروري بجدواه, وأن أي إصلاح حقيقي في مجال التربية والتعليم العالي والبحث العلمي لا يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة منه إلا
إذا جاء كجزء من عملية إصلاحية شاملة تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية وخاصة في ظل التأثير المتبادل والمتفاعل بين هذه المجالات, وأن الشروع الحقيقي في عملية الإصلاح يجب أن يتزامن مع توفير مستلزماته الأساسية, ولعل أبرزها ما يأتي:
ـ الخطاب السياسي الرسمي: أن عملية الإصلاح تتأثر كثيرا بقناعات وأيمان القيادة السياسية والأحزاب الحاكمة وفلسفتها التربوية, وبالتالي يجب أن تتوفر الأهلية الفكرية لهذه الأحزاب والتي تنظر إلى التعليم وإصلاحه في إطار عملية إصلاح شاملة تحتوي كل جوانب منظومة المجتمع المختلفة, وانطلاقا من أن التعليم يشكل ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي والوطني والسلم الاجتماعي ورافدا أساسيا من روافد تجفيف منابع الإرهاب عبر إشاعة قيم التسامح والولاء للوطن.
ـ الإصلاح الاقتصادي: يتداخل الإصلاح الاقتصادي مع الإصلاح التربوي والتعليمي وخاصة مع مؤسساته العالية, ففي الوقت الذي يوفر فيه الإصلاح الاقتصادي فرصا مواتية لنمو التعليم العالي من خلال توفير مصادر متنوعة لتمويله, فأن التعليم العالي يستجيب لضرورات الإصلاح الاقتصادي عبر إعادة النظر بمنظومته الكاملة من خلال تطوير المناهج وطرق التدريس والاستفادة من تكنولوجيا التعليم والارتقاء بمستويات البحث العلمي وتوفير فرص النمو المهني والأكاديمي للكادر التدريسي, بما يساعد على تقديم أفضل الخريجين في مختلف التخصصات لانجاز خطط الإصلاح الاقتصادي والتنمية الشاملة.
ـ الإصلاح السياسي: أن النظام السياسي له تأثير كبير على كافة أنظمة المجتمع الأخرى من حيث تحديد الأهداف والسياسات والإجراءات, وأن نظام التوافقات السياسية أو المحاصصات الطائفية أو الاثنية المعمول به اليوم في العراق هو نظام معرقل لاستقرار مؤسسات الدولة وسياساتها العامة على مدى طويل, حيث يرتبط بطبيعته المؤقتة والآنية والأنانية ولا يرتبط بالأهداف الكبرى للمجتمع وتطلعاته, إضافة إلى بيئته المواتية لانتشار المحسوبية والمنسوبية والفساد, مما يضيع فرص الإصلاح والاستقرار السياسي اللازمة لتطوير العملية التعليمية و يفقد أفضل استراتيجيات الإصلاح فاعليتها وجدواها.
ـ الإصلاح الاجتماعي: تتأثر عملية إصلاح التعليم بمجمل العادات والتقاليد والقيم وتبلور موقفا إزاء التعليم وإصلاحه, فهي قد تلعب دور المعرقل للإصلاح التعليم وإفساد دوره في التنمية الاقتصادية و البشرية, وفي ظروف العراق حيث الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والفساد وحيث يشيع عدم الثقة والاكتراث بجدوى أي مشروع إصلاحي يجب أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية التقدمية دورا متعاظما عبر إعلامها وصحافتها لتكريس القيم الايجابية اتجاه عملية الإصلاح والمطالبة به وخلق الاتجاهات الايجابية نحو التعليم والثقافة والارتقاء بالمستوى العقلي والفكري والمهني.
ـ دور المؤسسة الدينية: على المؤسسة الدينية أن تقوم بدور ايجابي يخدم مصالح البلد في قضايا كبرى مثل الثقافة والتعليم والفكر, وخاصة في مؤسسات التعليم العالي وان يكون لها دورا واضح في ردع من تسول له نفسه بتحويل هذه المؤسسات إلى جوامع أو حسينيات أو بؤر للصراعات المذهبية والطائفية, وعلى المرجعيات الدينية وبحكم تأثيرها اليوم في حياة الناس أن تسهم بشكل كبير في تعزيز استقلالية الجامعات عبر فتاوى وتعليمات واضحة بهذا الخصوص بعيدا عن ضغوطات
أحزاب الإسلام السياسي وطوائفه المتصارعة للعبث في هذه المؤسسات واستقرارها, فالمؤسسة الدينية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بلعب الدور المتميز في استقرار مؤسسات التعليم والبحث العلمي عبر سلطتها الدينية الرادعة.
ـ إصلاح القيادات التربوية: لا يمكن الحديث عن إصلاح التعليم دون الحديث أولا عن إصلاح القيادات المتمثلة في الإدارة التربوية والكادر التدريسي والفنيين وغيره, وأن أجمل وأفضل خطط الإصلاح التي يضعها المتخصصون سوف لن ترى النور قبل أن يسبقها إصلاح للتربويين, لذا فأن التربويين الذين يتسلقون لإدارة عملية إصلاح التعليم هم في أمس الحاجة للإصلاح ضمن معايير الولاء للوطن والاعتزاز به دون الولاء للطائفة أو للحزب السياسي المعني واجتثاث الفاسدين منهم والمزورين وسارقي المال العام.
ابرز الاتجاهات الأساسية لإصلاح التعليم العالي:
أن الحديث عن إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي كإستراتيجية شاملة يستدعي النظر في كافة مكوناته: فلسفته, وأهدافه, وأسس القبول فيه,ومناهجه الدراسية من حيث المحتوى وطرائق التدريس وتقنياته, والجودة التعليمية واليات ضبطها, والبحث العلمي ومستلزمات النهوض به, وتطوير قدرة الكفاءات الجامعية في مختلف المجالات, وهو عمل تفصيلي يستدعي تضافر جهود كل الأخصائيين في هذه الميادين, ” علما أن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لديها إستراتيجية وطنية لتطوير التعليم العالي للسنوات 2009 ـ 2013 , ولاحقا إستراتيجيتها للأعوام 2011 ـ 2020, وأشير هنا فقط إلى ابرز ما يجب الشروع بإصلاحه على المدى القريب وهو جزء من هذه الإستراتيجية الشاملة, أذا توفرت النوايا الحسنة لذلك, وهو ما يأتي:
ـ تحديث هيكلة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي من حيث الأقسام والتخصصات المختلفة.
ـ تعزيز استقلالية الجامعات وحماية الحرية الأكاديمية والحرم الجامعي.
ـ العمل على تعزيز الأمن والاستقرار داخل الجامعات والمعاهد العالية وأبعادها عن الصراعات السياسية والمذهبية والطائفية.
ـ إعادة النظر في المناهج الدراسية والتخصصات المختلفة بما ينسجم مع التوقعات المستقبلية وحاجة البلد لمختلف الاختصاصات والكفاءات العلمية والمهنية والإدارية.
ـ انتهاج سياسة واضح وحكيمة للتنسيق مع الكليات والجامعات الأهلية بما يضمن تحقيق رؤيا متكاملة لكلا القطاعين وتجنب التكرار غير المفيد في نشأت الكليات أو التخصصات المختلفة.
ـ تعزيز مكانة البحث العلمي والارتقاء به عبر ربطه بحاجات المجتمع المحلي وتوفير كافة وسائل الدعم لتسهيله من مال ومصادر المعرفة من شبكة معلومات ومكتبات وانترنيت وغيرها.
ـ عدم إثقال الكادر التدريسي بمهمات إدارية أو أعمال أخرى ليست من صلب عمله, وتفريغه للتدريس والبحث العلمي.
ـ تنشيط نظام العمل بمتطلبات الجودة والارتقاء بالتعليم إلى المستويات الدولية, سواء من حيث كفائتة الداخلية أو الخارجية وعلى نطاق التعليم الحكومي أو الأهلي, ولضمان الاعتراف الإقليمي والدولي بهذه المؤسسات.
ـ تنظيم البعثات والمنح الدراسية إلى خارج البلاد واعتماد معايير الكفاءة العلمية والمهنية لأشغالها بعيدة عن أي معايير حزبية أو مذهبية أو طائفية.
ـ الاستفادة من خبرة الكادر التدريسي والبحثي القديم من ذوي الدرجات العلمية والخبرة والسمعة العلمية المرموقة , وهنا يجب إعادة النظر بالكادر العلمي الذي تمت إحالته إلى التقاعد تحت ذرائع مختلفة ورد الاعتبار لهم والاستفادة من خبراتهم قي نطاق: لجان تقييم المناهج وأساليب التدريس, ولجان ضبط جودة التعليم العالي الحكومي والخاص, وفي لجان استشارية داخل الكليات, ولجان تقييم البحوث العلمية وامتحانات الدراسات العليا ولجان إعداد ومراجعة اللوائح الجامعية وأنظمتها الإدارية وغيرها.
ـ العمل على رفع مخصصات التعليم والبحث العلمي من الميزانية العامة والناتج المحلي لتسهيل مهمة الجامعات في البحث والتدريس وخدمة المجتمع المحلي, وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة للتعليم من أبنية ومختبرات ومكتبات وأجهزة فنية ومد شبكة الكومبيوتر, كما يجب البحث عن مصادر أخرى للتمويل في نطاق المشاريع الخاصة والمؤسسات الأهلية.
ـ العمل الجاد والمسئول والحريص على إيجاد حلول لعودة الكفاءات العراقية من الخارج عبر إزالة المعوقات الإدارية والبيروقراطية وتسهيل معاملاتهم واستخدام منظومة الحوافز المالية والاعتبارية واسترجاع حقوقهم المشروعة في الخدمة السابقة والتقاعد وغيرها.
هذه هي مجرد ملاحظات سريعة أو رؤوس أقلام لإصلاح التعليم العالي, ويبقى الاستقرار السياسي والأمني وتعزيز النظام الديمقراطي مظلات آمنة للشروع بأي إصلاح, ومنها الجامعي باعتباره الحاضنة الرئيسية لبناء المستقبل وإنجاح التنمية وتوطين المعرفة واستنبات التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتية. ولعل الإعلان الأولي لرئيس الحكومة العراقية الجديد في نيته في الاعتماد وتشكيل الحكومة القادمة على الخبرة المهنية والكفاءة العلمية والتكنوقراطية يشكل بارقة أمل في إعادة بناء التعليم العالي والبحث العلمي على أسس وخطط علمية رصينة ومدروسة في البعدين الكمي والكيفي, بما يستجيب فعلا لحاجة العراق الآن وفي المستقبل لمختلف التخصصات والكفاءات العلمية والمهنية ذات المواصفات الدولية من حيث معايير جودتها !!!!.