المجتمعات تتعرى وتنكشف حقائقها ويتبين جوهرها عندما تواجه تحديات كبيرة وتغيرات مثيرة , والمجتمعات التي كانت محكومة بأنظمة إستبدادية وتخنع للطغيان والسلطات العائلية والفردية والعسكرية , , تجدها في محنة التشظي والتخبط والضياع , بعد أن زالت عنها الأغطية , فانساقت في صراعاات وتفاعلات مدمرة لذاتها وموضوعها , وإنهمكت في مسيرات الإنتحار الوطني والإجتماعي والعقائدي الفتاكة القاسية.
ويبدو أن تلك الأنظمة كانت قوة لحبس المساوئ السلوكية والفكرية ومنع الصراعات فيما بينها , فحالما أزيلت تبين جوهر المجتمعات ومعدنها , وما فيها من النوازع والتطلعات الخالية من مداد الحياة.
وهذا يعني أن الأنظمة الطغيانية كانت الدواء بالكي اللازم للحفاظ على وجود المجتمعات وقوتها وأمنها وسلامتها.
قد يقول قائل أن في ذلك إقتراب خاطئ وغريب , لكن الواقع القائم يشير بوضوح إلى أن المجتمعات هي التي تصنع قادتها وحكوماتها وما فيها يظهر من حولها , وحالما تغنت بالديمقراطية وحرية إختيار المسؤولين إختارت الفاسدين والطائفيين والتابعين والمنفذين لأجندات الآخرين , وإندفعت نحو بناء القوة العسكرية المناطقية والفئوية والتحزبية والعشائرية , فاختلطت الأمور وإحتدمت المعارك والمواجهات ما بين أبناء الشعب الواحد , وتسببت بما يحصل في الواقع السقيم على خارطة الوجيع العربي المبين.
إن المجتمعات هي التي تقرر مصيرها مهما تكالبت عليها المخاطر , وهي صاحبة القيادة والريادة , فالذين يحكمون المجتمعات منهم لا من غيرهم , وهؤلاء يجدون العون من المجتمع فيما يقومون به ويقدمون عليه , فهم التابعون لأن المجتمع فيه نوازع تبعية , وهم الخونة لأن المجتمع فيه دوافع خيانية , وهم الفاسدون لأن المجتمع يستلطف الفساد ويمارسه , وهم الظالمون لأن المجتمع يختزن طاقات ظلم وقسوة , فهم مهما تنوّعوا وتعددوا وتبدلوا يمثلون إرادة المجتمع ويعكسون صورته النفسية والفكرية والسلوكية , فالمجتمع هو الذي يأتي بهؤلاء إلى سدة الحكم وهو الذي يساندهم ويطيعهم ويرفع رايات الولاء لهم , ولا يعارضهم بعد أن أسس لهم قوة قمعية تحميهم وتديم سلوكهم المناهض لمصالح الشعب والوطن , وهذا يعني أن المجتمع ضد الوطن ويعادي مصالحه , ولا يمكن الفصل بين هذا وذاك مهما توهمنا وبررنا وتمنطقنا بالحجج الواهية والبراهين الخاوية.
إن حكام أي مجتمع يعبرون عما في المجتمع من الكوامن والمطمورات والدوافع والنوازع التي يريدون التعبير عنها , فينوبون عنهم مَن يقوم بها فينافقون بإظهارهم عكس ما يقوم به الذين وضعوهم في السلطة , وفوضوهم بالظلم والفساد ونهب الثروات وبناء المعتقلات والقسوة على الناس , والجميع يتظلم ويتشكى ولا تجد عنده إلا كلمات الولاء والتودد إلى ذوي السلطة , والذين يمنحون العطايا والمكرمات وكأنها من ملكهم الخاص.
تلك صورة الوجيع الذي يعصف في أركان عالمٍ من الأحزان والدموع!!