18 ديسمبر، 2024 8:08 م

التعبير الصامت في الزمن الصاخب!

التعبير الصامت في الزمن الصاخب!

يمكننا تعريف التعبير الصامت بالقول: إنه فن وممارسة ذكية تتيح للأفراد والجماعات التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم من دون اللجوء إلى الكلمات. إن في عصر السرعة الحالي، حيث يرتفع صخب الحياة، وتنتشر الحروب والصراعات، وتتنوع المنصات الإعلامية التقليدية والمبتكرة، وتتسارع وتيرة الاتصالات، يبرز التعبير الصامت كلغة فنية وشخصية قيمة تنطق بصمت، وتترجم المشاعر والأفكار دون الحاجة إلى الاستعانة بالكلمات الرنانة والجمل البراقة. إنه لغة هادئة، لغة النظرات العميقة، واللمسات الخفيفة، والإشارات الذكية والحركات الساحرة التي تعبر عن الحب و الكره، والحزن والفرح، والخوف، والأمان، والرفض والقبول بطريقة تتجاوز حدود اللغات المنطوقة.
إنّ لكل أمة على أديم هذه الأرض لغتها الخاصة التي قد تختلف عن لغات الأمم الثانية، لكن التعبير الصامت يكاد يكون هو اللغة المشتركة بين الأمم كافة. إنه لغة موحدة تربط بين الثقافات والأجناس المختلفة، وتنقل المشاعر بعمق بلا حدود. علاوة على ذلك فإن التعبير الصامت قد يكون أكثر سهولة ودقة وصدقاً وتأثيرا في توصيل المشاعر من الكلام المنطوق، حيث يمكن أن يكون التعبير الجسدي، والألوان، والإيقاعات الموسيقية، والرسوم الكاريكاتورية أكثر إيحاءً وعمقاً في التعبير عما يشعر به المرء.
بلا شك هنالك أمثلة كثيرة عبر التاريخ البشري تبين لنا أهمية وقيمة هذا الفن في تمرير الرسائل المرجوة، وفي مختلف مجالات الحياة الإنسانية. فعلى سبيل المثال، استخدم نيلسون مانديلا ورفاقه التعبير الصامت كأداة للضغط والاحتجاج على ما يعانيه السجناء السياسيون من معاملة سيئة وظروف قاسية في سجن ” روبن أيلاند” فبدلا من الصراخ والعنف قرر مانديلا وزملاؤه إضرابا عن الطعام لمدة ثلاثة أسابيع، أجبروا من خلاله سلطات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا على تلبية مطالبهم، وتحسين الأوضاع داخل السجن، ولفت انتباه العالم إلى قضيتهم. هذا التعبير رغم أنه كان صامتا إلا أنه كان صاخبا في آذان القائمين على السجن.
وعلى الطرف الآخر كان الصمت هو جزء من فلسفة واستراتيجية غاندي في نضاله غير العنيف ضد الاستعمار البريطاني في الهند. حيث غالبا ما كان يلجأ إلى الإضرابات والصيام بدلا من العنف اللفظي أو الجسدي في مواجهة ظلم الاستعمار البريطاني آنذاك، وبفضل فلسفته وجهوده، تحقق استقلال الهند عن التاج البريطاني في عام ١٩٤٧.
إضافة إلى ذلك، فإن القطعة الموسيقية المييزة “ضوء القمر” لبيتهوفن هي مثال رائع على التعبير الصامت بدون كلامات. يأخذك بيتهوفن في هذه التحفة الموسيقية إلى عالم هادئ يغوص من خلاله في مشاعرك. فعندما تستمع إلى هذه المقطوعة ستشعر أنك تحلق في السماء. حيث يغطس بيتهوفن في أعماقك وينقلك من بيئة الفراغ التي تعيشه إلى بيئة الرقة والهدوء، ثم الحزن والغموض، ثم الرومانسية والترقب، وانتهاء بالتأمل. إنها قطعة فريدة تدغدغ المشاعر والانفعالات الإنسانية دون الحاجة إلى الكلام.
وعند الحديث عن هذا الفن لا يمكن لنا أن نتجاوز إبداع الرسام الإسباني  بارتولومي إستيبان موريللو في لوحته الشهيرة ” المتسول الصغير” . في هذه اللوحة يأخذ بارتولومي يد المشاهد ليريه مأساة هذه الطبقة الفقيرة المسحوقة، حيث يظهر في اللوحة طفل فقير يرتدي ثيابا رثة، ويعصر صدره بإبهاميه لانتزاع حشرة القمل، والتعب والانكسار يخيمان عليه، إنه مشهد تراجيدي يجذب الانتباه ويثير الشفقة والتأمل، ويجبر المشاهد على التعاطف مع هذه الطبقة البائسة. لكن رغم قساوة هذا المشهد، فإن موريللو يسرب الأمل، على شكل ضوء  الشمس، عبر النافذة ليضيء ظلمة المكان ووجه هذا الطفل المنكسر. وفي هذه اللوحة يقدم الرسام الإسباني الطفل الفقير كممثل مسرحي يقف على خشبة المسرح أمام ملايين الناس، ويسلط الضوء عليه ، لكي يحكي للناس عن معاناته ومعانة طبقته الفقيرة. نعم إنها لوحة صامتة في مظهرها الخارجي، لكنها في مضمونها تكلمت و أوصلت الرسائل التي أرادتها من دون أن ينبس ببنت شفة.
وفي الكوميديا، استطاع كل من مستر بين( روان سيباستيان أتكينسون)، وتشارلي تشابلن(تشارلز سبنسر تشابلن) اضحاك ملايين البشر عبر العالم من خلال لغة الجسد دون الحاجة إلى الكلام، أو الثرثرة . لذلك يقال إن  الصمت هو لغة العظماء.
إذن في النهاية يمكننا القول إن صدى التعبير الصامت، الذي يتخذ أشكالا مختلفة، يمكن أن يكون أحيانا أقوى من صدى الكلمات. إنه أداة مهمة للتواصل بين الأفراد والجماعات، ووسيلة فعالة للتعبير عن المشاعر والأفكار دون الحاجة إلى الكلام اللفظي. كما أنه يتجاوز حواجز اللغة ليصل إلى المتلقي أو المشاهد بسهولة تامة. ويمكننا استخدامه في مختلف مجالات الحياة. بلا ريب إنه عنصر سلمي مهم للتواصل بين الثقافات والأجناس المختلفة.