كل الدلائل الملموسة على الأرض والمرتبطة بجوهر السياسة امريكية منذ بزوغ نجم امريكا في عالمنا الحضاري كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية والى الآن , وإن تشترك معها بريطانيا وفرنسا في الجانب الأمبريالي , إلا ان امريكا تفوّقت عليهما بالمؤامرات والخداع السياسي والكذب من ناحية , وفي الجانب الإقتصادي الكبير والتقدم الصناعي وخاصة في المجالات العلمية وعسكرة الفضاء بعد ان استولت على العلماء الألمان اثناء الحرب العالمية الثانية من ناحية اخرى ,
وهذه الدلائل تشير الى ان السياسة الأمريكية بشكل خاص اخذت تسير بغية فرض سلطتها على الشعوب بعد احتلالها عن طريق المؤامرات من خلال اعطاء السلطة الى عملاء ليشاركونهم بسرقة ثرواتها ببرامج توطّد في الكثير منها على البقاء في تلك الدول المحتلة لتتأبد في نهاية المطاف جوهريآ بقواعد عسكرية كالتي في اليابان 119 قاعدة والمانيا 119 والبحرين 12 قاعدة .. الخ ,
وبهذه الإحتلالات بدأت في كل دولة محتلة حركات مقاومة تعارض الإحتلال العسكري او الهيمنة ما جعل امريكا في ما بعد حقبة الحرب العالمية الثانية , تتجه الى اسلوب التقارب مع الدول بذرائع التعاون على دحر الإرهاب مثلآ , او دعم الإقتصاد او دعم الجانب العسكري وادخال الشركات الداعمة لهذا التعاون ,
ومن ثم تبدأ بصناعة العملاء الذين تتمدد بهم داخل البلد المحتل لجملة من الأهداف , فعلى سبيل المثال , لمعرفة قادة المقاومة وتحديد الجهات المالية الداعمة ونوع الآيديولوجية التي تتبعها في إدارة سياستها , خدمة لوجودها الذي من دونه تعتبر بلا حصان طروادة فيها , اما العملاء المنصّبين فلايتورعون عن تحطيم شعوبهم بالقفز الى الحكم بالإنتخابات المزيفة لشرعنة التحطيم بالقمع والخداع , والأمثلة على هذه الدول كثيرة جدآ .
والشعوب بأسرها تشهد بما فيهم طبقة السياسيين والعناصر الأمنية والبسطاء من الناس كمجموعات بشرية تعيش فيها , انها تتقاطع بشكل لا لبس فيه مع المصالح الأمريكية , لأنها مصالح بأنياب شرسة وحاقدة منذ ان تأسست بتلك البغية ولهدف واحد وهو تمزيق الشعوب بشكل عام ونهب ثرواتها الوطنية بسياسة تكون عادة مزدوجة اولها ;
ان شركاتها التي تعمل بالظاهر كجسور داعمة لتطوير إقتصاد اي بلد تستحوذ عليه بوسائلها السياسية المعروفة , أما في الباطن فهي لاتغادر سمة وظيفتها الأصلية وهي فرض معاييرها الصناعية على دول العالم لكي تهيمن عليه من ناحية , وإدامة التعاون مع الداعمين لها من السياسيين الكبار في امريكا ,
الذين لايتورعون عن طلب اي معلومات منها بحكم علاقتهم الشخصية مع اصحاب هذه الشركات بما تفيد جانب من جوانب اهتمامهم , كشرط لدعم عملها , لما تتمتع به الشركات الكبرى من قدرالت مالية ذات تأثير على صنع القرار السياسي طالما تتم بهذه القدرات توطيد العلاقات الشخصية مع اولئك الداعمين من ناحية اخرى .
كما ان هذا التقاطع الذي تسببت به امريكا نفسها على حساب مصالح ومستقبل الشعب الأمريكي , وخاصة في انحيازها الصلف والعنصري الى دولة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الحالية التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني الشقيق , انما هو إنحياز يستمد زئير رياحه الصفراء مما يسمى باللجنة الأمريكية – الصهيونية للشؤون العامة السيئة الصيت ,
المعروفة بإسم إيباك التي تعتمد على استراتيجية المساومة وتبادل المصالح , وهي عصابة سعت بقدراتها المالية الكبيرة الى جعل كل مؤسسات الداخل الأمريكي الإستراتيجية تابعة لنفوذها وخاضعة لتوجيهاتها الخاصة , بعد ان توغلت هذه اللجنة بالداخل الأمريكي لتعطيه وجه الغراب الأسود الثالث بعد وجه الحمار الثاني الذي يمثله الحزب الديمقراطي ووجه الفيل الأول الذي يمثله الحزب الجمهوري ,
وقد برهنت السياسة الأمريكية خلال الحرب على غزة ان وجه الغراب هو الذي يتحكم بسياستها الخارجية والداخلية وبشكل ماحق لكل تحالف او تقارب امريكي مع البلدان العربية في حالة وجود ضرر منه على دولة الكيان , او اي رأي يقف بالضد من الإنحياز لغير مصالح ذلك الكيان العنصري وخاصة في حربها على غزة ,
ومازالت هذه الغراب تخطط للإستمرار بهذا التحيّز المدمر , ومنها دفع الشركات الى الإعتماد على العمالة الأجنبية المختلفة من اجل تنامي العلاقة العكسية بين حجم الإقتصاد المادي وحجم الإحتياطي النقدي بالبلاد , فضلآ عما تسببه من زيادة في مستوى البطالة وتهديد للأمن الوطني واستنزاف للإقتصاد الوطني بشكل عام ,
والإحاطة برغبات هذه الغراب التي لاتعد ولا تحصى امر بالغ الصعوبة , إذ هي تعتبر لاشيء في العالم خارج اهتمامها , مقارنة تلك الفكرة بالفكرة التي تقرنها بالتوراة الذي يرى كل شيء بالكون لا يقع خارج نصه السماوي , وهكذا كل تعاون امريكي مع اي دولة لابد يقود الى منفعة لكيانها اذا شاركت في اي رغبة للتعاون مع اي دولة او كيان او منظمة ,
وهذا يفسره البعض انها مهوسة بإقتحام هذا النشاط هنا او هناك في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص , لكي تقوّض الجانب الذي لاترغب به ان يحقق رغبة الطرف غير الأمريكي , لذلك ينبغي ليس الحذر من التعاون مع امريكا فحسب لتفادي الوقوع ضحية شيء ما تقوضه هذه الغراب , وخاصة في العراق , بل من كسب النفوس المريضة من السياسيين ودعمهم في القضايا التي تهمها , لتنشأ اجيالآ من العملاء ,
لأنها اصلآ ضد تطلعات الشعب العراقي في كافة مجالات الحياة , بما فيها وقوفها ضد عامل التوازن بالعلاقات بين العراق وبين الشعوب العربية المجاورة , لأنها لاتريد له ان يكون قوة سياسية واقتصادية وعسكرية متميّزة في منطقة الشرق الأوسط ,
فضلآ عن وقوفها ضد وحدة اراضيه لتحول بين اثر هذه الوحدة الإيجابي على السياسة الداخلية والخارجية , وفي تنفيذ خطط التنمية الشاملة , معتبرة ان تلك العوامل اذا ماتطورت ببرامجها الوطنية المستقلة مع تماسك جغرافية الأرض , ستكون الأسس التي تهدد امن كيانها الصهيوني المحتل ,
لأن وجه الغراب لايسرها رؤية العراق سيدآ في المنطقة وبكامل سيادته على اراضيه ويشاطرها في هذا الوجه المتبرّم وبعدم السرور العديد من القادة المستعربة الذين تنصّبوا على اوطانهم بخدع سينمائية سياسية وفي حقبة لم تبلغ به الشعوب العربية من النضوج السياسي لتنجب القادة على المستوى الذي يتصدون بفكرهم السياسي النيّر لمخالب وانياب وخناجر بريطانيا في حينه ومخالب امريكا الآن ,
بل يسرّها ان ترى العراق منعزلآ وهزيلآ وغير منسجمآ وبنمط بلا مياه بحرية او ثروة نفطية او زراعية او مائية او تضاريس جبلية , بل ان امريكا على الدوام تعمل على تشويش علاقة العراق مع الدول المجاورة وتدفع عن بعد البعض من السياسيين السائرين في ركب الصهيونية ومعهم جيوشهم الألكترونية ,
الى التحريض على تأجيج العلاقة لتنقلب من حالة التوازن والصداقة وحسن الجوار مع الشعوب المجاورة الى حالة التنافر والتوتر , لتنعطف الى مستوى يرجّح تحقيق مآربهم واحلامهم المريضة في سلب الأرض والمياه ليتقاسموا ثرواتها مع اسيادهم الصهاينة والامريكان .
وبالطبع ان تأثير وجه الغراب بالسياسة الامريكية وصل الى حدود واسعة جدآ , إذ وصل الشرط الجوهري للبقاء في المنصب الوظيفي في مدن الولايات المتحدة , يعادل بقاء الموظف او الطالب او عضو الكونغرس على انحيازه غير المحدود الى دولة الكيان , وبهذا بلغ التذمر من هذه العصابة المجرمة على نحو متزايد بالعالم وفي دولة الكيان نفسها ,
وفي صدد التذمر , فقد صرّح عضو الكونغرس السابق جيمس ترافيكانت عن حزب الحمار ان دولة الكيان تحصل على خمسين مليار دولار سنويآ , بينما فقراء الشعب الامريكي تموت من الفقر , وهذا بسبب خضوع الإدارات المتعاقبة لدولة الكيان , وبسبب الضغوط التي تسلطها وجه الغراب عليها , ولا يجرؤ احد ان يصرّح بهذه الحقيقة في الإعلام , وعلى اثر ذلك التصريح فقد تم طرده من الكونغرس وعوقب بسبعة اعوام بالسجن .
بينما عضو الكونغرس عن حزب الفيل آندي هاريس رُصد يصرح أمام ناشطة يهودية انه لايجيب عن اسئلة المتعاطفين مع حماس لأنهم ارهابيون , ولكن موقف النائب الشجاع ايمن عودة في احدى جلسات مايسمى بالكنيست واجه النواب اليهود بكلمات بالغة بالثورية التي لاتبالي وإن كانت في عقر دارهم قائلآ : انتم الارهابيون والقتلة .. من قتل اربعين الفآ من ابناء غزة ؟! .. من قتل عشرين الفآ من الاطفال تحت عشرة سنوات في غزة ؟ .. انتم الارهابيون ,
وبالطبع فقد تم طرد النائب , وبهذا الطرد يعطي السيد ايمن عودة درسآ للصامتين عن الدفاع عن كينونة الشعب الفلسطيني وحقه في الوجود من داخل حيّز صغير للهيمنة الصهيونية وقد اعلن فيه بفكر مخلص لإنتمائه العربي الرافض للإحتلال وبصوت ثوري معارض لحالة الإجرام والعنصرية التي وصلت اليه دولة الاحتلال في حربها ضد الفلسطينيين .
بهذه الصور المختارة والكلمات الموجزة يتبادر الى الذهن السؤال التالي : بأي حقيقة تريد الحكومة العراقية ان تتعاون مع الجانب الأمريكي ؟!
سيما ان الاعلام الأمريكي في اثناء الحرب على غزة اخذ لايتعامل مع الحقائق , بل بالتعتيم عليها من اجل ارباك العالم عما يحصل من قتل وتطهير عرقي في غزة وخاصة بين صفوف الشعب الأمريكي الذي جعلوه لايعرف ماالذي يجري في الحقيقة على ارض غزة ,
وقد تمثل ذلك في اصدارات صحيفة نيويورك تايمز التي هاجمتها الصحفية الأمريكية آبي مارتن على الطريقة السيئة التي تبرأ بها دائمآ دولة الكيان من مسؤولية الإبادة بتحيّز وولاء واضح , بل وعلى توجيه موظفيها لإتباع بروتوكولات داخلية معينة عندما يكون الحديث عن فلسطين وعن دولة الكيان , ومن يخالف تلك البروتوكولات يطرد على الفور من الوظيفة ,
إذ لايفترض ان ينطقوا بكلمة فلسطين أو كلمة احتلال او استخدام كلمة إبادة جماعية او كلمة تطهير عرقي , وهذا معناه عدم النطق بالحقيقة المعترف بها من قبل المجتمع الدولي والتي تخالفها دولة الكيان وبشكل صارخ ,
وإذا لا احد يقدر على وصف ماتفعله دولة الكيان , فما الذي يتحدث به الموظفون إذن ؟!
بهذه العقلية الإعلامية المستبدة والمتحيّزة الى الجانب الصهيوني وبمعايير مزدوجة تتكرر مرارآ وتكرارآ , يمكن ان تستدير ماكنة الإعلام الأمريكي في أي لحظة على اي حكومة تقف بالضد من سياسة الولايات المتحدة ولجنة الأيباك ,
وهذه اللحظة , بالطبع , ستصنعها عندما يحين موعد تحقيق اهداف الصهيونية مثلما صنعتها مع النظام البائد , ولكن الحدث الذي يمنع وقوع هذه اللحظة هو التخلي عن الإنفتاح والتعاون مع الولايات المتحدة مهما كانت العواقب , لأن لا يمكن ان تتطور البلاد من دون هذا التخلي , ولا ضمان لهذا الإنفتاح الذي يخلق الظروف المؤاتية لتلك اللحظة ولا ضرورة من تواجد عناصره الأمريكية المهددة بسبب خضوعها لقرارات لجنة الأيباك الصهيونية ,
وخاصة ان العدو الصهيوني الذي يقود عنان القرار السياسي في الكونغرس الأمريكي , يستند في عدائه مع العراق بوجه خاص على مناهضة الدين الإسلامي فيه وتكذيب رسالته , والذي يبيّن صحة هذا القول هو النبض اللإنساني الذي يقود مسار السياسة الأمريكية الحالية في إزاء الحرب على غزة , والذي لايمكن ان تكون غايته دون تحقيق إبادة الإنسانية من اجل الوصول الى اهدافه العنصرية ,
ومن ذا الذي يرى الواقع العربي وهو يقف مع تهافت العملاء على ابواب امريكا والصهيونية , ولا يكترث بمآرب الولايات المتحدة على المدى البعيد وخاصة في حرصها على التواجد الإقتصادي والعسكري في البلاد ؟!
الجواب : الذي لايكترث إما يكون مؤمنآ بقوالب امريكا السياسية الثابتة ولايريد الإنحراف عن تلك القوالب , لعدم قدرته على خلق الرؤى السياسية التي تخدم الشعب , وإما يخاف العقاب فيضيع منصبه ومعه مصالحه الشخصية وكل اسس التفكير بالمسار السياسي الواضح الذي يقتلع تأثير السياسة الأمريكية – الصهيونية من سير العملية السياسية بشرط التفاف الشعب بصبر وثبات , وهو عامل يجرد البلاد من ضرر العقوبات الإقتصادية وفق ماعملت بها ضد روسيا وكوبا وفينزويلا وإيران الإسلامية واليمن وسوريا من جراء اقتلاع التواجد الأمريكي ,
اما اذا تعذر ذلك فهذا يعني ان السياسيين في اي بلد محتل هم بلا عقول استراتيجية مفكرة او آلية عقلانية تؤكد وجود النزعة والروح الوطنية لديهم , وهذا أمر تصفق له امريكا , وتصفق لكل نظام محتل يتوانى حتى عن اظهار نقده للقيود الثقيلة والمساويء السلبية الموجودة فعلآ في اسلوب التعامل السياسي جراء التواجد من ناحية ,
او جراء الخلافات الداخلية مع الأطراف الذين يشعرون ان مستقبلهم غير مضمون عندما يرحل المحتل لأنهم مازالوا يعيشون بإرث ونمط التبعية السياسية والخضوع وبشكل صريح الى جانب فشلهم في اظهار العزيمة السياسية الحديدية بفكر متجدد يفضح السياسة الأمريكية الرامية الى خلق الفوضى في الشرق الأوسط بدلآ عن قيامها بكبح جماح الصهيونية المتصاعد ضد القوانين الإنسانية والشرعية الدولية من ناحية اخرى ,
أو يقف ذلك النظام عاجزآ امام إيجاد البديل السياسي المنبثق من تلك العقول الإستراتيجية والآلية العقلانية ذات النزعة الوطنية , إذ لاعيب لحتمية تطور الفكر السياسي وتحديثه وفقآ لمتطلبات البلاد والعصر بعيدآ عن تدخلات شخصيات سياسية سواء كانت امريكية او من دول الجوار , ولا انكار في ان تقدم الحكومة دلائل واقعية اخرى يمكن التنبؤ بتلبيتها لحاجات البلاد لكي تنقله من الحقبة السياسية المغلقة والمهيمنة بالنمط الإداري ,
مثلآ , الى حقبة السياسة الحرة ولو بأقل حدّة من النمط السياسي الثوري الذي يفزع امريكا , لكي تتوازي بها على الأقل مع دول المنطقة من غير المحكومة بوظيفة واحدة من قبل امريكا من ناحية , ولكي توظف قدرات البلاد الإقتصادية في مواجهة المخططات الرامية الى تدمير طاقاته على المدى البعيد من ناحية اخرى ,
لتضع الحكومة واجبها الأساسي وهو تحقيق الحرية والسيادة الوطنية لتنأى عن وصف رجالها من قبل النقاد بالخونة المتكيفين مع ارث الإحتلال او بأعداء الشعب المخربين لحاضر ومستقبل البلاد , وعن وصف آخرين يتهمونهم بتقاسم المؤسسات الحكومية وكأنها دوقيات تابعة لهم ولعشائرهم واحزابهم .
ختامآ , ان مهمة السياسيين في كل مكان هو العمل على إيجاد السبل البديلة التي تحل مشاكل الصياغات السياسية المهينة والموروثة بالهيمنة على البلاد , إذا سلّمنا ان السياسة ليست وهمآ او خيالآ ويصعب اخضاعها للتنظيم والتغيير , بل هي فكر انساني متجدد وخاضع للسيطرة وللتغييرات وفق تغيّر الواقع والدلائل والمعتقدات السياسية التي يطرحها , والله يجزي الفاعلين على حسن افعالها .