إذا طالت التظاهرات فأنها تتطور وتتعثر وينحرف مسارها وتتجه نحو العنف والمواجهات الدامية , وهذا ما يؤكده السلوك الجمعي للبشر في أي مجتمع , سواء كان متقدما أو متأخرا.
وأقرب دليل على ذلك ما حصل في باريس , وقبلها في عدد من المجتمعات المتقدمة , التي إحتشد فيها الناس وتكرر إحتشادهم , مما ترافق بتصرفات عنيفة وأعمال عدوانية وتخريبية ذات خسائر فادحة.
والفرق ما بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة في هذا الشأن , أن الأولى ذات أنظمة حكم دستورية مستقرة تتيح للقانون أن يُفرض بقوة وصرامة , فتحسم الموقف بتوجيه التهم ضد الذين قاموا بسلوكيات مناهضة للسلامة والإعتداء على الممتلكات العامة.
أما في الثانية فأنها ذات أنظمة حكم فردية أو حزبية , وتصبح المواجهة بينهما مسألة حياة أو موت , مما ينجم عن ذلك إندلاع مواجهات دامية وقاسية ما بين الشعب وقوات النظام بأنواعها , فيتساقط العديد من القتلى والجرحى.
ومن الواضح أن الأنظمة القمعية بمسمياتها تجنح دائما للقوة والحسم العسكري , بذريعة الحفاظ على أمن وسلامة الوطن والمواطنين من التداعيات التدميرية , التي قد تنجم عن تواصل التظاهرات وإستغلالها من قبل القِوى المنتفعة من الصراعات الداخلية والحروب الأهلية.
وفي الزمن المعاصر المتواصل كالبرق والمتفاعل بوسائل غير مسبوقة , فأن التظاهرات الجماهيرية عليها أن تلتزم بالسلوك السلمي الحضاري المتقدم , وأن تنأى بنفسها عن العنف , لكن المشكلة أن السلوك البشري الجمعي لا يمكن التحكم به بالعقل , وإنما العواطف هي سيدة الموقف , ومن مخاطر ذلك أنها إذا إنفلتت فأنها ستندفع بعنفوان تيار صاخب يحطم السدود والمصدات ويحقق الفيضان , وبهذا تغرق الشعوب بالتحديات التي لا قِبل لها عليها.
ومن هنا فأن من المسؤولية الوطنية والإنسانية تفرض التفاعل مع التظاهرات بإستجابات فورية , وحوارات وطنية شاملة لكي يتحقق الإستثمار الإيجابي فيها , كما فعل الصينيون قبل أعوام في إستيعابهم للتظاهرات , بالتفاهمات المتبادلة ما بين الحكومة والجماهير الشابة المتظاهرة.
إن إرجاء الإستجابة للتظاهرات في المجتمعات المتأخرة يؤدي إلى إرتفاع سقف مطالبها , وتنامي عواطفها السلبية وإنسياقها وراء سلوكيات نابعة من اليأس وإنغلاق المنافذ , فعلى الحكومات أن تتعامل معها بذكاء وتجتهد في إستيعاب الطلبات , وفتح ما تستطيعه من المنافذ والأبواب الكفيلة بإطلاق الطاقات , لأن التظاهرات في جوهرها تعبيرات عن قدرات وطاقات محبوسة أو مضغوطة تريد أن تتحقق في الحياة , ولا بد من توفير ما يساهم في تبرعمها ونمائها وعطائها الأصيل.
فهل أدركت الحكومات أن التظاهرات ظواهر إيجابية , وأدلة على أن الجماهير ذات قوة وقدرة على صناعة الحياة الأفضل؟!!