بعد عشر سنوات من سقوط النظام الديكتاتوري لازال رجل الدين وشيخ العشيرة بوعي وبدون وعي يجهدان في منع نشؤ طبقة وسطى تأخذ زمام الحراك الاجتماعي ….
الطبقة الوسطى تتشكل من اولئك المشتركين في مساحة من الوعي والحالة الاقتصادية التي تسمح لهم بانتاج رؤى وقيادة حراك نحو بناء دولة تنسجم مع متطلبات المعاصرة وتسمح لها في العيش وفق ادبيات الدول المتحضرة ، وعموما فان المثقفين وحملة الشهادات الاكاديمية من الركائز الاساسية للطبقة الوسطى ، وهذه الطبقة كما قلنا سابقا انعدمت من المسرح العراقي بفعل سياسات البعث الثقافية والاقتصادية ، وبعد سقوط البعث اتجه العمق الشعبي نحو قيادته التاريخية المتمثلة بالدين والقبيلة لقيادة حراكه مابعد التغيير ….
المنظومتين الدينية والقبلية انحصر دورهم في التاريخ الحديث للعراق على ضبط ايقاع العلاقات الاجتماعية بين افراد المجتمع وفق الادبيات لكل منهما ، وربما راود الامل بعض الحركات الاسلاموية العراقية قبل سقوط الطاغية بانتاج دولة دينية وفق المفهوم الايدلوجي للدين المتبنى من كل حركة او حزب اسلاموي ، لكن اصطدام هذه الجهات مع الواقع العراقي بعيد سقوط الدكتاتورية جعلها تصل الى يقين قاطع باستحالة تبني مفهوم الدولة الدينية مما جعلها تنزع جلدها وتتبنى طروحات هي اقرب للمفهوم العلماني والمدني منه الى مفهومهم الايدلوجي للدين ، وبهذا التحول تأكد للمراقبين بان هذه الجهات لم تكن صادقة في تدينها وانما اتخذت الدين سخريا لمصالحهم الخاصة….
المنظومة العشائرية التي وجدت نفسها بمأزق جدي حينما شهدت فراغا حقيقيا لقيادة مستنبطة من الطبقة الوسطى – تولد قناعة ولو بحد ادنى لقيادتها – سعت بكل ثقلها لتشاطر المنظومة الدينية تجاذبا وتدافعا في قيادة الحراك الاجتماعي ودولته القائمة….
في ثنايا هذا الواقع المتخلف بدأ يتعالى شيئا فشيئا وبشكل بطيء صوت الطبقة الوسطى لتزيح هذين المنظومتين عن صدر الدولة العراقية لاصلاح الفساد والدمار الذي لحق بالدولة العراقية والعراق بفعل القيادة المتخلفة لهذين المنظومتين للدولة العراقية ، وبدأ الامل يتصاعد حينما وصلت مستويات ضغط فسادهما الى مستويات كافية لاثارة الرأي العام ليتقبل دور الطبقة الوسطى في قيادة حراكه ، ومما ساعد في وصول الضغط والاثارة الى ذروة عالية هي الفضائح الاخيرة لفساد المنظومتين وخصوصا غرق بغداد وبعض المحافظات ، وفعلا اخذنا نترقب خروج الشعب – وبغض النظر عن خلفياته – لمحاربة الفساد واستئصاله واستئصال المنظومتين الفاسدتين من قيادة الدولة العراقية ، وبالتأكيد ان عامل الفساد والسرقة والتهميش والتدمير للعراق هو عامل مشترك يحسه ويدركه كل عراقي ومن منطلق عراقيته لا شيء آخر….
وللأسف ان هذا الامل بدأ بالانتكاس بسبب خروج تظاهرات منطلقة من مكان واحد ومكون واحد وذات مطالب ولدت نزاعا وجدلا لدى المكونات الاخرى ، بل اصبحت هذه التظاهرات كطوق نجاة لاستمرار قيادة المنظومتين للعراق وصولا الى درك الهاوية ، فلا يخفى على احد ان العلم العراقي القديم والذي يتحسس منه المواطن الكردي والشيعي يولد نفرة في نفوسهما من تظاهرات يرفرف على رؤوسها هذا العلم ، اضافة الى ممارسات محدودة من قبل اجندة مشبوهة لرفع صور وشعارات وهتافات تنحى منحى طائفي ساهمت بشكل فعال لتفعيل وتوسيع الانقسام المجتمعي مما يجعل خطاب الطبقة الوسطى غير مجدي مع عمق اجتماعي انقسم على نفسه ويترقب بعضه بعضا حذرا وتوجسا..
وبهذا فان الطبقة السياسية الحالية والمنتجة من هذين المنظومتين والتي بلغت من الفساد وتدمير الدولة مالم تبلغه طبقة سياسية اخرى على تاريخ العراق الحديث ، ولم يقتصر فسادها على السلطة بل امتد على الدولة والمجتمع لنشهد سلطات التشريع والتنفيذ على مستوى عال من الفساد والتخلف ، ونشهد كذلك تدمير لما توارثناه من دولة بنيت بخبرات وعرق ومعاناة مايقرب من قرن من الزمان ، هذه الطبقة الفاسدة سيمتد عمرها القصير بعد حقنة التظاهرات الفئوية وللأسف الشديد ، والخشية كل الخشية ان الشعب حينما يزيح هذه الطبقة الفاسدة مستقبلا سوف لن يجد دولة او وطن .