23 ديسمبر، 2024 12:07 ص

صوت أُمي والخيار اليساروي

صوت أُمي والخيار اليساروي

لا أبالغ إنْ قلتْ إن كل خياراتي الشخصية بدءاً من مرحلة النضوج الجسماني والفكري إلى لحظة كتابة هذه الكلمات تنطلق أساساً من رغبة غريبة وقديمة نوعاً ما في الإمساك بذلك الصوت المؤلم الذي كانت تئن به والدتي حزنها، وفقرها، وحاجتنا؛ والذي لم يفارقني يوماً منذ أن تسلل إلى روحي في تلك الليلة الشتوية القارسة.
لا طاقة عاطفية ليّ لاستذكار تلك الليلة في أواخر التسيعين من القرن الماضي والتي جلستُ فيها جوارها، وأخذت أنصتُ لصوتها. كنتُ أتصور بأن ما كانت تئن به مجرد أغاني غير مرتبطة بحاجتنا الإنسانية أو الآدمية، كنتُ غبياً وفضولياً في الوقت نفسه، وأعجبتُ بصوتها الجريح، وأدمنتُ عليه حتى صار الشيء الوحيد الذي يرو لي عطشي ويسد جوعي.
ولسنوات طوال كنت اعتقدتُ فيها بأنَّ والدتي هي المرأة الوحيدة التي تنفرد بذلك الصوت الكسير وبقيتُ على الحال نفسه حتى تكشف لي لاحقاُ بأن صوتها لم يكن غناءً ولا طرباً وليستْ هي الوحيدة التي تنفرد به، وإنما نعياً لإنسانيتنا العليلة يشارطها فيه نسوة من الجنوب العراقي طحنت قلوبهن الآلام على مختلف أنواعها من فقد الأحبة أباءَ وأولاداً وصبا لم يتذوقن حلاوته بسبب الحروب والفقر والاستغلال.
ولأن الأمهات قادرات على تجاوز جميع المِحن التي تضعها الأقدار في طريقهن بقلبٍ صبور ومحتسب تجاوزت والدتي هي الأخرى محنة الدنيا بقلبها الكبير، وتركت عادتها الجميلة والمؤذية في الغناء الغريب. لكني لم استطع تجاوزه وهو بذاته لم يرح ليّ فؤادي ويهجره وبقى عنيداً لا يرضى بالهجر ولو لليالي الأرق والقلق، وأمسى دليلي الوحيد في كل شيء كأنه وحياً.
مازال صوت والدتي الذي أدمنته منذ سنوات طوال وأحنُّ إليه كلما كُسر ليّ غصن من روحي بوصلتي التي أثق في قراءتها كثيراً، بوصلتي الوحيدة التي ساهمت وبدرجة شديدة العاطفية في تحديد خياراتي الشخصية حتى في الفترة التي كنتُ فيها إنساناً شديد التدين دون درايتها بما فعله ذلك الصوت في ولدها الذي أرهق طفولته وشبابه في اصطياده من على شفتيها والأخريات.
يقولون بأنه إذا أطمئن القلب لأمر فأسعى إليه وأمشي في مناكبه، ولما أطمئن قلبي لصوتها مشيت في كل ما يميله عليّ. ولأنه أشبه بـ “الإيمان الصوفي “، فقد أبصرني على الدنيا ومأساة الإنسان فيها، وعبثتها وغطرستنا التي لا تفضي إلى الطمأنينة والراحة. شيئاً فشيئاً صار هذا الإيمان الذي يغذيه صوتاً قديماً ورقراقاً كالنبع الصافي في صحراء الروح خياراً يساروياً للشعور بالقوة أولاً والوقوف على ناصية الأماني البسيطة للإنسان المسحوق بسبب لا أباليتنا وجشعنا، والنضال من أجل أن نفوز جميعنا بـ لقمة عيش كريمة وسلام حقيقي وعدل دائم.