على المرء أن يراقب نفسه ان تطرفَت ويحملها على التوسّط فان في التوسّط مندوحة للعودة الى الجهة الصائبة إذا ادرك الرجل خطأه ، ولكن إن تطرف صار الرجوع صعبا وتقبّلُه للحق أصعب ، ومعيار ذلك هو السنّة النبوية الشريفة والشرع الحنيف.
أكثر الموغلين في التدين على غير بصيرة ، تعمى عيونهم عن رؤية الجانب الآخر وتُصمّ آذانهم عن سماع الرأي المخالف وعندها يفوتهم من النصح والمراجعة على-ايدي الصالحين-الخير الكثير ، و أكثر المغالين لا يدركون خطر غلوّهم ويظنون ما لا واقع له ويقولون على الله ما لم يأمر ، وأمرنا الله سبحانه بعدم الغلوّ وقد أمر الأمم قبلنا ان لا يغالوا وان لا يفتروا :{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ،،}
فاحمل نفسك على العبادة بلين وادّبها برفق وطوّعها بحكمة “فإن الطبع نفور” ، ولا يمكن نقله عن عاداته الرديئة دفعة واحدة بل تدرّجا حتى تنفصم الأخلاق المذمومة المتجذرة فيه ، “ومن لم يراع التدريج توغّل إلى حالة تشق عليه فتنعكس أموره ويصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا ينفر عنه” كما قال الإمام الغزالي رحمه الله ، فتنقطع به سبل الوصول الى ما كان يروم ف “إنّ المنبتّ لا ارضا قطع ولا ظهرا أبقى” كما قال الرسول الكريم عليه افضل الصلاة و اتم التسليم ،
كذا التطرف في التصرف بالمال مذموم فلا تبخل به ولا ترسل يدك فتتلف مالك وكن وسطا تفلح ، فتمير اهلك وتمنع الفاقة عن نفسك وترفد الناس وترضي الله تعالى في امره إذ قال {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} ، فاخرج زكاتك و أوصل صدقاتك للمسكين وذي القربى بنفع ودون تبذير {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} و انفق مما آتاك الله فلا تمسك ولا تسرف وكن وسطا بين ذلك {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا} وافعل مثل ذلك في نفسك وأهلك فلا تتطرف فيما تستهلك {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .
والإعتدال منجاة فاعتدل ولا تغال فيما تعتقد ولا تجاف فدين الله ما فيه من حرج وما في فيه من تشدّد إلّا في الحق والتوحيد وما فيه من جبر الا في الحدود والفروض ، وهو -فيما دون ذلك- بين الغالي فيه والجافي عنه ، وخير الناس النمط المعتدل ، “الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين” كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله ، وقد جعل الله -سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل :{وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ}.
واعتدل كذلك في المحبة والبغض ولا تخاصم ولا تشاحن ولا تتطرف في حمل الرعية إن اتاك الله الولاية فلا تبطش ولا ترخ وكن بين ذلك ، وكن مثل ذلك في أهل بيتك فلا تحبس الناس حبسا ولا تترك لهم الحبل على الغارب وكن مقتصدا بين ذلك فقد امتدح الله تعالى المقتصدين ، وأعبد ربّك كما أمرت ولا تبتدع ما لم يفعله من هو خير منك وأسبق ولا تتنطع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلك المتنطعون قالها ثلاثا” ، وقال الامام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: أي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه. فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة”،
وصدق الله العظيم ورسوله الكريم ،
والحمد لله رب العالمين