18 ديسمبر، 2024 6:55 م

التصوف وألنبوة -1

التصوف وألنبوة -1

مقدمة :
هل كان محمّد يعتقد ويدرك بأنّ الله أختاره نبيّا وأرسل إليه جبريل بألوحي أم لا؟
في مقالة سابقة تحت عنوان ” هل كان بعض الصحابة والتابعين لمحمّد يعلمون أنّ القرآن من تأليف محمّد؟ ” ذكرت هذا التساؤل والإجابات المحتملة عليه وسأدرج الإحتمالات كمقدمة لحلقات بحث ” ألتصوف وألنبوة “.
للإجابة على هذا التساؤل هنالك ثلاثة احتمالات :
الاحتمال الاوّل هو أنّه كان يتوّهم بأنّه نبي والدليل على ذلك  ما ورد في السيرة النبوية من احاديث حول الرئي الذي كان يتراءى له منذ صغره ومنها حادثة شقّ صدره وكان لا يتراءى له الّا وهو في حالة غير اعتيادية بأن تأخذه نوبة عصبية لا يغيب فيها عن الحس الخارجي غيبوبة تامّة رغم ما يأخذه فيها احيانا من الإغماء، وهذه الحالة كانت تنتابه أثناء نزول الوحي.
لقد بقي محمّد مدّة من الزمن لا يعلم ماهي هذه الرئي الذي يراه أهو ملك ام شيطان، حتّى لقد ظنّه تابعا من الجن كالتابع الذي يكون للكهّان ولكنّه صار اخيرا يعتقد مايراه ملكا لا شيطانا، ثمّ صار بعد هذا الاعتقاد يسمّيه بإسرافيل، واخيرا صار يسمّيه بجبريل، والفضل لحصول هذا الاعتقاد لمحمّد يرجع إلى خديجة فإنّها هي التي ثبّتته وازالت خوفه وجعلته يوقن بانّ ما يراه ملك لا شيطان وزاد يقينه  بعد تعرّفه على الملك جبريل عن طريق ألراهب ورقة بن نوفل .
الاحتمال الثاني هو أنّه كان يدرك بأنّه ليس نبيّا وإنّما أراد أن يوحّد عرب الجزيرة العربية ليكوّن منهم دولة تدين لها الفرس والروم، لقد صرّح محمّد بغايته هذا يوم الخندق ففي السيرة الحلبية وكذلك في سيرة ابن هشام عن سلمان الفارسي قال:
ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ورسول الله قريب منّي، فلمّا رآني اضرب وشدّة المكان عليّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برْقَة ثم ّضرب به اخرى فلمعت تحته برقة اخرى ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اخرى، فقلت بابي انت وامّي يا رسول الله ماهذا الذي يلمع تحت المعول وانت تضرب؟
قال: اوقد رأيت ذلك ياسلمان؟ قال قلت: نعم، قال: فأمّا الاولى فإنّ الله تعالى فتح عليّ بها اليمن، وأمّا الثانية فإنّ الله تعالى فتح عليّ بها ألشام والمغرب، وأمّا الثالثة  فإنّ الله تعالى فتح عليّ بها المشرق.
الاحتمال الثالث هو أنّه كان يتوّهم بأنّه نبي في بداية دعوته في مكّة، ولكن بعد هجرته الى المدينة ادرك عكس ذلك بدليل وجود فروقات جوهرية في اسلوب وتشريعات القرآن المدني عن المكي، فالتأمل وحيدا في غار حراء مختلف عن واقع يثرب والصراعات الموجودة فيها مابين الاوس والخزرج وصراعاتهم مع يهود المدينة.
وفي تلك المقالة ذكرت ما يلي :
” بأعتقادي بأنّ  اقرب الاحتمالات الى المنطق هي ألإحتمال الأول ، أي أنّه كان يتوّهم بأنّه نبي من البداية حتى النهاية “.
بعد إطلاعي على كتاب ” هتك الأسرار – تحولات فكرية في العلاقة بالدين والمقدس ” للكاتب المبدع سعدون محسن ضمد، الذي يتناول فيه إعترافاته بعد رحلته التصوفية والعلاقة بين التصوف والنبوة، توصلت إلى قناعة بأنّ محمدا كان يتوّهم بأنّه نبي بعد فترة تأمله وإنعزاله في غار حراء ولكنه أدرك بعد رحلته التصوفية عدم أمكانية الفناء في المطلق وتراجع عنه إلى مرحلة البقاء.
النبوة – بل التصوف كله –  أشبه ما تكون بصحراء قاحلة جدا لا يمكن قطع مجاهيلها بغير إستخدام آلية التوهم في الوعي، فتجارب الوعي تعمل على تشكيل صورة ذهنية عن موضوع لا تتوفر عنه أية معطيات واقعية ( خارج الذات ).
كتبت إحدى ألقارئات تعليقا على مقالة نشرتها، ولعلاقتها بموضوع توهم الأنبياء أنقلها بألنّص، تقول ألقارئة في رسالتها:
” إنَّ العائلة الابراهيمية مُصابة بنوع مِن الفصام يُصاب به نسلها وتظهر عليهم اعراض النبوَّة حين تكون الحاجة ماسة الى وجود حل لمشاكل بدو لا يعرفون سوى الإغارة على بعضهم، وقد وجد في الدراسات النفسية عند اخضاع المصابين بالهلوسة الى أجهزة خاصة يُظهرون نشاطا في منطقة السمع في دماغ  الانسان وكأنهم يسمعون صوتا حقيقيا،وهناك حقيقة علمية اخرى تقول أنَّ ألهلوسة يُصاب بها مَنْ ينقطع عن الناس لفترة طويلة لدرجة ان دماغه يقترح الاصوات كنوع من الدفاع عن آلية عمل الدماغ القائم على وجود الانسان كحيوان اجتماعي، وهذا ما حدث للرسول محمد حين انقطاعه في الجبل “.
النبوة تعني الإخبار عن الله، بمعنى أنّ النبي يعتقد بأنّه يسمع كلام الله بطريقة أو باخرى، وبأنّه مسؤول عن إيصاله إلى الناس. وليس هناك من سبيل يجعل الإنسان قادرا على مثل هذا الإدعاء إلا سبيل الفناء بالله الذي هو حال يختبر فيه الصوفية شعورا طاغيا بفناء ذواتهم بذات المطلق وذلك بعد تجاوزهم مراحل التوحيد الثلاث ( توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وتوحيد الذات ).
إنّ الإنتقال من حال الفناء بالله إلى حال البقاء به لا يتم دون أن يكتشف الفاني بأن فناءه عبارة عن فكرة غير واقعية، خاصة بعد أن تضطره حاجاته الإنسانية إلى الإقرار بأن الالوهية شأن لا يمكن بلوغه. ومن هنا يعترف بحجم الوهم الذي أوقعه بالفناء الذي أوصله لإدعاء الألوهية.
وهكذا يخرج من فكرة فناءه بالله، ولكنه لا يستطيع أن ينكر بقاءه به. بعبارة اخرى لا يبقى بحال الفناء إلا وعي غير سليم ويعاني من خلل كبير.
إنّ التصوف أعم من النبوة، والنبوة لا تحدث خارج إطار آليات التصوف في تحصيل المعرفة.
لا يختبر الصوفي مقامات الحب الإلهي إلا بعد أن يقطع رحلة طويلة ومكلفة من رحلات تطويع البدن على الخضوع لإشتراطات التأمل في (الحقيقة) والإنقطاع للبحث في أسرارها، مارا بمرحلتين من مراحل التطويع، مرحلة تطويع الجسد، وتبدأ هذه المرحلة بمقامات التوبة وتنتهي بمقامات الزهد.
 ومرحلة تطويع الوعي حيث يعبر المريد – خلال هذه المرحلة من مراحل الترويض – مقامات : ( التوكل، التسليم، التفويض، واخيرا الفناء ).
إنّ حال الفناء وإن كانت  قصيرة جدا فإنّها تفتح الباب على رحلة خطيرة جدا من رحلات الوعي، إذ يشعر الإنسان خلالها بنحو من أنحاء التالهن، ويطغى عليه شعور غريب بأنّه أقرب إلى الله منه إلى الإنسان.. وهنا أيضا تتأسس القاعدة التي يمكن أن تكون منطلقا لإدعاء النبوة فيما بعد.
ومن خلال هذه الحال وتحت وطأة ضغطها الشعوري على الصوفية فضحوا أنفسهم من خلال ما سميت ( شطحات الصوفية ) والتي تكشف أغلبها عن التحقق بالربوبية ومنها هذه الحادثة المروية عن أبي يزيد البسطامي :
” دق رجل على أبي يزيد البسطامي باب داره فقال له : من تطلبه؟ فقال : أطلب ابا يزيد. فقال مر ! ويحك ! فليس في الدار غير الله “.
 
أنسنة ألله :
عندما يبلغ الصوفي ذروة فنائه تحدث محنته، محنة جميع ( الصوفية / الأنبياء )، فبعد هذه الذروة تنعطف رحلة التصوف إنعطافتها الأخطر وذلك يوم يسأل الصوفي نفسه عن إستحقاقات حال الفناء، بالاحرى يسال نفسه عن مدى واقعية الجملة السحرية التي يرددها بينه وبين نفسه : ( إنني أنا الله )؟
إنّ اليقين بتحقق الفناء يوجب إختبار هذا الفناء، فيسعى الصوفي أو النبي لتحقيق إلوهيته، أو التحقق من واقعية شعوره بها، لكن كيف يمكن التحقق من الألوهية؟
لكن الإستغراق بحال الفناء التام لا يدوم طويلا، ومهما كانت سكرة الصوفي ونشوته قوية فإنّها لا تستطيع أن تلغي شعوره بإستقلاله وحضور أناه المستقلة
عن المطلق إلى النهاية. وهنا تبدأ الازمة، أزمة الخوف من الإنفصال، فلا شيء يخيف الصوفي أكثر من خسارته هذه الحال وتلك النشوة، وعودته لإنسانيته.
لكن الخوف على حال الفناء لا يتأتى فقط من عودة الإحساس بالذات، بل من محاولات الإختبار التي يُعرّض فيها الصوفي إلوهيته للإختبار.
إنّ طبيعة القلق المركوزة بالإنسان تجعل الصوفي يتجنب إختبار إلوهيته إختبارات قوية ومباشرة بل هو يتجه أول الامر نحو البحث عما يؤكد حال الفناء لديه، فيبحث عن أية إشارة تؤكد هذه الحال كالأحلام الصادقة التي يعاملها معاملة النبوءات، أو الرغبات والأماني التي صادف أنّها تحققت.
وإذا تحدّثنا عن علاقة النبي محمد مع عالم الأحلام والرؤى فقد بدأت في وقتٍ مبكّر من عمره ، فقد كانت أولى علامات صدق نبوّته ومبعثه ، كما قالت عائشة : ( أول ما بدئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح )، متفق عليه .
وكذلك قول النبي : (  الرؤيا الصادقة من الله ) رواه البخاري.
 
للبحث صلة
نلتيقكم في مدارات تنويرية أخرى
 
مصادر البحث :
–         هتك الأسرار – تحولات فكرية في العلاقة بالدين والمقدس …….  سعدون محسن ضمد
–         الشخصية المحمدية – حل اللغز المحير …… معروف الرصافي