“حليمة”.. هذه المرأة العراقية المظلومة التي صارت قصتها مثلا على كل لسان، حتى غدونا نعلق على شماعتها من نريد ذم عودته الى سلبية كان قد أٌقلع عنها بعد اعتياده عليها فنقول: “رجعت حليمة لعادتها القديمة”..!
وقد اعتاد العراقيون على تمسك ساستهم بـ “سولة” دأبوا على اتباعها من دون ناصح او واعظ يهديهم للإقلاع عنها، تلك هي عدم الاكتراث بالمواعيد التي يعدون رعيتهم بها لإنجاز أمر يهم مصلحة البلاد والعباد، فلطالما أطربوا مسامعنا بنغمات الرفاهية والعيش الهني، والخروج من عنق الزجاجة، حتى غدت ألحانهم اسطوانة مشروخة نشزوا بأدائها، وشذوا في إطرابنا، وشطوا بتطبيقها أيما شطط. فطالما بنوا لنا قصورا من حقوق المواطنة، وصروحا من الكرامة، فتبين أنها تسبح في فضاء المماطلة والتسويف، وإن تحقق منها شيء فهو خربة لاتصلح لسكن الحيوان فضلا عن الإنسان.
كما دأب ساستنا على اختلاق الأعذار في تقصيرهم المتعمد، ومافتئ بعضهم يلقي اللائمة على بعض دون حرج، إلى حد استصرخ المواطن شكواه لبارئه، وبات يناشد ساسته ومسؤوليه ببيت الشعر:
لاتدعني ككمون بمزرعة
إن فاته الماء أغنته المواعيد
وقد وصل المواطن الى يقين تام بأن التأخير في تنفيذ الوعود ليس عفويا ولا مصادفة ولا ظرفا طارئا، بل هو مقصود ومرصود ومتعمد، وقد مل العراقيون سماع مفردات التصبير والتطمين الكاذبة التي يواري الساسة بها أخطاءهم، ولطالما كانت الشماعة التي يعلق عليها السياسي تقصيره وتماهله وإهماله وتلكؤه معروفة ومطروقة و (ملعوبة). ويتضح لأي متتبع للأخبار السياسية في عراق مابعد عام 2003، ان تلك المفردات تشعبت كثيرا في خطابات الساسة والمسؤولين وتصريحاتهم، فكانت الكلمات المستخدمة والجارية على ألسنتهم، محفوظة في أذن المواطن، فكأنهم قرروا وعزموا على ان لايقدموا شيئا يخدم البلاد والعباد، مقابل تبريرات جاهزة، وهم ظنوا أن اتباعهم هذا السلوك في التملص من إتمام المسؤوليات الملقاة على عاتقهم، ينجيهم من وضعهم في قفص الاتهام عاجلا أم آجلا، وقطعا هذا ناتج عن أمنهم واطمئنانهم من سوء العاقبة والعقاب، فقد قيل سابقا: (من أمن العقاب ساء الأدب). فكأن المماطلة والتسويف في المواعيد والعهود، صار ديدن من يتبوأ مقعدا في منصب حساس، لاسيما مناصب صنع القرار والبت فيه، وتشريع او تنفيذ مايخدم المواطن والمصلحة العامة، في الوقت الذي كان حريا بمن يتسنم موقعا كهذا، ان يسخِّر طاقاته لاختزال مايمكن اختزاله من الزمن، من أجل اللحاق بالأمم التي سبقتنا بالتحضر زمانا ومكانا ومكانة.
اليوم ونحن كما نقول (ولد اليوم) لدينا ساسة أصحاب تجربة وخبرة، ومن المفترض ان يخرجوا من صومعة سلبيات من سبقهم فيها، وعليهم استبدال الطالح من الأعمال بالصالح منها، وكذلك السيئ بالجيد، و (الشين بالزين)، وأن لايبخلوا على مواطنيهم بالاسراع في إنجاز ما منوط بهم من مهام، فهل هم فاعلون هذا؟ وهل يغيرون الصورة الموحشة التي تعكس بخل السابقين على المواطن حتى بالإيفاء بقَسَمهم ويمينهم الدستورية على أتم وجه؟
يذكرني بخل ساستنا السالفين بنادرة رويت عن أحد البخلاء، الذي نزل عنده ضيف يوما، فنادى ولده قائلا: يابني، اذهب الى السوق واجلب لنا أحسن قطعة لحم عند الجزار، فاليوم حل عندنا ضيف عزيز على قلبي. فذهب الولد إلى السوق، والضيف متأمل عودته بفارغ الصبر والجوع يأخذ منه مأخذه. وبعد مضي وقت طويل رجع الابن.. ويداه خاليتان، فسأله أبوه: أين اللحم ياولدي؟ قال الولد -والضيف يسمع- : ياأبتِ قلت للجزار: أعطني أحسن ما عندك من اللحم، قال لي: سأعطيك لحما كأنه زبدة. فشاورت عقلي: لِمَ لاأشتري الزبدة بدل اللحم؟ فرحت للبقال وقلت له: أعطني أحسن ما عندك من زبدة. قال لي البقال: سأعطيك زبدة كأنها دبس من حلاوتها. وشاورت عقلي أيضا: إذا كان الأمر هكذا.. لِمَ لاأشتري الدبس بدل الزبدة؟ فرحت لراعي الدبس وقلت له: أعطني أحسن ما عندك من الدبس. فقال الرجل: سأعطيك دبسا كأنه الماء الصافي. فقلت لنفسي: لِمَ التبذير؟ عندنا ماء صافٍ في البيت، لذا رجعت من دون أن أشتري شيئا. فما كان من الأب البخيل إلا أن همس باذن ابنه موبخا: “لماذا كل هذا التبذير؟ أتدري كم استهلكتَ نعليك في مشوارك هذا؟”. فرد عليه “العينتين”: لاتخف يا أبي، فقد انتعلت نعل الضيف.
[email protected]