18 ديسمبر، 2024 10:13 م

التركمان من الثقافة إلى السياسة

التركمان من الثقافة إلى السياسة

ما أن إنجلت حاكمية الدولة العثمانية من الجغرافية العراقية وبسط الإنكليز هيمنتهم عليها، حتى بدأت صفحة جديدة من تأريخ التركمان في العراق لم يألفوها سابقاً. الإدارة الجديدة المتمثلة بالسياسة الإستراتيجية البريطانية عملت على محو كل الأثار العائدة إلى الدولة العثمانية السابقة وخلق تأريخ جديد يمجد فيه الإنكليز ويعتبر وجودهم في المنطقة كمخلصين وليس محتلين.
السياسة الإنكليزية لم تكن عشوائية أو سطحية، بل كانت متجذرة وذكية شملت أبسط النقاط التي لا تخطر ببال أحد. حيث عمل الإنكليز على توسيع الفجوة بين العرب والأتراك بإعتبار أن العثمانيين أتراك، فعملوا على تشويه صورة الأطراف لدى بعضها البعض. فصنعت الحركات القومية وتم دعم الناشطين القوميين وتحفيزهم إلى رص صفوفهم وتمجيد قوميتهم كل على حده. وكان الهدف الأكبر من هذا هو تشتيت وتفكيك المسلمين وبعثرتهم إلى أجزاء صغيرة ومن ثم خلق النزاعات فيما بينهم كما هو الحال في يومنا هذا. وكان التركمان هدفاً أساسياً لهذه السياسة التي لم ترحمهم قط.
إعتبر الإنكليز التركمان في العراق من بقايا الدولة العثمانية وإمتداداً للدولة التركية الحالية كونهم من أصول تركية. فعمدت السياسة الإنكليزية إلى طمس هذه الهوية والعمل على تهميشها بهدف إنهاء هذا الوجود الخطر على المصالح الإنكليزية في المنطقة مقابل الدولة التركية، كما يتصورها الإنكليز الذين جهدوا فيما بعد إلى صهر التركمان في بودقة المكونات العراقية الأخرى وتجريدهم من الصفة الوطنية تماماً.
وبحسب هذه الفكرة الخطرة منع أتراك العراق والذين تم تسميتهم فيما بعد بـ(التركمان) من كافة الحقوق السياسية. منع التركمان من الإنخراط في معترك السياسة وإشغال مناصب حساسة في مفاصل الدولة، ومنعوا كذلك من الكليات العسكرية وكليات الشرطة. بل وحرموا في الفترات الأخيرة من أبسط حقوق المواطنة والإمتيازات التي يتمتع بها غيرهم من المواطنين العراقيين. الحكومات التي منعت التركمان من حق شراء العقارات والعمل في دوائر الدولة، سمحت بمنحهم الحقوق الثقافية فقط. فكانت لهم صحيفة أسبوعية ومجلات شهرية وفصلية، وإن كانت بساعات قليلة جداً كانت هناك إذاعة وتلفزيون ناطق بلغتهم. مديرية الثقافة التركمانية التي تأسست بحسب القرار المرقم 89 في 24 كانون الثاني 1970 كانت لها الدور الكبير في طبع الكتب المختلفة والمنشورات التركمانية. ومهما كانت تلك الوسائل الإعلامية تعمل في ظل الإشراف الحكومي، إلاّ أنها كانت وسيلة للتركمان في التنفيس عن أنفسهم وعكس ثقافاتهم وإثبات وجودهم وإسماع صوتهم والتعريف بلغتهم.
التركمان الذين حرموا من العمل السياسي ومنعوا من التعبير عن آرائهم السياسية في البلد الذي يعيشون فيه، استغلوا الحقوق الثقافية إلى أبعد حد. حيث تعلم التركمان لغتهم الأم والتي تعتبر عماد وجودهم، وتعرفوا وعرّفوا أجيالهم بأنفسهم وإمتدادهم التأريخي ولم يكن لهم وسيلة يعولوا عليها غير الوسائل الثقافية. شكلوا فرق موسيقية ومسرحية كانت لها الدور الكبير في الحفاظ على هويتهم القومية رغم الأمواج العاتية التي تستهدفهم وتعمد إلى مسخهم وصهر كيانهم. لم تكن مجرد فرق مسرحية وجماعات ثقافية فحسب بقدر ما كانت توحد الشعب التركماني مع المثقف ومع الكاتب والمفكر التركماني وظهرت تشكيلة نموذجية يحتذى بها في يومنا هذا. كان التركمان يشترون المنشورات من الكتب والمجلات والصحف بهدف دعمها وتشجيع الكتّاب والمؤلفين. وكانت الحفلات الموسيقية الفلكلورية تشهد زحاماً شديداً والناس يتدافعون لشراء التذاكر لدخول صالات العروض المسرحية. كانت العوائل تذهب إلى بغداد فقط من أجل حضور أمسية شعرية مقامة على حدائق نادي الأخاء التركماني هناك والرجوع بنفس اليوم. وكل ذلك في سبيل تقديم الدعم وإسناد المثقفين والكتّاب وتنشيط الحركة الثقافية والأدبية التركمانية.
رغم القانون المسمى بالحقوق الثقافية التركمانية والسماح للتركمان بمزاولة النشاطات الثقافية، إلاّ ان الدولة العراقيّة لم تكن تغض البصر عن العمل الثقافي للتركمان. ولم تكن السلطة تبسط يدها للمواطنين التركمان كل البسط. فقد كانت تشدد قبضتها أحياناً وكثيراً ما أتهمت السلطة الكثير من المثقفين التركمان بإتهامات واهية ظالمة إنتهى بهم الأمر في حبال المشنقة أو في غرف الأحكام الخاصة في سجن أبو غريب (سيئ الصيت) ببغداد. كل هذا لم يكن سبباً في إحجام وتقهقر التركمان عن مسيرتهم الثقافية، بل كانوا مصرين في الحضور الثقافي وإثبات الذات. حيث كانت اللحمة الروحيّة وتوحد الصفوف وسيلة لتجاوز كل الصّعاب والسير قدماً إلى الأمام دون تميز مذهبي أو مناطقي. والذي ميز التركمان آنذاك وكان سبباً في نجاحهم في الحفاظ على وجودهم هو العمل تحت مسمى القومية متجاوزين الإختلافات والفروقات الثانوية الأخرى. ولي أن أقول أن للعمل الثقافي التركماني في العراق الفضل الأول في الوجود التركماني الحالي وللمثقفين والكتّاب التركمان الدّور الأساس فيما يمتلكه التركمان اليوم من إرث ثقافي كبير.
تحجيم التركمان ومنعهم من مزاولة العمل السياسي والتصدي لولوجهم إلى عالم السياسة جعلهم متأخرين في مجال السياسة. فبعد عام 2003 وزوال النظام الفاشي الدكتاتوري والإحتلال الأمريكي للعراق، نشطت الحركات السياسية التركمانية. أحزاب كانت مشكلة أساساً قدمت من الخارج، وأحزاباً تشكلت فيما بعد لا تختلف في أهدافها بقدر ما تختلف في التطلعات الشخصية للعاملين فيها ولمؤسسيها. التجربة الفتية للتركمان في هيجاء السياسة لم تكن بمستوى التطلعات الشعبية التركمانية. لم تفلح هذه الأحزاب في جمع الشمل التركماني بقدر ما حولت الشعب التركماني الموحد بالثقافة والأدب سابقاً إلى تكتلات صغيرة موزعة هنا وهناك. إستفحلت الفروقات المناطقية والمذهبية وفرق الجمع ومزقت اللحمة النموذجية. فكان العمل السياسي بما يخدم أعداء التركمان الذين يعمدون إلى فرقتهم وشتاتهم.
نحن الذين عاصرنا المرحلتين، الأولى عندما كان التركمان موحدين تحت الخيمة الثقافية والثانية بعد أن نصبت الأحزاب السياسية خيمها. والقلب يدمع قبل العين أحياناً لما آل إليه الشأن التركماني في الوقت الحاضر. فليس من الصعوبة ترجيح أي من المرحلتين كانت الأفضل في توحيد التركمان وتعاضدهم ونحن نعيش ما نعيشه اليوم من تجاذبات تركمانية تركمانية. الطارئين على الساحة السياسية من الذين يجهلون أبجديات السياسة قد عبثوا بكل مقومات العمل الجماعي لاسيما بعد أن طغت المصالح الفردية والفئوية والحزبية على المشتركات القومية.
هكذا نبقى نحن أبناء الشعب التركماني البسطاء مدينون إلى ثقافتنا وإلى مثقفينا وإلى أدبنا وإلى أدبائنا الذين كانوا السبب في لم شملنا وديمومة ارثنا. وتبقى السياسة التركمانية مدانة للحركة الثقافية بالكثير. والحديث في هذا المضمار يطول.