18 ديسمبر، 2024 8:22 م

الرافد الأساسي لأوجاع الأمة ودورانها في أفلاك الغابرات هو وسوسة العرب بالتدوين الإنفعالي العاطفي المعبر عن موقف ورأي وليس عن حقيقة.

فالعرب ما كانوا يدونون قبل الإسلام بل يتداولون النقل الشفاهي , وقد بدأ مشوارهم التدويني بعد أن تحقق تدوين آيات القرآن المنزلة على النبي الكريم , وإنطلاق كتبة الوحي بتدوين ما كان يمليه عليهم , ومن ثم بدأ عصر الإستنساخ اليدوي , ولكن ببطئ وتخصص بالقرآن , ولو أن البعض قد دوّن شيئا من الأحاديث ووثق بعض السلوكيات لكن لم يكن سائدا في حينه.

والتدوين العربي بدأ نشاطه مع الدولة الأموية , ويبدو أنه سلوك متعلم من الدولة الرومانية آنذاك , وقد بلغ ذروته في زمن الدولة العباسية , التي تركت إرثا معرفيا هائلا هو نتاج ما يقرب من خمسة قرون من الجد والإجتهاد , والتدوين المسهب للعديد من الأحداث والتفاعلات .

وما يميز التدوين العربي أنه يتوافق مع إرادة السلطان وينسجم مع زمانه ومكانه , بمعنى أنه لا يدوّن الحقائق كما هي وإنما وفقا لما يُراد لها أن تظهر للعيان.

وكان التدوين حرفة تدر مالا وجاها , ولهذا فأن على المدون أن يحقق الإنسجام ما بين الكلمة والكرسي.

ولا ننسى مدونات الأندلس وتفاعلات أقلامها وعقولها مع الحياة آنذاك.

ولهذا عندما نسوح في التراث المدوَّن لا نرسو على بر أمان , لتعدد المشارب والمذاهب والرؤى والتصورات والإستنتاجات.

أضف إلى ذلك أن الكثير من المدونات التأريخية لم تُنجز في حينها , وإنما بعد وقوع الحدث بعقود وربما بقرون تفعل فيها الذاكرة فعلها وتحريفها.

فبعد ما يقرب من قرن على وفاة الرسول إنتشرت مدونات أحاديثه , وكذلك ما جرى من بعده.

فالمدونات العربية لم تكن تصويرية ودقيقة في رسم واقع الأحداث والتطورات , وإنما هي ثرية بالآراء والمواقف والإستنتاجات التي عليها أن تبرر وتسوغ ما تذهب إليه.

وبذلك إختلط حابل الأحداث بنابلها وتشابكت الأمور وتعقدت.

ومن أصدق المدونات كانت مدونات الدولة العثمانية , لأن فيها كتبة يسجلون ما يجري على أنه وثائق للدراسة والفهم والتأريخ , فالعثمانيون كانوا يكتبون تأريخهم بتفاصيله وفي أوانه.

ولو نظرنا إلى ما جرى في البلدان العربية منذ ألفين وثلاثة , وقرأنا ما كُتب عن هذه الفترة , لتبين لنا عظيم التزييف والتحريف والتخريف برغم تواجد وسائل تصوير وتوثيق متطورة.

فالصور تتكلم أكثر من القلم , لكن الصور يمكن تزييفها وتقديمها بأساليب خداعية مضللة , فكيف الحال عند الكتابة عن أحداث وقعت قبل أزمان بعيدة , بالإعتماد على الذاكرة والمنقول.

ومن هنا فأن الإغراق في التأريخ يتسبب بإقامة مصدات ومعوقات , ويدفع بالأجيال إلى الإنكسار والإنحدار والتلاحي المدمر الشديد.

وعليه فأن من الحكمة والرشاد الغرق في الحاضر والتطلع للمستقبل , والتحرر من ثقل الماضي الذي لا يمكن القول بأن ما كُتب عنه يعبّر بصدق وموضوعية وحيادية عن أحداثه , بل أنها مواقف ذات مآرب!!

فهل سيكون للحاضر والمستقبل صيرورة في أيامنا؟!!