يعرف الدكتور سامح مهران التداولية بأنها انحراف لمعنى اللفظ. ومثل هذا الإنحراف يأتي عن طريق الممارسات الإنسانية التي تعطي للفظ الواحد معاني متعددة متباينة في أزمان مختلفة. الأمر يشبه في الهندسة “الزاوية المنحرفة” التي تتسع المسافة بين ضلعيها وكانت ضئيلة صغيرة فى بدايتها.
إذا ما طبقنا هذا التعريف على فلسفات؛ونظريات؛ وتعريفات؛ ربما سنكتشف أننا نقيض ما نتصوره عن انفسنا!!!!!”.
ويمكن الإضافة إلى ما ذكره الدكتور سامح مهران بالقول:
أن التداولية تختص بالمعاني أو المضامين فقط ولا تختص بالشكل لأن التحريف لا ينشأ إلا عند تداول المضمون وعدم الحفاظ على الشكل، والأمر لا يقتصر فقط على مضامين الفلسفات والنظريات والتعريفات بالنسبة للتداولية بل يتسع لأكثر من ذلك فلو تأملنا حال النصوص المقدسة لوجدنا أن التداولية قد تسببت في تحريفها وقد انتصر النقاد العرب القدامى مثل الجاحظ وغيره لموضوع الشكل أو المبنى ورأوا فيه ملاذا آمنا وحاميا من الانحرافات التي تسببها التداولية بالنسبة للنصوص بكل أنواعها وكان مبعث انتصارهم للشكل بشكل رئيسي حماية النص الديني القرآني من تحريفات التداولية التي قد تجعل منه كلاما عاديا ككلام اليهود والنصارى التي نالها التحريف بسبب تداولية المعنى وعدم الحفاظ على الشكل وهذا على حد تعبيرهم على الأقل وقد عبر الجاحظ عن هذا في كتاب البيان والتبيين بقوله: “المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي والبدوي وإنما الحكمة في الصياغة وجودة السبك..”.
لو سألنا مجموعة من الجمهور انتهوا للتو من مشاهدة عرض مسرحي أو فيلما سينمائيا كلا على حدة عن قصة العرض الذي شاهدوه لأخبرنا كل فرد منهم قصة مختلفة لذلك العرض ولنا أن نتخيل الانحرافات التي تتسبب فيها تداولية قصة العرض هذا بين الناس بناء على رواية تلك المجموعة التي شاهدت المسرحية أو الفيلم وبذات الآلية يتم تداول قصص الأحداث المختلفة بين الجماهير ووسائل الإعلام المختلفة وهو الأمر ذاته مع الإشاعات وتداوليتها بين الناس… حتى الشهود في المحكمة قد تجد لكل واحد منهم رواية مختلفة عن ذات الحادثة لذلك تبقى موثوقية المصادر وآلية التأكد من صحة المعلومات أمر فيه نظر ويحتاج إلى تعزيز أركانه حتى يصبح علما قائما بذاته ويدرس في المدارس والجامعات..
وثمة قصة قصيرة عن ذات معنى التداولية بعنوان “عُهر” وهي ضمن مجموعتي القصصية “مدينة من الشمع “الفائزة بجائزة رئيس الجمهورية 2009
: “لم يكُ لنا ماضٍ لنتذكره فكنا نتذكر المستقبل .. كنا صغاراً وياليت أننا …إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البُهمُ ..”
في غرفة مربعة الزوايا ، أربعة في أربعة ، مصطبتها من الاسمنت المسلح وعليها بساط شرب الدهر عليه وأكل ..، سقفها من أعمدة الخشب القديمة .. تتخلله الثقوب التي تبكي في أيام المطر ، تعيش في حماها الهوام والحشرات .. نجتمع فيها عصر كل يوم عدا الجمعة ونجلس على مصطبتها بكل سعادة لنتدارس كتاب الله ، يدعونها الكتاتيب.
معلمنا ذو الطلعة البهية، والوجه المستنير ، صاحب المواهب المتعددة والثقافة العريضة العالية كان ملماً جيداً بأساليب ترويض الجامحين من طلابه ، ومحترفاً يعرف كيف يقود قطيعه من الخلف لتسير في منهج واحد حتى تصل إلى سهل الكلأ كالراعي المحنك الماهر ..، لايفتئ جاهداً في تشويقنا وإمتاعنا وتحبيب التعلم والانضباط إلينا ..
من أيام الأسبوع كان الخميس هو المحطة التي كنا نستريح فيها ونستظل في فيئها..، جعله المعلم بخفة روحه وعذوبتها كالعيد بالنسبة لأطفال مثلنا.. يوماً ترفيهياً مفتوحا تُقام فيه المسابقات وتُحصد فيه الجوائز ..
ذات خميس أخبرنا معلمنا بأننا سنلعب لعبة جديدة غير تقليدية لم نلعبها أو نعرفها قبلاً، ومن بين جميع الطلاب اختارني المعلم لأكون أول من يفتتح اللعبة بالمشاركة ..
كتبت كلمة في قصاصة ورقية وسلمتها إياه كما أُمرت وعلمني، ثم جلست في أول الصف المتراص فيه الطلاب بفسيفسائية ترزح ظهورنا حيطان الغرفة الباردة أحياناً والدافئة أحياناً نزولاً عند رغبة الطقس وحسب مزاجه ..
إثر ذلك طفقت أهمس بنفس ما دونته على القصاصة الورقية في أذن زميلي الذي يليني والذي قام بدوره بنفس ما فعلته أنا مع الذي يليه حسب ما علمنا المعلم واستمر الوضع دواليك مع الجميع حتى وصل إلى آخر طالب في الصف والذي قبل أن يأمره المعلم بالمجاهرة بما وصل إليه أخرج المعلم القصاصة الورقية التي كتبت عليها الكلمة وقرأها على مسمع الجميع وكانت ” طُهر ” ، ثم قال والآن دعونا نرى ما وصل إلى آخر طالب فيكم ، ولكم التعنا شوقاً لسماعها خصوصاً أنا فأنا صاحب كلمة طهر وحانت لحظة المفاجأة التي لم نتوقعها جميعاً وأصابنا الذعر لهولها
وابتللنا بمياه الدهشة واستشطنا عجباً منها حيث قال آخر طالب :
– ما وصل إليَّ ليس ” طُهر ” وإنما كلمة أخرى هي ” عُهر ” فأخرسنا جميعاً..