23 ديسمبر، 2024 2:39 ص

التحكيم الإلهي وعقوبة إبراهيم وعمق الإرث القانوني العراقي

التحكيم الإلهي وعقوبة إبراهيم وعمق الإرث القانوني العراقي

مما لا شك فيه هو إن العراق قديما وحديثا كان مصدر إشعاع حضاري وثقافي وقانوني وقضائي ومهما حاولت الألسن سواءاً عن عمد او عن خطأ او عن جهل الحد والتقليل من شأن عظمة الحضارة العراقية فإن شواهد الماضي العتيق والحاضر تبقى شاهدة على عمق التاريخ الثقافي القانوني والقضائي العراقي الفذ ,وما يجب علينا نحن سواءا الكتاب والمثقفون والقضاة والقانونيون هو السعي لإعادة التعريف بالثقافة القانونية العراقية الجميلة لكونها تعتبر المصدر والأساس للإشعاع الثقافي في جميع أرجاء الكرة الأرضية ومهما مرت هذه البلاد في فترات متعاقبة وعبر العصور بظروف سيئة نتيجة الأطماع الخارجية إلا أن هناك حقيقة حية تقول بأن العراق سيبقى في صدارة دول العالم في التشريع القانوني وهو المضمار الأصعب من بين مضامير العلوم بإعتبار إن القانون كان ولا يزال عماد وجود المجتمعات والحواضر ,
تخبرنا المصادر الحديثة وخاصة تلك التي أنبثقت منذ بدايات عصر النهظة الأوربية وبدايات قرن العشرين بأن العراق كان مصدر وأرضية ظهور وولادة العديد من التشريعات والقوانين التي ضربت بها الأمثال في الدقة اللامتناهية وفي مديات توخيها وسعيها لتحقيق العدالة وفضلا عن التشريع القانوني فإن هنالك مباديء قانونية رصينة ومعروفة ومتداولة حتى يومنا هذا وتؤكد كل المصادر بأنها كانت نتاج الفكر القانوني والقضائي في بلاد الرافدين وبعض تلك المباديء القانونية والتشريعات شقت طريقها في عالم الشهرة حتى باتت على الكثير من الألسن وعلى مدار العصور وعلى سبيل المثال فإن المبدأ القانوني الشهير والقائل ب( أن العين بالعين والسن بالسن والباديء أظلم) والذي يحتفظ ببريقه وشهرته حتى يومنا هذا وفي الوقت الذي نرى أحتفاء القرآن الكريم به أيضا وكذلك وروده في التوراة فإن الدلائل التاريخية تشير الى أن عبارات نص المبدأ الشهير هذا إنما هي عبارة عن نص قانوني كان قد ضمه القانون العقابي الحمورابي بين نصوصه ومواده الأخرى ,,
وفضلا عن ذلك فإن هنالك عقوبة عراقية قديمة كانت موجودة في النصوص العقابية العراقية القديمة تبهر الباحث القانوني واتاريخي بمديات الذكاء المتقد لشارعيها ومديات العدل المتوخى في الحكمة من وراء سنها كقوانين عقابية كانت يوما ما سائدة في هذه البلاد وهذه العقوبة كانت تسمى بعقوبة (التحكيم الإلهي),
فبينما يعتقد الكثيرون بأن النبي ابراهيم (عليه السلام) كان قد تعرض لعملية محاولة حرق من قبل قومه وهذا الإعتقاد اساسه النص القرآني الذي لم يتناول الحادث بالتفصيل كعادة بقية قصص القرآن االتي لا تلج في التفاصيل إلا بالقدر الجميل الموفي للغاية من الخطاب الرباني العظيم لهذا لا يعلم الكثيرون بأن ما تعرض له سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يكن عملية إنتقام جماعية شعواء من قبل الناس والسلطة في ذلك الزمان ,,
إن عملية تكبيل إبراهيم على وتد كالصليب وسط الحطب ووسط ساحة كبيرة أو داخل حفرة نار مخيفة وسط مدينة وجمهرة سكانها لم تكن عملية فوضوية ناجمة عن ردة فعل عمياء بل كانت العملية برمتها عبارة عن تطبيق وتنفيذ لقرار صادر من القضاة في ذلك الزمان لكونه كان قد أُتهم بجريمة (السحر والشعوذة الماسة بكرامة وهيبة الآلهة ) او (تهمة إدعاء إمتلاك قوى إلهية خارقة) فحكمت عليه المحكمة بعقوبة ال(تحكيم الإلهي) وهي عقوبة كانت شهيرة في ذلك الزمان وفي الزمان السابق عليه ,,
نص قانون حمورابي في بعض مواده على تلك العقوبة حيث شرحتها متون تلك النصوص المنقوشة على الرقائم البابلية بالتفصيل وذكرت فيها بأنه ولكون هذا النوع من الجرائم هي صعبة الإثبات من قبل المدعي ففي هذه الحالة يتم اللجوء الى عقوبة (التحكيم الإلهي ) فيتم وضع المتهم موضع القاتل (اي يتم إعتباره بمثابة المتهم بجريمة القتل) ويتم احضار المدعي او المشتكي او مقيم الدعوى ويتم إحضار الناس مع إحضار المتهم في مكان مرتبط بالطبيعة القاسية كموقع نهر شديد التيار او بحيرة عميقة او على علو قمة جبل شاهق او يتم ايقاد النار له ,, فإذا نجى المتهم الذي يتم رميه في بحيرة او نهر شديد التيار او رُمي من قمة الجبل أو نجى بعد عملية الحرق فيعتبر في تلك الحالة بريئا من تهمة الكذب في إدعاء تملك قوى إلهية خارقة ويعتبر في تلك الحالة بالفعل من (أبناء الآلهة) فتكرمه الدولة وتقوم على الفور برد الإعتبار اليه مع إنزال عقوبة الموت بالمدعي في نفس اليوم او في اليوم التالي !! ,,
لهذا تم الإيقاد لإحراق إبراهيم فلما لم يحترق ونجا ,,أفرجت السلطات عنه وفضل هو عدم البقاء في مملكته لأن الناس هناك بدأوا يعبدونه بإعتباره (إبنا للإله الأكبر) !!.
هذه العقوبة كانت موجودة في قانون أورنمو السومري ايضا ,,
حين جاء الميدييون ألغوها بإعتبارها عقوبة منافية للعقل .
في المحصلة يمكنك أن تتصور مدى رقي المستوى الفكري في حضارة بلاد ما بين النهرين لأن من كان يدعي الإتصال بالآلهة وبإمتلاكه قوى غيبية لم يكن يُعامل معاملة متهم عادي ولم يكن يُقتل على الفور بل كان يتم تهيئة الظروف لإجراء نقاشات وحوارات له مع الكهان وأهل الفكر في ذلك الزمان فلما كان يستمر في إدعاءه حينها كانت تتم إحالته الى محكمة خاصة بهذه الجرائم .
وكانت العقوبة تأتي من جنس ما أدعاه المتهم ,,فإبراهيم كان ينهي قومه عن عبادة الشيطان ويقول لهم بإن النار ستحرق الشيطان إيضا وهم كانوا يقولون له بإن النار لا تحترق بالنار ,,
فلما نجا من العقوبة تلك وهي عقوبة رسمية ,تم الإفراج عنه وإعلان براءته من تهم الإدعاء الكاذب ,, ولا صحة لهروبه من بين بني قومه لأن عمه كان من كبار السدنة وكان بمثابة وزير الأوقاف في ذلك الزمان .
نستنتج مما سبق بأن هذه العقوبة كانت عقوبة خاصة وتوجه تهمتها الى أُناس وحالات معينة محددة بدقة وهي كعقوبة وكتهمة إنما تشبه العقوبات والتهم التي تضمها القوانين الخاصة بتنظيم شؤون الفكر وحرية الفكر وشؤون حرية التعبير عن الرأي والتي يُنسب الفضل فيها – عن إجحاف – للقوانين الأوربية في وقت تصرخ الحقيقة الحية بأنها قوانين عراقية وإن المشرع القانوني في بلاد ما بين النهرين نظمها وضمها في نصوصه العتيقة قبل آلاف السنين من الآن .
* صباح الداوودي , قاض وكاتب , عضو جمعية القضاة العراقيين وعضو الإدعاء العام في أقليم كُردستان العراق – السليمانية .