لايوجد فن كالتحقيق الصحفي الجريء والرصين بإمكانه كبح جماح الباطل وفضح الفساد المستشري في بلد ما وتعريته أمام الملأ ” ففي زمن الخداع يكون قول الحقيقة عملا ثوريا ” كما يقول الروائي البريطاني الشهير جورج اورويل ، والأهم من ذلك هو سحب التحقيق الصحفي الجاد ومكتمل الأركان – بعد أن بات فتح ملفات التحقيق الجنائية المسيسة في جل القضايا الشائكة مجرد حبر على ورق ليس أولها التحقيق في أسباب سقوط الموصل ولا آخرها القناص وجرائم الطرف الثالث – البساط من تحت أقدام الإعلام المضلل الذي يسعى عبر أدواته المختلفة الى غسل العقول مستثمرا ماقيل قديما في هذا الإتجاه من إن” الكذبة بإمكانها أن تجوب نصف العالم قبل أن تلبس الحقيقة حذاءها “، وبرغم أن حبل الكذب قصيرالا أن وزيرالدعاية النازية غوبلز وأمثاله من الكذبة والمخادعين يعلنونها مدوية على الدوام ” أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس ..أعطني إعلاما بلا ضمير أعطيك شعبا بلا وعي” لثقتهم التامة بذات المبدأ المتمثل ببطء الحقيقة وتقاعس المؤمنين بها في الدفاع عنها وتخاذل المهتمين بترويجها ونشرها بخلاف الشائعة التي ينشط ذبابها الالكتروني ببثها فتنطلي على المجموع وبالأخص في ساعاتها الأولى بطريقة مثيرة للشفقة ما يدفع المغفلين والشامتين لتناقلها من غير وعي ولا أدل على ذلك من مقطع الفيديو الذي إنتشر مؤخرا لما زعم إنه لوزيرالعمل والشؤون الاجتماعية العراقي ليتناقله الناس بمنتهى الحماقة من غير تمحيص برغم بشاعته ليتضح فيما بعد انه مقطع من فيلم برازيلي مقزز يروج للشذوذ الجنسي وقس على ذلك الآف البوستات الوهمية عن وفاة الفنانين والمشاهير وانهيار سد الموصل وانتشار انفلونزا الخنازير والطيور وظهورغرير العسل ، والارملة السوداء وعنكبوت الساعة الرملية القاتل وما شاكل ، كلما أدلهمت الخطوب لحرف انظار الجمهورعن حقائق مرعبة وليست متخيلة يراد حجبها أبرزها إغتيال الناشطين والإعلاميين والمتظاهرين ، إضافة الى الاف المقاطع والصور المفبركة ومقاطع الفوتو شوب ، وما قيل عن الكذب سابقا قيل يوم كانت الكذبة بحاجة الى أسابيع وربما عدة أشهر حتى تصل الى الأسماع وتؤثر في الناس أيما تأثير وتغسل عقولهم ، أما اليوم فالاعلام الشريف يخوض صراعا مريرا ضد الإعلام المضاد الزائف ، الأول لبناء الوطن وتشجيع منتجاته الوطنية ، فيما الثاني لتدميره واقتصاده بنفس القوة وبعكس الاتجاه ، مستغلا هذا العالم الافتراضي المخيف والفضاء السبراني الهائل وثورة المعلوماتية المرعبة بما تضمه من مواقع لا حصر لها للتواصل الاجتماعي يتابعها مليارات البشر حول العالم ففيما يهدف الإعلام المضاد الى زعزعة الاستقرار الوطني واشاعة الفوضى العارمة وخلط الحابل بالنابل وخلق فجوة هائلة مبنية على عدم الثقة بين مكونات الشعب المتباينة عرقيا ومذهبيا ودينيا لدق اسفين الفرقة والخصام بينها بما يخدم أغراضه الدنيئة متكئاُ على الشائعة والكذب لقلب عالي الحقائق واطيها عبر الفيس بوك ، تويتر ، انستغرام ، تلغرام ، تيك توك ، سناب شات ، فايبر واتس اب ونحوها ، تجد ان الاعلام الجاد الوطني الرصين يفتقر الى السرعة المطلوبة لبيان بطلان دعاوى هذا التضليل الإعلامي وفضحه واذا ما استمرالحال على ماهو عليه فإن الامور ستتدهور بما لاتحمد عقباه ومن الخطأ بمكان أن تفعل الشائعة فعلها من دون ان يتحرك الاعلام الشريف بجميع وسائله المقروءة والمرئية والمسموعة ليحرك ساكنا بسرعة كبيرة وعدم الاعتماد على الوسائل الراكدة والصحافة الخامدة كالصحف الاسبوعية والمجلات الشهرية أو الدورية لتحقيق غايته كونها وسائل مالبثت ان اصبحت قديمة وغير متابعة وتسير بسرعة السلحفاة ولاشك ان التحقيق الصحفي والاستقصائي الشامل له القدرة على ذلك لضرب التضليل في عقر داره واصابته بمقتل ان أحسن إستخدام أدواته واستثمر معلوماته جيدا على النحو الأفضل ولتحقيق ذلك الهدف :
لابد للتحقيق الصحفي الرصين من أن يبدأ بقصة خبرية – حقيقية ..أكرر حقيقية – وليست متوهمة وإن كانت مستلهمة من الواقع مكتوبة بطريقة مؤثرة لا تتجاوز 50 كلمة تلخص موضوع التحقيق برمته تمهد لولوج تفاصيله وتهيئة القارئ لهذا الغرض تستلهم ايقاعها وتقتبس وقعها من الشارع ، واياك اياك ان تضيف الموسيقى الحزينة الى التحقيق اذا كان مصورا وبالاخص في دقائقه الاولى اذ يكفي ايقاع الشارع له مقطوعة موسيقية ” كصوت عربة خشبية يجرها حصان والتركيز على صوت زينته وصوت حدوته أثناء حركته ( جق جق جق ) ،صوت حركة الملعقة داخل استكانة الشاي ، صوت بائع اللبلبي وهو ينادي زبائنه ، صوت مطرقة الحديد ” تن تن تن ” ..صوت بائع الصميط ” هذا الصميط ..حار وطيب ” ، صوت ارتطام اقداح العرق سوس ببعضها ” ترن ترن ترن” يعقبها صوت البائع ” برد كلبك ياولد “، اما ادخال الناي والكمان وبقية الالات الحزينة مع التركيز على الدموع منذ بداية الحلقة فهذا تحقيق مُسَوق بطريقة رخيصة جدا يحاول استدرار دموع المشاهدين ” تشبه اللطمية ” وتشبه ” إغراء الفيديو كليب الذي يركز فيه المخرج على جسد المطربة وسيقانها العارية بدلا من اللحن والكلمات ” ولا يقدم شيئا له قيمة فنية .
– تحقيقات ” الريموت كونترول ” والتي دأب بعض الصحفيين المحليين على كتابتها ، فاشلة وباهتة واعني بها التحقيقات التي يتم كتابتها عن بعد داخل المنازل أو المكاتب المغلقة موهمة القراء بأنها ميدانية وحصرية وهي ليست كذلك بالمرة ، ومعظمها عبارة عن تجميع وتكديس لتقارير سابقة اكثر منها تحقيقا استقصائيا متفردا بمعلوماته ووثائقه غير المنشورة سابقا .
– لابد للتحقيق الرصين من أرقام واحصاءات موثقة على لسان متخصصين ، وثائق مسربة غير منشورة من ذي قبل ، صور لم يتم تداولها بتاتا، معلومات لم يسبق نشرها اطلاقا تحدث دويا هائلا لن يسكن لفترة طويلة ..بغير ذلك ” عيد واصقل بالك تنسى ” .
– ليس من الصحيح جمع التقارير والأرقام التي تتداولها وسائل الاعلام واقحامها في تحقيق وجعلها محوره الاساس لأنها عبارة عن استهلاك وتكرار واستنساخ لجهود الآخرين فقدت بالتكرار بريقها وتأثيرها وعصفها الذهني المأمول .
– من الخطأ الفادح اعتماد مقاطع فيديو اشبعت نشرا ومشاهدة عبر مواقع التواصل وتضمينها التحقيق على انها جزء منه ، صحيح انها تثير انتباه من لم يسبق له مشاهدة كل هذه التقارير المصورة دفعة واحدة الا انها منشورة سابقا ولاتضيف شيئا جديدا للتحقيق الاستقصائي بخلاف التقارير المصورة التي لم تنشر سابقا والتي يتم الحصول عليها من مصادرها ..من كاميراتها العامة والخاصة ..من البوماتها الشخصية ..من ملفاتها السرية ..من أدراجها !
حتى تحقيق النيويورك تايمز الاخير كان سخيفا ولم يأت بجديد مع كل الضجة التي أحيط بها وبرغم الزوبعة التي أثيرت من حوله والدليل انه لم يطح بأي من رؤوس البصل التي وردت فيه إطلاقا .
تحقيق عن المخدرات أنموذجا :
يجب ان يلتقي كاتب التحقيق او فريق العمل احد المدمنين ..المتعاطين ..المروجين ليروي لنا تفاصيل غير مروية من قبل …لقاء عالم دين شيعي ، سني ، مسيحي ، صابئي لبيان رأي كل دين ومذهب بالمخدرات وفق نصوصه الدينية لكل منهم ، لابد من لقاء ضابط شرطة في مكافحة المخدرات للحديث عن انواعها وطرق تعاطيها ، مشرف تربوي لبيان اسباب انتشارها في المدارس ، ضابط في المنافذ الحدودية للحديث عن كيفية تهريبها وادخالها الى العراق ، طبيب لبيان اسباب الادمان وآثاره الصحية المدمرة ، باحث إجتماعي لتوضيح تأثيرات الظاهرة اجتماعيا ، قانوني لبيان احكام وعقوبة الجريمة ونوع القضايا المرفوعة في المحاكم العراقية بهذا الصدد ، من اين تدخل المخدرات والى اين تذهب ، كم تبلغ ارباحها ، أبرز العشائر والشخصيات السياسية والاحزاب المتورطة بتهريبها ولماذا ؟!
– يقسم التحقيق المكتوب الى ثلاث فقرات ما خلا المقدمة الخبرية الانسانية كل واحدة منها بعنوان متميز ينتهي بخاتمة مثيرة تكتب بطريقة احترافية وكأنها سيناريو لفيلم سينمائي .
– كلما زادت نسبة الملفات ، الوثائق ، الارقام ، الصور ، الاحصاءات ، المقاطع ، المعلومات غير المنشورة سابقا ضمن التحقيق كلما احدثت دويا هائلا بما يميز التحقيق ويؤهله للفوز بجميع المسابقات ذات الشأن او التنافس على مراكزها الاولى والعكس صحيح ، واقترح تحقيقات استقصائية متفردة عن الانتحار وعلاقته بجرائم القتل العمد المدون على انه انتحار، ملف المخدرات تصنيعها وتعاطيها وترويجها وزراعتها وتهريبها من والى العراق بالوثائق والصوروالخرائط ، ملف بيع الاعضاء البشرية ، العبث بجثث الموتى في دوائر وثلاجات الطب العدلي ، استبدال المواليد واختطافهم من اقسام الولادة ،السحر والتنجيم في الفضائيات والمكاتب والمقابر،ملف البغاء والاتجار بالرقيق الابيض،تجارة السلاح وسرقة الاثار وتهريب المخطوطات واللوحات الفنية لكبار التشكيليين في العراق ، ملف صالات القمار والروليت ، انتهاكات حقوق الانسان والتعذيب في السجون والمعتقلات ومراكز الاحتجاز السرية والعلنية ، ملف المفقودين والمختطفين والمختفين قسرا ،ملف حرق البساتين وتجريف الاراضي الزراعية ، ملف تزويرالانتخابات والتلاعب بأصوات الناخبين وصناديق الاقتراع ، ملفات تهريب النفط ، ملفات تسريب الادوية من المخازن الحكومية الى الاسواق السوداء وادخال المغشوش منها اسوة بالاغذية التالفة الى العراق ، ملف إبادة الثروة السمكية ونشر الاوبئة في حقول الدواجن والمواشي وتهريب الاغنام ، ملف تعطيل المصانع العراقية المتعمد والعمل على ايقافها وتدميرها وتفكيكها والتلكؤ في تأهيلها لصالح الصناعات – الستوك – المستوردة ، ملفات حرق الطوابق المخصصة للعقود في المؤسسات الحكومية وحرائق الاسواق الشعبية ، ملف عصابات التسول والجريمة المنظمة ونحوها من ملفات مثيرة للجدل لم تفتح كما ينبغي لها ان تفتح حتى الآن وكل ما كتب بشأنها من تحقيقات كان عابرا ومكررا ولم يأت بجديد قط وكلها عبارة عن تركيب معلومات بعضها فوق بعض لا أكثر والمطلوب همة أعلى ومهنية اكبر لكشف مالم يكشف من قبل وإسقاط آخر ما تبقى من أصنام اللعبة السياسية ومزدوجي الولاء والجنسية والايقاع بأحجار الاستدمار والعمالة على رقعة الشطرنج المحلية .اودعناكم اغاتي