يعتقد البعض، وبالذات المصابون باليأس من الأوضاع العراقية الحالية، أنّ الفارق بين العراق الحالي والعراق في عهد صدام، قليل. وأن العراق الحالي بحاجة الى تحرير ثان، أو عملية تكميل للتحرير الأول.
يعتبر هذا الإعتقاد صحيحاً إذا نظرنا الى الواقع الرث الحالي للعراق الذي يعيش أزمات متراكمة يكاد أن يصعب الفصل بينها، وكذلك من خلال النظر الى عدم وجود الآمان والإستقرار في الكثير من المناطق، وعدم وجود الحلول الوطنية للمشكلات وعدم تنفيذ الدستور العراقي، وانعدام الشفافيّة والبناء والإعمار، وقلة الخدمات التي تقدم للمواطنين في كافة المجالات، وفشل التجربة الديمقراطية.
ولكن لو نظرنا بحيادية وموضوعية، فنراه إنه يجافي حقائق كثيرة على الأرض، لأن التغيير المكلف الحاصل قد غيّر الكثير من الأمور.
في عهد صدام كان البعث والأجهزة الأمنية السرية والعلنية التابعة له تمثل الوجه الوحيد لوجود السلطة الحاكمة. وتبعاً للمصالح التي تشكّلت بموجبها كانت تمارس السياسة والإستئصال وتوطيد الحكم الاستبدادي بالنار والدم والتآمر. أما المتضررين وقطاعات واسعة من أبناء الشعب العراقي فقد كانوا على إستعداد لتقبل الوجود الأجنبي ووصايته عليهم بشرط إنقاذهم من صدام ونظامه، من دون النظر الى هويته وغاياته. وكانت صفوف المكونات العراقية أكثر تماسكاً من الآن، وعندما رحبوا بالأمريكان لتحرير بلدهم، أرادوا أن يستكشفوا إمكانات نضالهم السياسي بالاستفادة من الظروف التي تعقب التحرير ومظلومياتهم وتضحاتهم الكثيرة. وحينها لم نسمع إلا القليل من ضجيج المعارضة.
بعد التحرير رسم السياسيون خرائط ملحمية ترشد الآخرين الى أنهم وأحزابهم مصادر للشرعية. وتوازى الانفتاح وتشكيل الأحزاب الجديدة والتعدّديّة والإنشقاقات الحزبيّة والقليل من الديمقراطية وإنتخابات تجبر على الاستقالة. مع الحرب المذهبية التي إندلعت، وفظاعاتها، وإرتماءات الكثير من السياسيين في أحضان المخابرات الإقليمية والدولية، وإرتباطاتهم الغامضة معها، وإستشراء الفساد والتكتّم عن أسبابه والتستر على الفاسدين وظهور الإعلام المنفلت الذي يسوده خطاب الإتهام والتخوين والتشهير العبثي والتحريف والتزييف. وأدت الأحداث بشكلها العام الى تشتيت الصفوف وتخبط التوجهات والأهداف وفقدان الثقة والتجانس وإضعاف التماسك بين السياسيين أنفسهم وبين المكونات. والى إنحرافات أخلاقية وسياسية وقانونية والى الإعتقاد بتوجّهات متضاربة ومتناقضة.
وما عدا بقاء المهمّة المُلحّة عند العامة من الناس هي البحث عن الأمن والأمان. والتقارب في الأوضاع المعيشية حيث البطالة والفقر والعيش تحت خطّ الفقر، وعدم الاتّعاظ من الماضي، ليس هناك إلا القليل من التشابة بين الأمس واليوم بالعراق. حتى العذابات المشتركة تغدو أقلّ اشتراكاً بين إثنين من أبناء مدينة وقومية واحدة، وإن كانا ينتميان الى حزب ومذهب واحد.
هذا بمجمله، بعيداً عن الدخول في متاهات الحديث، يعني أن القوى والشخصيات المأزومة التي إستخفت بالشعب والدستور وتعاملت مع الآخرين كقاصرين، هم المسؤولين عن رداءة الأوضاع الحالية، بينما المواطن بات يعلم أن الحلّ يأتي مع تغيير جديد، وأن مقولة (التحرير الثاني) هو التوصيف الأفضل والأنجح لكشف أوجه القصور والعجز المتأصل في مفاصل الحكم، والانطلاق من قدرته على التأثير والتغيير وطرح الأفكار والبرامج الطامحة للنهوض بالواقع، والتمهيد لمناقشة الأزمات، واحدة تلو الآخر، في منتديات وملتقيات تسودها النقاشات والجدالات الموضوعية المبنية على استيعاب المطالب الشعبية وحقائق ميدانية وعلمية. وأن (التحرير الثاني)، وبالذات عند المتفائلين لايعني فتح الأبواب أمام قوة تحرير أجنبية أو قوة إحتلال جديدة أو ادخال البلاد في متاهات جديدة، بل يعني إتخاذ سلسلة من المواقف الحازمة.