23 ديسمبر، 2024 1:09 ص

التحرش الجنسي ضد المرأة وأزمة الأخلاق في المجتمع

التحرش الجنسي ضد المرأة وأزمة الأخلاق في المجتمع

ليس هناك من أهمية كأهمية التوعية المجتمعية وزيادة الوعي لتجاوز أزمة القيم التي تواجها المجتمعات المعاصرة في حملتها المناهضة ضد العنف و التحرش الجنسي ضد (المرأة) بعد تراجع المعاير الأخلاقية وفلسفة الأخلاق التي لها دور كبير في بناء منظومة القيم المعرفية في كل قضايا المجتمع، والتي هي بالأساس نشأة من رحم المجتمع ذاته، وهي القيم التي وحدها تكفل حماية (المرأة) من جهة، ومن جهة أخرى تعزز الثقة بنفسها ويكسر حاجز الخوف والصمت الذي يؤثر على نفسيتها سلبا ويهبط معنوياتها، بكون التحرش أسلوب قذر من أساليب الإرهاب يمارس ضد المرأة .

ففي وقت الذي تعيش مجتمعاتنا بالأساس أزمة جرائم الإرهاب التكفيرية، بالقتل والاغتصاب والسبي وجرائم العنف ليس ضد المرأة فحسب بل ضد المجتمعات المدنية بصورة عامة بما عكس سلبا على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبما تعدى معطيات هذه الأزمات إلى أزمة القيم ليكون مردودة ترسيخ التخلف في المجتمع، لان مشروع لأي نهضة مجتمعية تكمن بنهضة القيم ومبادئ الأخلاق والتمسك بها، وهو تمسك بتقديم العمل الجاد لتطور البلدان، لان ازدهار المجتمعات تكمن بتوعية مجتمعية التي هي التوازن وإقامة علاقات متكافئة بين القيم المادية والروحية، ولهذا فان لأي تقدم نسعى إلية لا بد من إيجاد توازن بين التقدم العلمي و التكنولوجي وبين التقدم الأخلاقي والثقافي لكي نضمن امن وأمان المجتمع ونتجنب المشاكل التي تؤثر على مكنوناته ومكوناته، من انتشار الاستبداد والظلم والتميز واستغلال وسلب الحقوق والحريات المدنية، ولهذا فان انسياق وراء تعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية والوطنية تتطلب منا تجسيد العمل بالإخلاص والوفاء والمحبة وبما أحب لنفسي أحبه للأخر دون الأنانية وحب الذات واستغلال النفوذ ونبذ والكراهية والبغض والحقد من اجل ترسيخ قيم مجمعية عالية البناء ومتوازنة، وهذا ما يتطلب إلى إعطاء أهمية للمؤسسات التربوية والى التحصيل العلمي وبناء روابط أسرية تجاهد بتربة أطفالها بالقيم الأخلاقية والوطنية السليمة لكي يتسلح المجتمع تسليحا متوازنا نردم بؤر الفساد والانحلال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي سادت في مجتمعاتنا مؤخرا بفعل تراجع قيم الأخلاق في المؤسسات الاجتماعية وبما اثر سلبا في نفسية الفرد، وكل هذا الظروف والأوضاع الشاذة مهدت لتفشي ظاهرة الإرهاب وما أفرزته من قيم دمرت مجتمعاتنا المدنية بايدولوجيا تكفيرية متطرفة ومتخلفة أرادت إن ترجع الحضارة إلى عصور الجهل والتخلف، فخلفت وراءها شرخا خطيرا في المجتمع وعلى مستقبل الأجيال القادمة، وهذه الأسباب بمجملها، بقدر ما أوقعت صدمة في القيم المجتمعية، بقدر ذلك أوقعت صدمة في واقع المرأة، وقد وقع أثرها الأكبر على المرأة الشرقية في مجتمعاتنا وبشكل ملحوظ أكثر من المجتمعات الغربية، فتدني مستوى التربية والتعليم وتفشي الأمية بين إفراد المجتمع ووقوعها تحت مؤثرات خاطئة لمعتقدات التكفيريين والتي كانت بمثابة بيئة خصبة ساعد على انتشارها فيها، وبالتالي فرضت العنف الجسدي على (المرأة) بعد إن استفحل قوة (الرجل) عليها بغياب قوانين الدولة الرادعة ضد تعنيف (المرأة) وأصبح مهيمن على حياتها بالمطلق بما ترتب إيقاع تأثير بالغ في نفسية المرأة بما جعلها شخصية مهزوزة ومرتبكة ومستسلمة لحجم العنف الجسدي الذي مورس عليها وبالتالي وقع هذا التأثير على سلوك الأطفال بما خلق في نفسيتهم شخصية معادية للمجتمع، والى جانب ذلك فان تدني مستويات المعيشة وتفشي الفقر والبطالة والأمية كل ذلك شكل ضغوطات نفسية لمعيلي الأسر، ونظرا لانتشار هذه الشرائح في المجتمع فإنها تحمل الكثير من إمراض المجتمع ولهذا جاءت ظاهرة (التحرش) كإحدى مخلفات هذا الوباء الذي للأسف تفشى في مجتمعاتنا لتصبح قضية التحرش قضية مجتمعية، صحيح أنها لم تقتصر بوجودها فحسب في مجتمعاتنا العربية بل في كل المجتمعات الشرقية والغربية ولأسباب ذاتها اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية، ولكن في مجتمعاتنا أخذت منحى أكثر خطورة من المجتمعات الغربية بسبب إن القوانين الغرب تحمي حقوق المرأة بشكل كامل، وان الوعي لدى المرأة الغربية أكثر، وقدرتها على المواجهة واللجوء إلى المحاكم وجراءتها في التحدي والمواجه تفوق على مستويات المرأة الشرقية لعدت اعتبارات منها خوفها من الفضيحة لان الوعي المجتمعي الشرقي ما زال دون مستوى المطلوب، وان نظرة المجتمع بصورة عامة ما زالت دونية باتجاه (المرأة)، وان مجتمعاتنا الشرقية ما زالت مجتمعات ذكورية تتحكم بإرادة المرأة بشكل مطلق ولهذا فان المرأة حين تتعرض للتحرش لا تلجئ إلى المحاكم والى السلطات القضائية أو إلى أسرتها بقدر ما تفضل (الكتمان) و(السكوت) و(عدم البوح) وكان الواقعة لم تحدث، لعدة اعتبارات منها عدم قدرتها وإمكانيتها إثبات ذلك لعدم وجود أدلة التي تدين المتحرش وخاصة إذا تعلق الأمر بكون المتحرش مدير العمل ومن مسؤولين الكبار من ذي نفوس ضعيفة يستغل سلطة وظيفته لممارسة ضغوط لإجبار الموظفة أو العاملة لاستجابة لرغباته الجنسية، وفي حالة اعتراضها سيهددها بالنقل أو الطرد، وهذا الأمر يترتب لطرف المتحرش حينما لا يجد ردعا قويا يوقفه عند حدوده ويأخذ عقابه فانه يمضي قدما بممارسة هذه التصرفات الأخلاقية في التحرش وبالتمادي على هذه المرأة وتلك الفتاة، بكونه قد (امن العقاب) فانه لا محال سيسيء الأدب، وهنا فان ثقافة الصمت والكتمان والسكوت هي من مسببات تنامي هذه الظاهرة اللاخلاقية في المجتمع، وان المجتمع ذاته يساهم بهذا الشكل وذلك بتفشي هذه الظاهرة السلبية في المجتمع حينما يحاول الكل (المرأة) و(المجتمع) تجاهل هذا الفعل وإسدال الستار عليها تجنبا لإلحاق الأذى بعائلة (المرأة) خوفا من العار واللوم بما ليس لها يد فيه، لان شكواها في ظروف مجتمعاتنا الشرقية الحالية تضع المسؤولية على (المرأة) وتبرئ ساحة (الرجل) بادعاء بان المرأة هي من تغري الرجل وتمنحنه فرصة لتحرش بها، و ما زالت مجتمعاتنا تتعامل على أن (المرأة) هي المسؤولة، لذا فإنها لن تجد من شكواها إلا مزيدا من اللوم والعتاب، لذلك فهي تفضل تكتيم أمرها لتستر نفسها خوفا من اتهامها الآخرين بما هو أسوء من قضية التحرش، وما لم تحصل توعية عامة وشامله في كل مؤسسات الدولة الاجتماعية والثقافية والسياسة فلن يكون هناك رادع لمثل هكذا تصرفات .

لذلك نجد رويدا.. رويدا تنتشر ظاهرة التحرش لتتفشى كوباء كوليرا في مجتمعاتنا، في الشارع وفي المستشفيات وفي الأسواق وفي الحدائق والمتنزهات ومحلات التجارية ووسائل النقل العامة والخصوصية والقطارات وأماكن الزيارات المقدسة وفي المدارس والكليات، ناهيك عن الذكر في دوائر الدولة الحكومية والأهلية، فتكون ظاهرة التحرش في كثير من هذه المواقع عن طريق إسماع المرأة ألفاظ وقد تكون جميله عابره وقد تكون بألفاظ بذيئة أو يكون عن طريق إزعاج برفع أصوات المذياع والغناء أو عن طريق بوق السيارة أو بشكل ضرب كتف الرجل على كتف المرأة إثناء السير في الطرقات والأسواق والتدافع من اجل لمس جسد المرأة عنوة.. وإلى أخره.

ومما يجب ذكره هنا في مشكلة (التحرش) بان قضية (التحرش)، والتي ( تحصر بين قوسين) بكونها على الدوام تحصل من لدن الرجل اتجاه المرأة، ولكن هناك حالات يجب ذكرها بان المرأة أيضا في كثير من المواقع هي من تتحرش بالرجل، وهناك أيضا تحرش رجل بالرجل.

ومن هنا فان (التحرش) هو في مجمله مرض نفسي وكبد جنسي يعاني منه المتحرش بشكل لا إرادي، وليس له علاقة بالمؤثرات المظهرية لشكل وملبس (المرأة)، بقدر ما تكون لدى المتحرش دوافع مرضية جنسية شاذة، لأنه- في المطلق- لا يمكن تبرير تحرش الرجل بالرجل، ولا تحرش المرأة بالرجل، إلا من خلال هذا الأمر، وليس له أية علاقة بقيم المجتمع وتقاليده، وليس التحرش أيضا له علاقة بمظهر المرأة ونوع ملابسها، أكانت مثيرة أم عادية، لأننا نلاحظ بان (المرأة) المحجبة أو المرتدية للبرقع والمحتشمة يتعرضن للحرشه، والتحرش أيضا ليس له علاقة بسبب انتشار الأمية، لان التحرش يتفشى بين طلبة الجامعات وبين أساتذة الجامعات والأطباء ومهندسين وإلى أخره، والتحرش أيضا ليس له علاقة بسبب تأخر في سن الزواج، فنسبة المتحرشين من الرجال المتزوجين تفوق نسبة الشباب الغير المتزوج، لان أزمة التحرش في المجتمع وتفشيها لا يمكن إن نرجعها إلى أسباب ثانوية بل علينا إن نركز على جوهر قضية (التحرش) التي تتعلق بـ(التربية) أولا وأخيرا، من التربية الأسرية والتربية المدرسية في مراحلها الأولى، لان طريقة تربية الطفل تؤثر تأثيرا كبير في سلوك هذا الطفل وتنشئته تنشئة سليمة، لان الطفل كما يقول (علم النفس) يولد وعقله صفحة بيضاء والآباء هم الذين يبدءون بكتابة عليها من خلال تعليم الطفل الأسس الصحيحة في التربية السليمة وتلقي المعرفة وما هو خير وما هو شر وما هو صحيح وما هو خطا، لينشئ وفق هذه الإرادة ليكون تعليمة خير رادعا لتصرفاته إن اخطأ، قبل إن تردعه قوانين المجتمع، والأب وإلام الحريصين على تحصين أطفالهم كي لا ينزلقوا في ألأخطاء، وبما لا يحمد عقابه، عليهم تحذير أولادهم عن أي انحراف بما في ذلك ما يتعلق بقضايا التحرش.

ومن هنا تأتي أهمية دور الأسرة في توعية أبنائها، ثم يأتي دور المنظمات الحقوقية لطفل وللمرأة والإنسان، بل يجب إن تشمل التوعية (الأسرة) ذاتها من الأب وإلام وتحميلهم كل المسؤولية حين يخطئون في تربية أولادهم، وهنا – ونحن على اليقين – بان هناك – لا محال – ظروف اجتماعية قاهرة في البيئة الاجتماعية ومحيطها ستؤثر بهذا الشكل أو ذاك على الأطفال والأولاد وتحبط معنويات الشباب، ولكن المتحصن بقيم التربية الأسرية تحصينا متينا وقويا لا يخطأ بالمطلق، ولكن إذ كانت أسس التربية منذ البدء مرتبكة وغير مستقرة لظروف أسرية خاصة، فان الشاب ينحرف إذ أحبطت ظروف المعيشية عنده و وفق عوامل وتقلبات ولظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومما تتفاقم أوضاع الشباب وهم في سن المراهقة عندما يقعوا تحت تأثير وإثارة الوسائل التواصل الاجتماعي و وسائل الإعلام في الانترنيت والموبايل وعدم قدرتهم على توظيف رغباتهم الجنسية توظيفا صحيحا، فنراهم ينجرفون بقيامهم ببعض تصرفات لتفريغ أنشطتهم الجنسية والجسدية بأي وسيلة تتاح لهم حتى وان كانت بأساليب منافية لأخلاق المجتمع. وهكذا يقع جيل بأغلبيته تحت تأثير صورة مشوهة عن (الجنس) وعن (المرأة) من خلال مفاهيم مغلوطة والتي هي سبب مباشر تؤدي إلى تفشي و استسهال التحرش الجنسي، لان عمق هذه المشكلة تعود إلى مشكلة تربوية وسيكولوجية والى وجود حالة من الخلل بين علاقة الرجل بالمرأة، لان مجتمعاتنا الشرقية ما زالت أغلبية الأسر تتجنب تثقيف أطفالهم بالتربية الجنسية أو الحديث عن هذا الجانب، بل إن مؤسسات التربية هي آخرة تفتقر مناهجها التربوية إلى مادة (التربية الجنسية)، وكحاصل تحصيل فان كل ما يحصل عليه أبنائهم وبناتهم عن (الثقافة الجنسية) يأتي من خلال أساليب غير صحية، إما من الإنترنيت أو من خلال الأصدقاء أو من مشاهدة الأفلام الإباحية، وهي التي لا محال تترك آثارها السلبية النفسية الحادة على متلقيها لعدم إيصال رسالتها التربوية بشكل سليم لمفهوم العلاقة الجنسية، لان جل هذه الأفلام تتحرك على الإثارة الشكلية للجنس ولا تتحرى على المضمون الايجابي له لتوعية متلقيها بالمفهوم الجنس .

ومن هنا فان التأثير السلبي لظاهرة (التحرش) في المجتمع لا يمكنه ردعه بالقوانين إلا بالتربية، لان (القانون) بحد ذاته، ليس هو الحل الأمثل، وليس بتشريعاته – فحسب – للحد من ظاهرة التحرش، نعم قد يكون (العقاب) وفق تشريعات القوانين يشكل ردعا، ولكن لم ولن يكون القانون حلا امثلا لردع حالات التحرش، نعم إن القانون قد يجعل المتحرش يفكر إلف مرة ومرة قبل الإقدام على فعله، ولكن دناءة النفس تبقى في ذات المتحرش وسيفكر به وسيستغل أي فرصة لارتكاب هذا الفعل، نعم إن القوانين وضعت للمحاسبة والرد المخالفين والحد من سلوكيات المنحرفة في المجتمع، ولكن مع ذلك نجد رغم صرامة القوانين بحق مرتكبي جرائم القتل والسرقات ومخالفات المرور، هناك جرائم تحدث في المجتمع واختراقات مرورية وارتفاع نسبة الضحايا بسب عدم التقيد بالقوانين والأنظمة المرور وجرائم القتل المتعمد و السرقات رغم إن قوانين ضد هذه المخالفات هي قوانين صارمة ولكن مع ذلك تحدث اختراقات هنا وهناك، لذلك علينا إن نتيقن بان مهما وضعنا قوانين للحد من تفشي ظاهرة (التحرش) في المجتمع، دون التركيز على التربية الأسرية وتوعية الأسرة وتغير مناهج التعليم الأساسية وعن طريق التوعية وحملات التثقيف ألعامه، وبمشاركة تربوية وثقافية وإعلامية واسعة بما تحفظ مقومات أخلاق المجتمع السليم، فإننا لن نتوقع إن تزول هذه الظاهرة بين ليلة وضحاها طالما ستفضل (المرأة) في مجتمعاتنا الشرقية الصمت والكتمان والسكوت والمعانات لحفظ سمعتها وكرامتها وخوفا من الفضيحة ولا تلجئ إلى المحاكم، ومن هنا علينا إذا نفكر كيف نشخص المشكلة ونبدأ بالمعالجة من جوهرها .