يقولون والعهدة على الناقل ، بان السلطان مدحت باشا وهو واحد من الولاة العثمانيين الذي تولى ولاية العراق للسنوات (1869-1872 م ) ، هو أول من اوجد فكرة التجنيد الإجباري في البلاد ، ورغم إن إدخال الخدمة التي اقترحها لم تتحقق بولايته و فشل بتطبيقها هو ومن بعده لمرات ورغم إن عهده شهد العديد من المنجزات ، إلا إن البعض كان يصر في سبه وذمه في الخفارات والواجبات لا لشيء وإنما لأنه اوجد فكرة الخدمة الإلزامية في الجيش التي تشمل الذكور جميعا بعد بلوغهم 18 من العمر ، وحسب ما كان مطبق قبل 2003 فان جميع المناطق في بغداد والمحافظات موزعة على دوائر التجنيد التي يتوجب مراجعتها بالموعد المعلن لغرض ( سوق ) المشمولين بالخدمة او البت في تأجيل المستمرين بالدراسة لحين انتهاء أعذارهم ، وهذه القضية كان يسودها اهتمام كبير في المدينة والريف فمن لم يراجع باليوم الموعود يتم إلقاء القبض عليه بمعية مختار المحلة ثم حبسه وان كان غير موجود فيكون الأب رهينة لحين التسليم ، ودوائر التجنيد لها قواعد معلومات تتضمن التولد والعناوين وكل التفاصيل التي تخضع للتحديث المستمر ، وكل العراقيين تم شمولهم بالتجنيد الإجباري عدا بعض الاستثناءات للمرضى والمعاقين ودافعي البدل النقدي ، واغلب ممن تبقى من الذين خدموا العسكرية بالإجبار لهم ذكريات لا يمكن محوها من الذاكرة بيسر ،
ففي الأيام الأولى لالتحاقهم يتلقون دروسا غريبة في كيفية الالتزام والضبط العسكري الذي كان يسرق كثيرا من الحريات والحقوق ، وكانت تنهال عليهم عقوبات الهرولة والبروك والزحف والشناو لأتفه الأعذار ، وكان رأس العرفاء ( يسمونه الريس ) يتذمر من طلب مراعاة البعض كونهم من خريجي الكليات إذ لا يكترث لطلباتهم وغالبا يردد عبارته المعروفة ( خريج مريج يشرب في البريج ) , ومن وجهة نظره التي ينقلها للجنود علنا إن تعريف الجندي في العسكرية ( هو الكائن الحي المحصور بين البيرية والبسطال ) والكرامة الإنسانية يجسدها شعار ( انزعها في باب النظام ) ، وبعد التدريب القاسي الذي يتلقاه المجند يتم توزيعه على الوحدات من الشمال إلى الجنوب دون مراعاة لكيفية تغطية مصاريفه فراتب الجندي كان أربعة إلا ربع دينار في الشهر ، واسوا ما كان هو فقدان الأحبة أمام الأنظار في الحروب التي أكلت الأخضر واليابس فلا موعد محدد للموت في ظل إيقاف التسريح الذي امتد لسنوات ، ومن تلك الذكريات أيضا إن الجميع يشترك في (القصعة) وفي لعنة اليوم الذي ولدوا فيه في العراق لأنه يطبق الخدمة العسكرية بطريقة تسلب الأرواح والحريات .
إن ما يعيدنا إلى ذكريات الخدمة العسكرية التي يطغي مرها على حلوها ، هي الدعوات المستمرة لبعض السياسيين ( وأكثرهم ممن لم يتذوقوا مرارة الخدمة العسكرية ) لإعادة تلك الخدمة الإلزامية إلى الواجهة تحت مسمى المحافظة على الوطنية والمواطنة ، وكأن العسكرية هي الجامع الوحيد للولاء الذي تغير تعريفه ومفهومه وبالذات لدى العراقيين الذين يعيش اغلبهم بخطوط الفقر لتدبير رغيف الخبز ، ومن اكتوى بنار العسكرية ويسمع بالدعوات لإحياء خدمة العلم قد تثيره بعض من الحماسة ولكن سرعان ما يفقدها عندما يراجع الواقع الحالي , فالمناصب توزع بالمحاصصة والمذهبية والقومية وأحاديثها تتردد علنا والفساد بأنواعه يضرب كل المناطق فوق وتحت الحزام ، والسؤال الجدير بالطرح لمن يريد إعادة الإلزامية هل توجد معسكرات نظامية لأغراض التدريب والخدمة واغلب المقرات تمت حوسمتها وتغيرت معالمها بشكل كبير ، وما هي الآليات لسوق أكثر من 300 ألف مشمول سنويا ونحن بدون تعداد حقيقي للسكان منذ 1997 ولا نزال نتعكز على البطاقة التموينية في إخراج البيانات التي تتغير من يوم ليوم ، وكيف سيتم ضمهم إلى الجيش وتوزيعهم على الوحدات وإدارة تجهيزاتهم وأرزاقهم وشؤونهم الإدارية في ظل العجز المزمن في الموازنة الاتحادية للبلاد وانخفاض قناعة الكثير من الشباب بالموضوع ، فتفعيل المادة الدستورية التي تجيز العودة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية يتطلب التمهيد لهذا الشأن الحساس بشكل متكامل قبل الشروع به ، وفي مقدمة ذلك تحديد العقيدة العسكرية بما يجعلها وطنية بحق ، فضلا عن تحديد المدرسة التي سيتم إتباعها فهل سنعود لكراسات التدريب التي أنتجتها المطابع العسكرية خلال حقبة النظام السابق أم مدارس الجيران والأقرباء والأصدقاء ، والاهم من هذا كله ضمان القبول الشعبي بالخدمة الإلزامية لكي لا تبقى إطارا يتم من خلاله تغذية الفضائيين والفساد ومطاردة المتخلفين والهاربين منها من خلال الزنابير ( الانضباط العسكري ) .
ونقول نعم ثم نعم ، إن للخدمة العسكرية الإلزامية فوائدها الوطنية والتربوية وفي الذود عن الوطن حين نعاني نقصا في الموارد البشرية العسكرية وحين تتوفر الظروف المناسبة لهذا النوع من الخدمة ، وان تحقيق هذه الأحلام لا يأتي من خلال زج الشباب إجباريا في خدمة لم يقدم القائمين على أمورهم ابسط الحقوق ، فكيف نبدأ بأصعب واكره الواجبات دون أن ننسى إننا نتعرض لنقد بأننا نعسكر المجتمع ولو فتحت ألأبواب للتطوع دون ألزام لتوافد الآلاف ، و جمع اللحمة الوطنية وإزالة الشوائب لا يأتي من الهرم بالمقلوب وإنما من خلال إصلاح العملية السياسية وجعلها بالشكل الذي يقلل الخلافات والاختلافات ، فما نتمناه أن ينعم شبابنا بالسعادة والرفاهية وتتوفر لديهم الظروف والإمكانيات لبناء ذاتهم وتكوين عوائل لهم بما يوفر ضمانات الحفاظ عليهم وطنيا ، وتعريض حرياتهم للعسكرة جبرا لا يبني بل يهدم الشخصية إن لم نوفر لهم الأساسيات ، كما إن الزج في العسكرية والمعسكرات تتطلب حسابات ومراجعات قد تكون من نتائجها ظهور اثار وسلبيات أكثر من توقعات المتفائلين ، وان الجهود التي تبذل لإحياء خدمة العلم بالآليات المطروحة حاليا ، نتمنى أن تكرس كأسبقية لتفعيل عجلة العمل والإنتاج فالصناعة تحتاج إلى تجنيد والزراعة تحتاج إلى تجنيد والسياحة وبقية المرافق والخدمات وغيرها تحتاج لتجنيد عام يمكن أن تكون ساحات لخدمة الوطن من قبل المواطنين ذكورا وإناث ، فالحلول ليست بالضرورة أن تكون عسكرية لوضعها بمسارها الصحيح فأكثر ما نحتاجه حاليا هو تنويع مصادر الدخل من خلال العمل والإنتاج لتعظيم الناتج المحلي ، وإذا كانت العسكرية تحقق ما تعانيه البلاد فإنها تستحق وضعها في أول الأوليات ، فالعمل مخرجاته الاستقلالية والسعادة والرضا ، والعسكرية عبئا يضيف نفقات جديدة لأهداف غير مؤكدة وزيادة وجع الرأس للفرد والمجتمع والمنظومة العسكرية والحكومة ، فمن باستطاعته أن يضبط الالتحاق والحضور والدوام ونحن نعاني من غلو الأمية بسبب التسرب المدرسي ، كما نشكو أحيانا من هروب العتاة والجناة من المواقف والسجون في وضح النهار ، ولسنا ضد الفكرة ولكن تطبيقها يحتاج إلى وقتها وظرفها المناسب لكي لا نكرر تجربة ما أحدثه قبلنا من ويلات ، ولسان حال البعض يقول لقد جئتم ومعكم أحلام الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وترفع شعارات تحقيق الانجازات فما الذي تغير لنعود وراءا للعسكرية وذكريات أبو طلال ( البسطال ) ؟! .