22 ديسمبر، 2024 6:05 م

التجلي يهبط علي هاروكي موراكامي ويحوله إلي روائي يستعيد الحلم

التجلي يهبط علي هاروكي موراكامي ويحوله إلي روائي يستعيد الحلم

نداء غامض الي ر حلة سحرية
آدم ستيرنبيرغ
ترجمة:خضير اللامي
وضَبت أوَل سفرة لي لليابان، لهذا الصيف، في الغالب، كنت مستغرقا تماما في دراسة أعمال هاروكي موراكامي Haruki Murakami. ثم تحولت إلي فكرة فظيعة. وتحت تأثير موراكامي، وصلت طوكيو متوقعا إيَاها كما برشلونة أوباريس أوبرلين – عاصمة للعالم الكوني التي يتكلم مواطنوها بطلاقة ليس الانجليزية حسب، بل أيضا هم مطلعون علي الأركان والزوايا المظلمة للثقافة الغربية: موسيقي الجاز، والمسرح، والأدب، والوضع الكوميدي، والسينما، والأوبرا، والروك أندرول. لكن هذا، كما هو في الواقع، بإمكان أيَ إنسان آخر في العالم أن يخبرك به، لأنَ اليابان لا يشبه أيً بلد آخر- في واقعيته وطبيعته وسياحته – إذ تحول اليابانيون بكثافة ومرونة لا يمكن تبريرها.
وصعقتني أنفاق قطارات تحت الأرض تماما , في صباحي الأو ل في طوكيو، هبطت في أحد تلك الأنفاق، متجها إلي مكتب موراكامي تملؤني الثقة التامة، مرتديا قميصا جديدا ومكويَا – بيد أنني فقدت طريقي فجأة، ولم أجد من يتكلم الانجليزية ليرشدني إليه في لحظتها. وأخيرا،”فقد فاتتني القطارات بعد إبتياعي وبسخاء تذكرة في الاتجاه الخطأ وبقيت أحدق بشراسة في وجوه الركاب.”وانتهي بي المطاف إلي سطح الأنفاق في وسط المدينة، وقد تأخرت كثيرا عن موعد مقابلتي مع موراكامي، بعد ذلك شرعت في التجوال دون هدف معين يلفني الإحباط، وسط كل الاتجاهات الخطأ”إذ ثمة إشارات طرق قليلة يبدو قد تحوَرت في طوكيو. “إلي أن جاءني مساعد موراكامي ورآني جالسا علي دكَة أمام هرم زجاجي لتربية النحل الذي بدا لي في لحظة يأسي يشبه معبد مشؤوم لطائفة عبادة الموت .
وقد أخبرت موراكامي أنني كنت مندهشا لأكتشف، بعد عدة كتب مدهشة، أنه استطاع أن يثير دهشتي مرة أخري. وكالعادة، فانه لم يحصل علي سمعة، زاعما أنَه كان إناء سئما لمخيلته. قال، “وفجأة جاء الناس قصار القامة،” ولا أعرف من هم هؤلاء الناس ” ولا اعرف ما ذا يعني هذا ” فلقد كنت حبيس القصة. إنني لا املك فرصة، أنهم جاؤوا وقد وصفتهم. وهذا هو عملي. وسألته، لمن هذا العمل الذي يشبه الحلم أحيانا، إن كان هو نفسه الذي أنعش مثل هذه الأحلام. قال لي، إنَه لن يتذكر هذا أبدا – إنه استيقظ ولا شيء آخر غير هذا مطلقا. والحلم الوحيد الذي يتذكره عبر السنوات الماضية، هو، تكرار الكابوس الذي يبدو كثيرا ما يشبه قصة هاروكي موراكامي. ففي الحلم، شخصية شبحية، مجهولة، تطبخ له ما سماه ” الطعام الغريب ” طعام الأفعي تومبورا وحلوي اليسروع – ؟؟؟ ” حشرة تشبه دودة القز إذا لم تكن هي.. المترجم ” انه لا يريد أن يتناول الطعام، ولكن في عالم الأحلام يشعر أنه مرغم علي تناوله. إنه يستيقظ قبل أن يلدغ. وفي يومنا الثاني جلسنا معا في المقعد الخلفي في سيارته وراحت تقودها إحدي مساعداته . وكانت امرأة تقليدية شابة أصغر من اومامي، قادت السيارة باتجاه طوكيو حيث منزله وعبر الطريق السريع الذي لاقت فيه اومامي حتفها في رواية 1Q84″”. كانت ثمة أغنية تنبعث من جهاز الراديو اسمها ” Old Dan Tucker وهي قطعة كلاسيكية سوريالية أميركية غامضة. وكان اولد مان توكر رجل عجوز جميل. ويغسل وجهه بمغلاة، يمشط شعر رأسه بمشط مستدير، مات بألم الأسنان.
وحين إنطلقت بنا السيارة، أشَر موراكامي إلي مخارج الطوارئ التي كانت في مخيلته حينما كتب المشهد الأول من الرواية.”كان ملتصقا هنا، عند مرورنا في الشارع، قال، بالضبط كما أومامي، عندما خطرت في بالي الفكرة.”وبعد ذلك، شرع بمهمة وجودية معقَدة: وحاول أن يحدد بدقة، بدقة متناهية، في الطرق السريعة الطبيعية، وفي النقطة الخيالية الروائية التي بدأت اومامي تنحدر إليها إلي العالم الجديد. ” كانت قادمة من يوغا إلي شيبويا ” قال، أنظر من نافذة السيارة. ” وهكذا، فإنها من المحتمل أن تكون هنا تماما. ” ثم التفت إليَ وأضاف،، كما لو أنها تتذكر كلانا: ” ولكن هذا ليس صحيحا.” مازال ينظر من النافذة إلي الوراء واستمر كما لو أنه يصف شيئا قد حدث فعلا. ” نعم ” قال، مؤشرا: هذا هو المكان الذي سقطت فيه. ” كنا نجتاز بناية يطلق عليها كاروت تاور، ليست بعيدة عن ناطحة سحاب كما لو أنها عملاق لولبي ملتصق بها. التفت إليَ وقال، وكما لو أنَ الفكرة حدثت له مرة أخري.” ولكن هذا ليس صحيحا.”

قلب طوكيو
ورواية موراكامي تملك طريقة خاصة في رشح الواقعية. وخلال أيامي الخمسة في اليابان، وجدت نفسي أقلَ ارتياحا في قلب طوكيو الحقيقية أكثر مما كنت فيها في طوكيو موراكامي – فإنَ المدينة الحقيقية ترشح من خلال عدسات أعماله الخيالية. وأنفقت وقتا في ذلك العالم قدر الإمكان. وذهبت إلي مشاهدة لعبة البيسبول في ملعب جنكو – موقع ظهور موراكامي – ووقفت في أعلي شدة الاهتياج في المدارج المكشوفة، مركزا انتباهي في كل الوقت علي لاعب يسدد الكرة مرتين.”واقرب مكان حصلت علي ظهوري فيه هو حينما صرخت وانزلقت حبة فاصوليا إلي حنجرتي وكادت أن تسبب لي إختناقا “وجريت إلي الإمام باتجاه الطريق المفضل لدي موراكامي الذي كان يجري فيه في طوكيو والذي كان يصغي فيه إلي موسيقي الركض المفضلة لديه التي كان يطلق عليها ” عاطفة للشيطان ” ” Sympathy for the Devil” ” والي موسيقي ألبوم الزاحفة Reptile” “. ل Eric Clapton، البوم 2001، ويقع الفندق الذي أنزل فيه قرب محطة شنجوكو محور وسائط النقل حيث أرضية رواية 1Q84″” وهناك تناولت شرب القهوة وسندويجأ منكَهأ بذائقة الكاري وهو المكان المفضل الذي كانت تلتقي فيه شخصيات الرواية في مقهي ناكامورايا، وفي منتصف الليل ذهبت إلي ديني – مشهد استهلال رواية موراكامي ” بعد الظلام ” ” After Dark”- لأسترق السمع للطوكيويين الذين يبيعون الخبز الفرنسي المحمص والشاي. وكنت مفرط الحساسية، وحينما كنت أتجول، في أشياء روايات موراكامي كنت أيضا مفرط في الاستماع إلي الموسيقي المحلية، في الصعود والهبوط، وأشكال آذان الناس.
وفي كل هذا كنت مرتبطا عبر خط رحلات موراكامي. وكانت دور النشر تطبع كتب الطهي التي تعتمد علي وجبات الطعام الموصوفة في رواياته وثمة طوابير لا نهاية لها للإستماع إلي أنواع الموسيقي التي كانت شخصيات رواياته تستمع إليها. وقد أخبرني موراكامي، وبمرح واضح، علي تعابيره، أنَ ثمة شركة في كوريا قد نظمت جولة لمجموعات سياحية غربي اليابان عن رواية ” كافكا علي الشاطيء ” وان مترجمه البولوني وضع معها ثيمة دليل سفر لرواية ” 1Q84″ في طوكيو.
أحيانا تعبر السياحة حدودا ميتافيزيقية. وأحيانا يسمع موراكامي من القراء الذين ” اكتشفوا ” اختراعاته في العالم الواقعي، مثل: المطعم، والمحل الذي يعتقدون انه صنعهما، و قرروا أن يؤسسوا مثل تلك الاختراعات في طوكيو. وفي سابورتو ثمة الآن فنادق دولفينية مزدوجة – وهي مؤسسة ابتكرها موراكامي في “مطاردة الخراف البرية ” AWild Sheep Chase” ” و بعد طبع رواية 1Q84″” إستلم موراكامي رسالة من عائلة لقبها ” اومامي ” الإسم غير المتوقع أبدا”تذكًر بحبَة البازلاء الخضراء “فقد إعتقد أنَه قد ابتكره كشخصية. وأرسل إلي تلك العائلة نسخة موقعة من الرواية. ويعدَ هذا تطورا مفاجئا لكل الأحداث – الرواية ترشح بالواقعية والواقعية ترشح بالرواية – وما احتوته معظم روايات موراكامي”ومن ضمنها بشكل خاص رواية “1Q84″ التي تدور حول هذه الشخصية. فموراكامي دائما ما ينقلنا برحلات مكوكية بين العوالم.
وهذا يستحضر فعل الترجمة – والقيام بعملية مكوكية من عالم إلي آخر – وهي بحد ذاتها تمثل طرقا كثيرة للوصول إلي مفاتيح فهم عمل موراكامي – وأتذكر بإستمرار نكران تأثره بالكتَاب اليابانيين، حين تحدَث، عن سيرته الأدبية مبكرا، عن الهروب من ” من لعنة اليابانيين.” وبدلا من ذلك، صاغ مشاعره منذ صباه ما يسمي بالقراءة الاستيعابية للروائيين الغربيين الكلاسيكيين.”دستويفسكي، وستندال، وديكنز “وبشكل خاص لمجموعة من كتاب أمريكا القرن العشرين الذين راح يقرأهم ويقرأهم طيلة حياته – ريموند شاندلر، ترومان كابوت، ف. سكوت فيتزيجيرالد، وريتشارد بروتيغان، وكوت فونيغوت. حينما جلس موراكامي وكتب روايته الأولي، كان يصارع حتي وصل في صراعه إلي حل ما يسمي لا إرثودوكسي: إَنه كتب الرواية بلغة انجليزية منفتحة، ومن ثم ترجمها إلي اليابانية. وهكذا، كما يقول، كيف وجد صوته. أعلمني جي روبن، Jay Rubn مترجم موراكامي القديم ، أَنه يحمل صفات يابانية موراكامي المتميزة التي طالما ما تكون مقروءة، كما لو أَنها قد ترجمت عن الانجليزية.

حبكة موراكامي
ويمكننا القول إنَ الترجمة هي قاعدة نظام عمل موراكامي من حيث المبدأ: ذلك انَ قصصه ليست مترجمة حسب، ولكنها عن الترجمة. ومن الممتع أنَ حبكة موراكامي هي مراقبة الوضع العادي جدا”إرتقاء المصعد، غلي السباغاتي، كوي قميص “ثم تحولت فجأة إلي حالة إستثنائية”نداء هاتف غامض، رحلة سحرية، حديث مع شخصية رواية مطاردة الخراف”- وبمعني آخر، مشاهدة شخصية، تسقط من موقع تدفق وجودي إلي شيء آخر غريب تماما، ومن ثم يضطر إلي توازن نفسه، بصعوبة، وغرابة بين ثنائيتين واقعيتين. بمعني آخر، ان شخصية موراكامي غالبا ما تكون مترجمة بين عوالم مختلفة: دنيوي وشاذ، طبيعي وفوق طبيعي، الريف والمدينة، بين الرجل والمرأة. وإنَ آثاره الفنية بمعني آخر أيضا، هو فعل الترجمة الدراماتيكية . وعدنا إلي المقعد الخلفي في سيارة موراكامي، تركنا طوكيو ودخلنا ضواحيها. اجتزنا مقرات شركات عديدة، فضلا عن فندق الحب الذي يشبه شكل زورق عملاق. وبعد ساعة أو هكذا، تبدي لنا شكل منظره يتكثَف ويتصاعد، ثم وصلنا منزل موراكامي، كان منزلا جميلا، لكنه منزل عاد – ويبدو أنَه مؤلف من طابقين تغطيه بعض النباتات المتسلقة، تجاوره تلة تقع بين الجبل والبحر.
إستبدلت حذائي بخف، قادني موراكامي إلي مكتبه في الطابق الثاني – وهو عبارة عن صومعة، كتب فيها معظم رواية ” 1Q84″. وانضمت إلي مجموعاته الموسيقية الهائلة التي يحتويها منزله،”وقد خمنها بما يقارب العشرة آلاف قطعة موسيقية، لكنه قال، إنَه من الصعوبة بمكان أن يحصي عددها بدقة.”يحتوي مكتبه علي جدارين طويلين مغطَيين من أسفلهما حتي سقفهما بألبومات، مغلفة بمادة بلاستيكية رقيقة. تقع الرئيسيات منها في أعلي نهاية الغرفة، تحت الردفات العليا للشبابيك التي تطل علي الجبال، ثمة سماعتان كبيرتان. أما الرفوف الأخري فتحتوي علي مذكَرات موراكامي في الحياة والعمل: ثمة قنينة زجاجية عليها صورة جوني ووكر، وهي أيقونة الويسكي التي تعيد إليه ذاكرته للوغد القاتل في رواية ” كافكا علي الشاطئ ” وتمثل صورته الشخصية a photo of himself التي تبدو بائسة بعض الشيء حينما كان ينهي جريه الماراثوني”1991، نيويورك ستي، 3:31:27″وعلي الجدران نجد صورة ريموند كارفر، وملصق ل غلين غلود، وبعض اللوحات الصغيرة لشخصيات عازفة موسيقي الجاز المهمة، والموسيقي ستان غيتز المفضل لدي موراكامي في كل الأوقات، والعازف علي آلة السكسفون الصادحة.
طلبت منه إن كان بإمكاننا الاستماع إلي إحدي المقطوعات الموسيقية، وسرعان ما وضع موراكامي معزوفة ” سنفونيتا ” لجاناسيك Janacek ، أخذت ترفس، بعدها راحت تتوقف لفترات، اخبرني موراكامي أنه اختار سنفونيتا تماما لغرابتها. ” إذ ذات مرة سمعتها في إحدي قاعات الكونشرتو ” قال لي. ” كان ثمة خمسة عشر عازف بوق خلف الاوركسترا. غريب جدا…. وإنَ هذه الغرابة تناسب تماما هذه الرواية. لا أستطيع أن أتخيل أي نوع من الموسيقي يناسب هذه القصة تماما.” قال، كنت أصغي إلي الموسيقي، أكثر فأكثر، وأنا أكتب المشهد الافتتاحي. إخترت” سنفونيتا ” لأنها لم تكن موسيقي شعبية أبدا. ولكن بعد طبع الرواية، تحولت الموسيقي إلي موسيقي شعبية في اليابان…. وقد شكرني السيد سيجي اوزاوا. لأنَ تسجيله حقق مبيعا جيدا.
حينما انتهت ” سنفونيتا ” سألته إن كان يتذكر أول تسجيل قد باعه. وقف، راح يبحث في أحد الرفوف، قدمه لي، لأتفحصه، ” الجوانب المتعددة لجيني بتني.” وصورة بتني علي الشريط كانت ساحرة، ترنيمة أميركية لستينيات القرن الماضي، كان يرتدي رباطا عريضا منقطا، وسترة جلدية حمراء اللون. كان شعر رأسه يبدو مثل موجة عرف ديك تجمدت في مكانها. قال موراكامي، إنَه اشتري الشريط في كوب Kope، حينما كان في الثالثة عشرة من عمره.”وهذه نسخة مستبدلة، ولا تختلف عن النسخة الأصلية قبل عشر سنوات “أنزل إبرة التسجيل وانطلق صوت بتني لأغنية ” مدينة بدون رحمة ” Pity” Town Without ” صوت دراماتيكي، ينساب من خلال بوق مليء بالإغواء عبر أصوات بتني الشاب الذي يحب ترنيمة صرخة نبوئية تستغيث ” كان الشاب يعاني من مشكلة أننا بحاجة لقلوب تفهم / لماذا لا يساعدوننا أو يحاولون مساعدتنا / قبل أن يتشظي عالم الطين والغرانت.
رفع موراكامي ابره التسجيل حالما انتهت الأغنية. وقال، ” أغنية سخيفة ”
إنَ عنوان رواية “1Q84″ عبارة عن نكتة، إشارة لأورويل لتلك المفاصل في تورية تعدد اللغات”ففي اليابان يلفظ Qكما يلفظ رقم9. وبهذا يستقيم العنوان مطابقا تماما لرواية أورويل 1984″.
سألته إن كان قد أعاد قراءة رواية 1984حينما كان يكتب روايته 1Q84″” ردَ، نعم، كانت رواية مملة. لكنها ليست سيئة، في هذه الاثناء سألته لماذا يحب لعبة البيسبول، أجاب ” لأنها مملة أيضا ”
و اخبرني، أنَ معظم الروايات في المستقبل القريب ستكون مملة هي الأخري ” ستكون دائما معتمة، ودائما ما ستكون ماطرة، وسيكون الناس تعساء. وأحب ما قد كتبه كورمك ماكارثي في رواية ” الطريق ” – – إنها رواية رائعة جدا…. لكنها مازالت تثير السأم. إنها رواية معتمة، والناس فيها يأكلون الناس…. ورواية جورج اورويل 1984، هي رواية المستقبل القريب، لكنها رواية الماضي القريب أيضا، قال هذا عن رواية ” 1Q84′” إننا ننظر إلي السنة نفسها ولكن من الجانب المضاد. إذا كان الماضي القريب غير ممل ”
سألته إن كانت له قرابة مع اورويل. “وقد خمنت أنَ كلانا يملك مشاعر مشتركة ضد النظام ” قال موراكامي. ثم أردف ” إنَ جورج أورويل هو نصف صحفي، ونصفه الآخر روائي. لكنني روائي مائة في المائة…. لا أميل إلي كتابة الرسائل. أريد أن أكتب قصصا جيدة. اعتقد أنَ في داخلي رجل سياسي، ولكنني لا أسيس رسائلي لأي شخص. ”
كلمات الاحتفاء
وحتي ألان، بقي موراكامي، شخصية غير مميزة، بيد أنَه حدد رسائله السياسية بصوت عال خلال السنوات القليلة الماضية , ففي عام 2009 قام بزيارة مثيرة للجدل إلي إسرائيل ليقبل جائزة القدس واستغل هذه المناسبة ليتحدث بصوت عال إلي الإسرائيليين والفلسطينيين معا، To Speak out about Israel and Palestine، وفي هذا الصيف، إستخدم كلمات الاحتفاء مجاملة في برشلونة كمنصة لينتقد صناعة المفاعل النووي الياباني. وقد وصف فوكوشيما داييشي أنَه الكارثة النووية الثانية في تاريخ اليابان، ولكن الأولي كانت تماما ذاتية الإنزال.
وحينما سألته عن خطابه في برشلونة Barcelona speech his حوَر جوابه بخفة إلي نسبة مئوية .
” إنني كاتب رواية 99بالمائة و1بالمائة مواطن، قال، ” كمواطن لدي أشياء أقولها، وحينما أقولها، أقولها بوضوح. في هذا الموضوع، لا أحد يقول لا ضد المفاعل النووية. وهكذا فأنا أعتقد أنه يجب أن أقف ضدها. وهذه مسؤوليتي . وقال إنَ الإجابة علي خطابه كانت في الغالب أيجابية، الناس في اليابان يتأملون – كما يتأمل هو ، من رعب تسونامي أن يكون محفزا للإصلاح. أعتقد أنَ كثيرا من اليابانيين يعتقدون أَنه نقطة تحول في بلدنا , وأردف، كان تسونامي كابوسا، لكن مازالت فرصة للتغيير. فبعد عام 1945، بذلنا جهودا مضاعفة تحولنا فيها إلي أغنياء. لكن ذلك النوع من الشيء لا يمكن أن يستمر علي كل حال. كان يجب أن نغير قيمنا. ويجب أن نفكر كيف نتحول إلي سعداء. ليس أن نملك الأموال . وليس أن نملك الكفاية الذاتية. حول النظام والهدف. ما أريد قوله هو ما قلته منذ عام 1968، يجب أن نغير النظام، واعتقد أنَ الوقت قد حان كي نكون مثاليين idealistic مرة أخري.
سألته ما هي المثالية التي يتحدث عنها هنا، وربما يري فيها الولايات المتحدة الأميركية نموذجا. ” لا أعتقد أنَ الشعب يفكر في أميركا كنموذج له علي كل حال. كما ليس لدينا أي نموذج حتي الآن. يجب علينا أن نؤسس نموذجنا الجديد. ”
إن الكوارث التي مر بها اليابان الحديث – تسرب غاز السارين، الهزَة الأرضية في كوب، والآن تسونامي – هي امتداد مذهل، لكوارث موراكامي: نوبات العنف تحت الأنفاق، والتجارب العميقة غير المرئية التي تظهر نفسها كتدمير جماعي في الحياة اليومية علي السطح. إنَه موسوس بهواجس الاستعارات البليغة: هبوط الشخصيات نحو الآبار السحيقة، لدخول العوالم السريَة، أو مواجهة المخلوقات الظلامية تحت أنفاق طوكيو السريعة.”وذات مرة أخبرني عن مقابلة قرر فيها أن يوقف استخدام الصورة المجازية، بعد صدور روايته الثامنة، لأن تكرارها بدأ يحرجه “أنه يتخيل إبداعه من زاوية عميقة. في صباح كل يوم يجلس علي منضدته خلال نوبته المكثفة كليا، يتحول موراكامي إلي موراكامي الشخصية: رجل عاد يحفر في أغوار كهوفه وكهوف إبداعه اللاشعوري و ويسرد بصدق ما قد اكتشفه. اخبرني أيضا، ” أنا أعيش في طوكيو ” ” كإنسان في عالم متحضر – مثل نيويورك او لوس انجلز أو لندن أو باريس. فإذا أردت أن تجد موقفا سحريا، شيئا سحريا، عليك الغوص عميقا داخل ذاتك. وهذا ما أفعله أنا. الناس يقولون إنها واقعية سحرية – ولكن في داخل أعماق روحي، هي واقعية جدا حسب، تماما واقعية ومعقولة.
ويؤكد موراكامي أَنه، حينما لا يمارس الكتابة، فإَنه يتحول تماما إلي إنسان عاد – ويقول إنَ إبداعه هو ” صندوق أسود ” لا يمكن للوعي القدرة علي النفاد إليه. وإنه يشعر بالخجل ويبتعد عن وسائل الإعلام لكنه دائما ما يندهش حينما يريد قارئا أن يصافحه في الشارع. ويقول إَنه يفضل كثيرا أن يصغي إلي حديث الآخرين – وفي الحقيقة، وبعد هجوم غاز السيرين عام 1995، أنفق موراكامي سنة كاملة في إجراء مقابلات مع 65ضحية ومع مسببيها ونشر نتائجها في كتاب ضخم يتكون من جزئين، و ترجم إلي الانجليزية، ثم اختزل تحت اسم أنفاق القطارات. Underground” “.
في نهاية وقتنا الذي أنفقناه معا، إقتادني موراكامي لرياضة الركض،””أغلب ما أعرف إنشغاله هو الكتابة، ” فقد كتب، ” إنني أتعلَم من خلال رياضة الركض كل يوم أشياء كثيرة.””وأسلوب جريه يشكل إمتدادا لشخصيته: سهلة، ومتوازنة، وحقيقية. وبعد دقيقة أو دقيقتين، وجدنا خطواتنا مشتركة، سأل موراكامي، إن كنت أرغب القيام بشيء ما، حينما أشار لي بيده إلي تلَة , والطريقة التي قالها بدت لي كما لو أَنه يريد التحدي، والتحذير. فهمت نغمته، وسرعان ما تسلقنا تلك التلَة- ليس جريا تماما لكن شيئا ما يشبه الترنح في مكان واحد لخطورة الإنحدار. وحين تقدمنا بضعة أقدام بإتجاه نهاية الطريق، التفت إليَ موراكامي وسألته، ” كانت تلك تلَة كبيرة” وفي هذه الأثناء خمَن موراكامي المسافة ليشير بذلك إلي أننا وصلنا فقط بداية خطوط سكك حديد متعرجة. وبعد فترة، بينما نحن نلهث بدأنا نشعر بالإرهاق، أكثر فأكثر، وبدأت أتساءل، بتشاؤم، إن كانت هذه الطرق المتعرجة لا نهاية لها، إذا دخلنا بعض عوالم مصاعد موراكامي اللانهائية: صعود، صعود، صعود. ولكن، بعد ذلك، وصلنا القمة. واستطعنا أن نري البحر أسفلنا: مسطح مائي عالمي سري هائل، يتموضع كليا ولكنه غير مسكون، يمتد بين اليابان والولايات المتحدة. يبدو سطحه هادئا، في المكان الذي وقفنا فيه، في ذلك اليوم.
وشرعنا بالجري مرة أخري نحو الأسفل، قادني موراكامي باتجاه قريته، واجتزنا المحلات علي الشوارع الرئيسية، كما اجتزنا صفوفا من بيوت الصيادين” وقد أوضح لي أن هذا هو” حرم الصيادين ” التقليدي في إحدي القاعات “وكان الهواء يهب علينا رطبا لفترة وشعرنا بملوحة اجسادنا ونحن نجري بطريقة متوازية علي الشاطئ. تحدثنا عن جون آرفنغ John Irving الذي كان ذات مرة يمشي معه عندما كان الأخير شابا في البارك سنترال، وهو مترجم غير معروف. وتحدثنا عن زيز الحصاد: ومن الغريب أن يعيش لسنوات عديدة في محطة الأنفاق، وكي يظهر للعيان، راح يئز ويصارع مصيره، للخروج إلي سطح الأنفاق حيث ثمة أشجار ليعيش بضعة اشهر عليها. وتذكرت بشكل أساس إيقاعات أقدام ميروكامي.
وبعد هذا الجري، كانت لنا عودة للمنزل، وقد استحممت وغيرت ملابسي في حمام ضيوف موراكامي. وانتظرت أن ينزل من الطابق الأعلي، وقفت أمام الهواء المكيَف في غرفة الاستقبال وتطلَعت إلي صورة من خلال شباك الحديقة الخلفية المليئة بالأعشاب، والشجيرات.
وبعد دقائق قليلة، صفق مخلوق غريب بجناحيه أمامي في الحديقة. يبدو من الوهلة الأولي أنَه يشبه طيرا – طائر طنَان ذو شعر كثيف، انه يحوم ربما حول مكان كي يستقر فيه. ولكن بعد هنيهة بدأ ليبدو طيرين ملتصقين بعضهم البعض: راح يتهادي أكثر مما لو أنَه يريد الطيران، راحت جناحيه تخفقان أكثر مما يحلقان. وفي نهاية الأمر أدركت، أنَ هذا لم يكن أكثر من فراشة سوداء كبيرة، وهي أغرب فراشة رأيتها في حياتي، كانت تطفو هناك، تتلوي مثل سمكة غريبة، كانت طويلة إلي حد أثارت الرعب في نفسي – لم أنجح في محاولتي لمعرفة مثل هذا المخلوق بنجاح لتصنيف نوعه عن المخلوقات الأخري. وبعد ذلك طار، يتذبذب، في أسفل الجبل باتجاه المحيط، متقفيا الطريق الذي كنت وموراكامي نركض فيه.
وبعد لحظات من مغادرة الفراشة، هبط موراكامي سلالم السلم، وجلس بهدوء، إلي منضدة كتابته. أخبرته أنني رأيت فراشة غريبة لم أشاهد مثلها في حياتي. إرتشف ماءا من عبوة بلاستيكة، ثم نظر إليَ.” يوجد الكثير من الفراشات في اليابان ” وقال، ” ليس غريبا أن تري فراشة في اليابان “.
نيويورك تايمز21 أكتوبر 2011