18 ديسمبر، 2024 10:19 م

التجليً يهبط على هاروكي موراكامي ويحوَله إلى روائي ..

التجليً يهبط على هاروكي موراكامي ويحوَله إلى روائي ..

كتابة . آدم ستيرنبيرغ
وضَبت أوَل سفرة لي لليابان ، لهذا الصيف ، في الغالب ، كنت مستغرقا تماما في دراسة أعمال هاروكي موراكامي Haruki Murakami. ثم تحولت إلى فكرة فظيعة . وتحت تأثير موراكامي ، وصلت طوكيو متوقعا إيَاها كما برشلونة أوباريس أوبرلين – عاصمة للعالم الكوني التي يتكلم مواطنوها بطلاقة ليس الإنجليزية حسب ؛ بل أيضا هم مطلعون على الأركان والزوايا المظلمة للثقافة الغربية : موسيقى الجاز ، والمسرح ، والأدب ، والوضع الكوميدي ، والسينما ، والأوبرا ، والروك أندرول . لكن هذا ، كما هو في الواقع ، بإمكان أيَ إنسان آخر في العالم أن يخبرك به ، لأنَ اليابان لا يشبه أيً بلد آخر– في واقعيته وطبيعته وسياحته – إذ تحول اليابانيون بكثافة ومرونة لا يمكن تبريرها .
وصعقتني أنفاق قطارات تحت الأرض تماما ، في صباحي الأو ل في طوكيو ، هبطت في أحد تلك الأنفاق ، متجها إلى مكتب موراكامي تملؤني الثقة التامة ، مرتديا قميصا جديدا ومكويَا – بيد أنني فقدت طريقي فجأة ، ولم أجد من يتكلم الانجليزية ليرشدني إليه في لحظتها. وأخيرا ، ( فقد فاتتني القطارات بعد إبتياعي وبسخاء تذكرة في الاتجاه الخطأ وبقيت أحدق بشراسة في وجوه الركاب .) وانتهى بي المطاف إلى سطح الأنفاق في وسط المدينة ، وقد تأخرت كثيرا عن موعد مقابلتي مع موراكامي ، بعد ذلك شرعت في التجوال دون هدف معين يلفني الإحباط ، وسط كل الاتجاهات الخطأ ( إذ ثمة إشارات طرق قليلة يبدو قد تحوَرت في طوكيو . ) إلى أن جاءني مساعد موراكامي ورآني جالسا على دكَة أمام هرم زجاجي لتربية النحل الذي بدا لي في لحظة يأسي يشبه معبد مشؤوم لطائفة عبادة الموت .
وهكذا عمًدتني أنفاق تحت الأرض . وكنت دائما ما أنتحل – وبسذاجة ، إسما أميركيا – ذلك أنَ موراكامي ممثلا أمينا لثقافة اليابان الحديثة ، وعلى الأقل في مزاجه الواقعي جدا . وأصبح من الواضح جدا، بالنسبة لي هنا ، على كل حال ، أنَه كان يختلف عن الكاتب الذي حملته في مخيَلتي ، كما أنَ اليابان مكان مختلف هو الآخر– والعلاقة بين الإثنين هي أكثر تعقيدا من أيً وقت مضى كنت فيه قد خمنَت ما نقلته لنا الترجمة .
والبطل الرئيس في رواية موراكامي ” 1Q84″ ، كان قد عذَبته ذكرياته الأولى إلى حد راح فيه يسأل أيَ شخص يلتقيه عن تلك الذكريات ، وحينما قابلت أخيرا ، موراكامي ، في مكتبه في طوكيو ، سألته عن أول ذكريات له ، حينما كان في الثالثة من عمره ، قال لي ، كان قد استطاع أن يمشي نحو عتبة دار بيته دون مرافقة أحد من إسرته. راح يترنح عبر الطريق ، ثم تعثر ووقع في جدول . واستطاعت المياه أن تجرفه إلى مصب مائي باتجاه نفق مظلم رهيب ، وفي اللحظة التي أراد أن يدخل ذلك المصب وصلت أمه إليه وأنقذته . ” أتذَكر ذلك بوضوح ” وأردف ، ” لن أنسى أبدا برودة الماء وظلام النفق — وشكل الظلام . كان شيئا مخيفا . وهذا هو السبب الذي يجذبني نحو الظلام ” وحينما كان موراكامي يصف هذه الحادثة ، شعرت باهتزاز داخلي غريب ، لم يكن بمقدوري تحديد المكان الذي أقف عليه – إنتابني شعور كما لو أنني أريد العطاس . وقد إنذهلت كما لو أنني شاهدت تلك الحادثة من قبل ، أو شيئا مخيفا كنت بطريقة ما أتذكر واقعة حدثت لي ، مباشرة . وبعد وقت طويل أدركت أنني كنت ، في الواقع ، أتذكر تلك الواقعة : إنَ موراكامي قد وظف واقعته هذه في إحدى شخصياته الثانوية حينما شرع بكتابة Wind- Up Bird Chronicle” The”
كانت تلك زيارتي الأولى إلى موراكامي ذات صباح حار رطب ، في منتصف الأسبوع ، وفي منتصف صيف صعب في اليابان — صيف أنفقته في محاولة للتعامل معه هنا بواقعية ، وعلى ما يبدو، عقب كارثة غير طبيعية . إذ ضرب تسونامي الساحل الشمالي قبل أربعة اشهر ، وتسبب في قتل عشرين ألف إنسان ، ودمر مدنا بأكملها ، كما تسبب في انهيار وذوبان جزء من مفاعل نووية ، وإغراق البلد في معضلات متزامنة . الطاقة ، والصحة العامة ، والأعلام ، والسياسة .( وقدم رئيس الوزراء نتيجة ذلك إستقالته من منصبه ) . و تحدثت مع موراكامي ، الروائي الياباني البارز ، عن ترجمة روايته 1Q84 الضخمة إلى الانجليزية ( وكذلك إلى الفرنسية والاسبانية والتايلندية والعبرية واللاتوانية والبرتغالية والسويدية والجيكية ) — الرواية تباع حاليا بملايين النسخ في آسيا. وثمة حديث عام جدي يدور على السنة الناس المتحدثين بمعظم اللغات الأخرى عن جائزة نوبل لهذه الرواية رغم إنهم لم يحصلوا على نسخة منها, وفي عمر الثانية والستين ، وبعد ثلاثة عقود من سيرته الأدبية ، إستطاع موراكامي أن ينال جوائز أدبية من مؤسسات غير رسمية في اليابان – ودون جدل فهو سفير المخيال الرئيس ، في أي وسط ناقل ، للعالم : المصدر الاول، لملايين القراء ، لنص وشكل مواطني بلده .
وهذا دون شك ، إدهاش عظيم لأي إنسان له علاقة بالأدب .
إنَ موراكامي دائما ما يعد نفسه خارج عن بلده . فقد ولد في أغرب البيئات السيسيوبوليتيكية sociopolitical في التاريخ : في كيوتو سنة 1949– العاصمة الامبريالية القديمة لليابان بعد غزو الولايات المتحدة الأميركية لها في منتصف الحرب . ” إنَه من الصعوبة بمكان أن نجد لحظة تزاوج ثقافية أخرى ، ” فقد كتب المؤرخ جون دبليو داور John W.Dower ، عن اليابان في أواخر أربعينياته ” إنَه أكثر كثافة ، لا يمكن التنبؤ ، بالغموض ، والإضطراب ، أكثر من اليابان الحاضر .” والبديل ، هو ” الرواية ” في ” اللحظة ” في تلك الجملة تجد الوصف الكامل لأعمال موراكامي . البناء الأساس في قصصه – الحياة العادية – بين عوالمه التي لا يمكن تحملها – وهو أيضا البناء الأساس لتجربته الحياتية الأولى .
ترعرع ، موراكامي في الغالب ، في ضواحي تحيط كوبي Kobe ، وهي مطار دولي محاط بضجيج لغات عدَة . حينما كان في سن الرشد إنهمك في قراءة الأدب الاميركي ، وبخاصة الروايات البوليسية الساخنة جدا ، فضلا عن موسيقى الجاز . واندمج في أجوائها التمردية المعتدلة ، وفي مستهل عشرينيات عمره ، وبدلا من الإنضمام إلى مراتب شركة عملاقة ، أطلق موراكامي لحيته وأطال شعر رأسه ، وتزوج ضد رغبة والديه ، حصل على قرض مالي وفتح فيه ناد للجاز في طوكيو أطلق عليه اسم بيتر كات Peter Cat . وأنفق ما يقارب العشر سنوات إستنزفته في عمليات النادي يوما بيوم : يندفع ، لسماع الموسيقى ، وهو يقدم السندويجات وأنواع المشروبات للزبائن ليلا . وحياته الأدبية ككاتب بدأ موراكامي بالأسلوب الكلاسيكي . في اللامكان ، في اغلب الخلفيات العادية الممكنة ، وفجأة نزلت عليه الحقيقة الصوفية وغيَرت حياته جذريا . ففي التاسعة والعشرين من عمره كان يجلس خارج مجال ملعبه الرياضي لكرة البيسبول ، يكرع قناني البيرة – حينما ضرب مزارع أميركي اسمه ديف هلتون الكرة – إصطدمت موراكامي مرتين ، وحينما حلقت الكرة إلى الأعلى في الهواء ، تهاوت على رأسه . إنتابه عندها فجأة تجلٌ دفعه لكتابة رواية . لم يخامره هذا الشعور برغبة شديدة مثلها في السابق أبدا، لكنها الآن رغبة غامرة . وهكذا شرع : ذهب الى مخزن الكتب ، وابتاع قلما وكمية من الورق ولم تمض بضعة اشهر حتى أنتج – ” أسمع الرياح تغني ” Hear the Wind Sing ” وكانت رواية قصيرة موجزة ، لكاتب مغمور يبلغ من العمر إحدى وعشرين عاما ، له صديق يسمى رات ذو الأصابع الأربعة . لم يحدث أكثر من هذا ، بيد أنَ صوت موراكامي كان هناك منذ البداية : حياة يلفها السأم والتغريب . وفي القصة ذات ال130 صفحة بالتمام والكمال ، استطاعت أن تشير إلى تزاوج مفردات الثقافة الغربية :” ليسي ” و ” وناي ميكي ماوس ” و” قطة على سطح صفيح ساخن ” و ” فتيات كاليفورنيا ” وكونشرتو بيانو الثالثة لبتهوفن “والمخرج الفرنسي روجر فاديم ، وبوب ديلون وبوب غايي وألفس برسلي وطائر الكارتون وودستوك ، وسام بيكنباه ، وبيتر بارشل لست ، وهذا قليل من كثير، إحتواه هذا الكتاب ” على الأقل في ترجمته الانجليزية .) ليس أكثر من إشارة قصيرة الى العمل الفني الياباني أكثر من الحجم المتوسط . والنزعة في النقطة العالقة في عمل موراكامي لبعض النقاد اليابانيين في عصرنا الحالي .
قدم موراكامي روايته ” أسمع غناء الريح ” من اجل الحصول على جائزة إعتبارية وقد فاز بها كأول جائزة . وبعد عام آخر كانت رواية أخرى – تحمل ملامح آلة الدبابيس الحساسة – ثم باع نادي موسيقى الجاز الذي يملكه كي يكرس نفسه ووقته للكتابة .
و ” التفرغ التام ” يعني بالنسبة لموراكامي شيئا مختلفا عما يعنيه لدى الآخرين . ومنذ ثلاثين عاما ، وهو يعيش حياة رهبنة صارمة ، ففي كل جانب منها قد هندسها بدقة متناهية لتساعده على إنتاج عمله الأدبي . إنه يركض أو يسبح طويلا بين مسافات طويلة في كل يوم في الغالب ، ويتبع نظاما غذائيا لأغراض الحمية ، يذهب إلى فراش نومه الساعة التاسعة ليلا ويستيقظ الرابعة فجرا ، دون منبه له – في هذه اللحظة يذهب مباشرة إلى مكتبه يمارس الكتابة المركَزة لمدة خمس أو ست ساعات .( وأحيانا يستيقظ مبكرا الساعة الثانية ليلا .) إنَه يفكر في مكتبه ، أخبرني إنَه مكان للولادة – “بيد أنها ولادة طوعية ، ولادة سعيدة .”
قال :” التركيز واحد من أسعد الأشياء في حياتي ،” ” فأنت إذا لم تركز ، فإنك لن تكون سعيدا . فأنا مفكر هاديء . “. إنني مفكر هاديْ غير متسرع ، أنه الشيء الذي يمتعني ، وأمارسه منذ سنوات طويلة . ولم اسأم منه ، هو أنني ابريق كبير . ويستغرقني وقت طويل كي أغلي ، لكنني دائما ما أشعر بالسخونة .
والإغلاء اليومي قد أعطى ثماره ، وأنتج في وقت إضافي ، إنَه إحدى الوسائل المتميزة في العمل : وعبر ثلاثة عقود من الإدمان الغريب الذي أسقطني في حفرة غريبة الأجناس ( الفنطازيا ، والإغلاء الحاد ، والواقعية ) و ثقافة (اليابان ، أميركا ) هوَة لم يكتشفها أي كاتب من قبل أبدا ، أو على الأقل يكتشف إلى أين ينتهي عمقها . وعبر سنين تنزع روايات موراكامي إلى العمق أكثر وجدية أكثر – وتهب كوميديا المآزق ، للقسم الأهم وهو السيمفونية – والآن ، وبعد (تراجع ) أنتج أطول وأهم رواية له .
يتحدث موراكامي اللغة الانجليزية الفصحى ببطء ، وبصوت عميق . وقد اخبرني انه لا يحب الحديث من خلال مترجم . لهجته قوية – ترتفع إيقاعات الصوت دراماتيكيا أو تهبط فجأة تماما حينما أتوقع توازنها – ومن النادر حتى الآن ، أن حدث سوء فهم في الكلام بيننا . بالتأكيد ثمة لهجة عامية تظهر في كلامه في بعض المواقف الغريبة الطفيفة، مثل ، ( ” أخمن ” ؛ و ” مثل هذا ” ) . وشعرت أنه يستمتع بعناصر لغويته : وهذه لمسة فن ارتجالية في انجليزيته : وجلسنا إلى منضدة في مكتبه في طوكيو ، وثمة مقرات يشير إليها بنصف كلمة ساخرة انها صناعات موراكامي . وحوله يتحلق نصف عدد الموظفين ، حفاة في الغرف الأخرى . يرتدي موراكامي شورتا أزرق وقميصا نصف ردن ، كما يظهر في كثير من شخصياته – غالبا ما يكون مكويَا ( إنَه يحب ملابسه مكويَة ) انه عاري القدمين . ويتناول القهوة السوداء من إبريق كبير يحمل ملامح غلاف بنجوين لرواية رايموند شاندلر ” النوم العميق ” – إحدى أهم الروايات الأدبية التي يحبها موراكامي والتي ترجمها إلى اللغة اليابانية حاليا .
وكما بدأ حديثنا ، وضعت نسخة من رواية 1Q84″” على المنضدة بيننا . وبدا موراكامي حذرا بذكاء . فحجم الرواية 932 صفحة ويبلغ طولها قدما واحدا تقريبا .
وعلَق موراكامي ، انها رواية ضخمة ، انها تشبه دليل الهاتف .

كان ، هذا، يبدو بوضوح ، أنَه الكتاب الأول ، لموراكامي ، في طبعته الأميركية ، الذي ، ينزع إلى مثل هذه التبادلات الثقافية ، والذي كان فيه موراكامي يمزج بين الأصالة وثقافة أخرى . في اليابان ، صدرت رواية 1Q84″” بثلاثة مجلدات منفصلة عن بعضها بعضا خلال سنتين . ( ولكن موراكامي أصدر الرواية بمجلدين ثم قرر بعد سنة ليضيف إليها مئات الصفحات لتكتمل بثلاثة مجلدات – ) وفي الولايات المتحدة الأميركية ، كان حجم الرواية غير طبيعي بوصفها حدث أدبي لخريف هذا العام 2011. بإمكانك أن تتخيَل الكتاب على موقع اليوتوب ، “”. watch a fancy book trailer for it on You Tube ، إذ بقيت مخازن الكتب مفتوحة حتى منتصف الليل بانتظار ليلة صدورها باللغة الإنجليزية في الخامس والعشرين من شهر اكتوبر . وكان كنوف Knof الناشر في عجالة من أمره كي يترجم الكتاب إلى اللغة الانجليزية وقد قسم عمل الترجمة بين مترجمين : وراح كل منهما يعمل على حدة من الآخر .
وقد سألت موراكامي إن كان ينوي أن يكتب مثل هذه الرواية الضخمة . قال ، لا : لو كان يعرف أنَ حجمها سيبلغ هذه الضخامة ، لما قد بدأ بكتابة حرف واحد منها . إنه ينوي الآن أن يكتب قطعة روائية بعنوان فقط أو بصور استهلالية ( أو بكليهما ) ومن بعد ذلك ، يجلس الى منضدته ويرتجلها حتى النهاية . ورواية 1Q84″” قال ، تحملت سجني لمدة ثلاث سنوات كي أنجزها.
وهذا الكتاب العملاق ، على كل حال ، نما من أصغر بذرة ، وحسب موراكامي ، فأنَ رواية 1Q84″” هي إسهاب موسَع لإحدى قصصه القصيرة المشهورة ” رؤية فتاة صارخة الجمال 100 بالمائة ذات صباح نيسانيSeing the 100% perfect girl one beautiful april morning On التي ( كانت تحتوي في طبعتها الانجليزية ) على خمس صفحات . وأساسا ، هي نفس حجم قصة، ” صبي يواجه فتاة “. اللذان انفصلا بعضهما عن بعض فيما بعد وراحا يبحث أحدهما عن الآخر . إنها قصة بسيطة . وأنا وسَعتها حسب . ”
لكن رواية 1Q84″ ” لم تكن في الواقع ، قصة بسيطة ، وربما لم تكن حبكتها قابلة تماما للتلخيص – وعلى الأقل لا يسعها فضاء مجلة . مكتوبة بلغة إنسانية ، وفي هذه الطائرة الحالمة . تبدأ هذه الرحلة مع توقف مميت : إذ ثمة إمرأة شابة إسمها أومامي ( التي تعني ” البازلاء الخضراء ” ) إندهست في حادث سيارة إجرة ، نتيجة إزدحام المرور في أحد الطرق السريعة المرتفعة التي تحيط بضواحي طوكيو . كانت جالسة في سيارة للأجرة تتساب منها أغنية عبر مذياعها : إنَها قطعة كلاسيكية تسمى ال “سنفونيتا ” “Sinfonietta ” تأليف الموسيقار الجيكي سلوفاكي ليوس جاناسيك – ” ربما لم تكن موسيقى مثالية ” كتب ، موراكامي ” نسمعها في سيارات الأجرة هروبا من شدة زحام المرور ” وحتى الآن فانَ لها صدى لمستواها الغامض “، إقترح سائق السيارة أخيرا على أومامي . الهروب من الازدحام غير الطبيعي إلى شارع آخر. فيه سلالم سرية تؤدي إلى شارع أغلب الناس لا يعرفونه . فإذا كانت في عجالة من أمرها حقا ، ربما بإمكانها أن تتسلق إحدى هذه السلالم . وبينما كانت أومامي تفكر في هذا الأمر، إنتبه السائق فجأة إلى ما حذَر منه موراكامي . قال ، ” تذكَر من فضلك ” ” إنَ الأشياء لا تبدو كما هي ، ” وحذَر ، ” إذا هبطت للأسفل فانَ عالمها ربما يتغير تماما وللأبد ”
حاولت ، وحاول القدر ضدَها . ويهبط عالم أومامي نحو الأسفل ، و أمسى تاريخا مختلفا وغامضا ، وهناك أيضا – أقل غموضا – ( الموعد الذي تأخرت عنه ، على فكرة ، تحول الى قاتل . ) وثمة في الرواية أيضا قبيلة تتألف من كائنات بشرية سحرية قصار القامة ، ظهرت ، في أحد المساءات ، من فم ميت ، وعنزة عمياء ، ( قصة طويلة ) وسَعوا أنفسهم من حجم الشرغوف ” فرخ الضفدع ، المترجم ” إلى حجم كلب المروج ، وبعد ذلك ، وبينما كانت أومامي تترنَم ” هوو هوو ” بانسجام مع نفسها ، بدأت نتف خيوط بيضاء شفافة من الخارج تنسج كرة تشبه حبة الفول السوداني تسمى ” خادرة اليرقة ” . وهذا أجمل بكثير من الخط الرئيس للجنون في رواية ” “1Q84، والى منتصفها تقريبا ، شرعت الرواية نفسها بشهوق قمم الارتفاعات ( ساعة السمو في الأعالي ، التوازي السداسي الغامض ) الذي وجدت نفسي فيه أرسم علامات التعجب فوق جميع السطور .
ولعدة عقود من الآن ، بقي موراكامي يتحدث عن انشغاله في كتابة ما يسمى ” الرواية الشمولية “- شيء ما يوازي رواية ” الأخوة كارامازوف ” ” The Brothers Karamazov” ، الحجر الأساس لعمله الفني . ( قرأها أربع مرات ) وهذا يبدو كمحاولة منه مع روايته 1Q84″ ” : تحمل شخصية كبيرة ، شخصية الشخص الثالث الغائب المفرد ، لرواية شاملة ضخمة meganovel . إنها رواية مليئة بالغضب والعنف والكوارث والجنس السحري والواقعية السحرية الغريبة ، الرواية التي تبدو أنها يراد لها أن تحمل كل اليابان في داخلها – والرواية التي بالرغم من عسرها الموسمي ( وربما حتى بسبب ذلك العسر ) تجعلك تقرأها باندهاش ،وان كل ما تنطوي عليه الغربة يحملها عقل إنسان واحد حسب .
وقد أخبرت موراكامي أنني كنت مندهشا لأكتشف ، بعد عدة كتب مدهشة ، أنه استطاع أن يثير دهشتي مرة أخرى . وكالعادة ، فانه لم يحصل على سمعة ، زاعما أنَه كان إناء سئما لمخيلته .
قال ، “وفجأة جاء الناس قصار القامة،” ولا أعرف من هم هؤلاء الناس ” ولا اعرف ما ذا يعني هذا ” فلقد كنت حبيس القصة . إنني لا املك فرصة ، أنهم جاؤوا وقد وصفتهم . وهذا هو عملي .
وسألته ، لمن هذا العمل الذي يشبه الحلم أحيانا ، إن كان هو نفسه الذي أنعش مثل هذه الأحلام . قال لي ، إنَه لن يتذكر هذا أبدا – إنه استيقظ ولا شيء آخر غير هذا مطلقا . والحلم الوحيد الذي يتذكره عبر السنوات الماضية ، هو ، تكرار الكابوس الذي يبدو كثيرا ما يشبه قصة هاروكي موراكامي . ففي الحلم ، شخصية شبحية ، مجهولة ، تطبخ له ما سماه ” الطعام الغريب ” طعام الأفعى تومبورا وحلوى اليسروع – ؟؟؟ ” حشرة تشبه دودة القز إذا لم تكن هي .. المترجم ” انه لا يريد أن يتناول الطعام ، ولكن في عالم الأحلام يشعر أنه مرغم على تناوله . إنه يستيقظ قبل أن يلدغ.
وفي يومنا الثاني جلسنا معا في المقعد الخلفي في سيارته وراحت تقودها إحدى مساعداته . وكانت امرأة تقليدية شابة أصغر من اومامي ، قادت السيارة باتجاه طوكيو حيث منزله وعبر الطريق السريع الذي لاقت فيه اومامي حتفها في رواية 1Q84″” . كانت ثمة أغنية تنبعث من جهاز الراديو اسمها ” Old Dan Tucker وهي قطعة كلاسيكية سوريالية أميركية غامضة . وكان اولد مان توكر رجل عجوز جميل . ويغسل وجهه بمغلاة ، يمشط شعر رأسه بمشط مستدير ، مات بألم الأسنان .
وحين إنطلقت بنا السيارة ، أشَر موراكامي إلى مخارج الطوارئ التي كانت في مخيلته حينما كتب المشهد الأول من الرواية . ( كان ملتصقا هنا ، عند مرورنا في الشارع ، قال ، بالضبط كما أومامي ، عندما خطرت في بالي الفكرة .) وبعد ذلك ، شرع بمهمة وجودية معقَدة : وحاول أن يحدد بدقة ، بدقة متناهية، في الطرق السريعة الطبيعية ، وفي النقطة الخيالية الروائية التي بدأت اومامي تنحدر إليها إلى العالم الجديد . ” كانت قادمة من يوغا إلى شيبويا ” قال ، أنظر من نافذة السيارة . ” وهكذا، فإنها من المحتمل أن تكون هنا تماما . ” ثم التفت إليَ وأضاف ، ، كما لو أنها تتذكر كلانا : ” ولكن هذا ليس صحيحا .” مازال ينظر من النافذة إلى الوراء واستمر كما لو أنه يصف شيئا قد حدث فعلا . ” نعم ” قال ، مؤشرا : هذا هو المكان الذي سقطت فيه . ” كنا نجتاز بناية يطلق عليها كاروت تاور ، ليست بعيدة عن ناطحة سحاب كما لو أنها عملاق لولبي ملتصق بها . التفت إليَ وقال ، وكما لو أنَ الفكرة حدثت له مرة أخرى .” ولكن هذا ليس صحيحا .”
ورواية موراكامي تملك طريقة خاصة في رشح الواقعية . وخلال أيامي الخمسة في اليابان ، وجدت نفسي أقلَ ارتياحا في قلب طوكيو الحقيقية أكثر مما كنت فيها في طوكيو موراكامي – فإنَ المدينة الحقيقية ترشح من خلال عدسات أعماله الخيالية . وأنفقت وقتا في ذلك العالم قدر الإمكان . وذهبت إلى مشاهدة لعبة البيسبول في ملعب جنكو – موقع ظهور موراكامي – ووقفت في أعلى شدة الاهتياج في المدارج المكشوفة ، مركزا انتباهي في كل الوقت على لاعب يسدد الكرة مرتين . ( واقرب مكان حصلت على ظهوري فيه هو حينما صرخت وانزلقت حبة فاصوليا إلى حنجرتي وكادت أن تسبب لي إختناقا ) وجريت إلى الإمام باتجاه الطريق المفضل لدى موراكامي الذي كان يجري فيه في طوكيو والذي كان يصغي فيه إلى موسيقى الركض المفضلة لديه التي كان يطلق عليها ” عاطفة للشيطان ” ” Sympathy for the Devil” ” والى موسيقى ألبوم الزاحفة Reptile” “. ل Eric Clapton ، البوم 2001، ويقع الفندق الذي أنزل فيه قرب محطة شنجوكو محور وسائط النقل حيث أرضية رواية 1Q84″” وهناك تناولت شرب القهوة وسندويجأ منكَهأ بذائقة الكاري وهو المكان المفضل الذي كانت تلتقي فيه شخصيات الرواية في مقهى ناكامورايا ، وفي منتصف الليل ذهبت إلى ديني – مشهد استهلال رواية موراكامي ” بعد الظلام ” ” After Dark”– لأسترق السمع للطوكيويين الذين يبيعون الخبز الفرنسي المحمص والشاي . وكنت مفرط الحساسية ، وحينما كنت أتجول ، في أشياء روايات موراكامي كنت أيضا مفرط في الاستماع إلى الموسيقى المحلية ، في الصعود والهبوط ، وأشكال آذان الناس .
وفي كل هذا كنت مرتبطا عبر خط رحلات موراكامي . وكانت دور النشر تطبع كتب الطهي التي تعتمد على وجبات الطعام الموصوفة في رواياته وثمة طوابير لا نهاية لها للإستماع إلى أنواع الموسيقى التي كانت شخصيات رواياته تستمع إليها . وقد أخبرني موراكامي ، وبمرح واضح ، على تعابيره ، أنَ ثمة شركة في كوريا قد نظمت جولة لمجموعات سياحية غربي اليابان عن رواية ” كافكا على الشاطيء ” وان مترجمه البولوني وضع معها ثيمة دليل سفر لرواية ” 1Q84″ في طوكيو .
أحيانا تعبر السياحة حدودا ميتافيزيقية . وأحيانا يسمع موراكامي من القراء الذين ” اكتشفوا ” اختراعاته في العالم الواقعي ، مثل : المطعم ، والمحل الذي يعتقدون انه صنعهما ، و قرروا أن يؤسسوا مثل تلك الاختراعات في طوكيو . وفي سابورتو ثمة الآن فنادق دولفينية مزدوجة – وهي مؤسسة ابتكرها موراكامي في “مطاردة الخراف البرية ” AWild Sheep Chase” ” و بعد طبع رواية 1Q84″” إستلم موراكامي رسالة من عائلة لقبها ” اومامي ” الإسم غير المتوقع أبدا ( تذكًر بحبَة البازلاء الخضراء ) فقد إعتقد أنَه قد ابتكره كشخصية . وأرسل إلى تلك العائلة نسخة موقعة من الرواية . ويعدَ هذا تطورا مفاجئا لكل الأحداث – الرواية ترشح بالواقعية والواقعية ترشح بالرواية – وما احتوته معظم روايات موراكامي ( ومن ضمنها بشكل خاص رواية “1Q84″ التي تدور حول هذه الشخصية . فموراكامي دائما ما ينقلنا برحلات مكوكية بين العوالم .
وهذا يستحضر فعل الترجمة – والقيام بعملية مكوكية من عالم إلى آخر – وهي بحد ذاتها تمثل طرقا كثيرة للوصول إلى مفاتيح فهم عمل موراكامي – وأتذكر بإستمرار نكران تأثره بالكتَاب اليابانيين ؛ حين تحدَث ، عن سيرته الأدبية مبكرا ، عن الهروب من ” من لعنة اليابانيين .” وبدلا من ذلك ، صاغ مشاعره منذ صباه ما يسمى بالقراءة الاستيعابية للروائيين الغربيين الكلاسيكيين. ( دستويفسكي ، وستندال ، وديكنز ) وبشكل خاص لمجموعة من كتاب أمريكا القرن العشرين الذين راح يقرأهم ويقرأهم طيلة حياته – ريموند شاندلر ، ترومان كابوت ، ف . سكوت فيتزيجيرالد ، وريتشارد بروتيغان ، وكوت فونيغوت . حينما جلس موراكامي وكتب روايته الأولى ، كان يصارع حتى وصل في صراعه إلى حل ما يسمى لا إرثودوكسي : إَنه كتب الرواية بلغة انجليزية منفتحة ، ومن ثم ترجمها إلى اليابانية . وهكذا ، كما يقول ، كيف وجد صوته . أعلمني جي روبن، Jay Rubn مترجم موراكامي القديم ، أَنه يحمل صفات يابانية موراكامي المتميزة التي طالما ما تكون مقروءة ، كما لو أَنها قد ترجمت عن الانجليزية .
ويمكننا القول إنَ الترجمة هي قاعدة نظام عمل موراكامي من حيث المبدأ : ذلك انَ قصصه ليست مترجمة حسب ، ولكنها عن الترجمة . ومن الممتع أنَ حبكة موراكامي هي مراقبة الوضع العادي جدا ( إرتقاء المصعد ، غلي السباغاتي ، كوي قميص ) ثم تحولت فجأة إلى حالة إستثنائية ( نداء هاتف غامض ، رحلة سحرية ، حديث مع شخصية رواية مطاردة الخراف)- وبمعنى آخر ، مشاهدة شخصية ، تسقط من موقع تدفق وجودي إلى شيء آخر غريب تماما ، ومن ثم يضطر إلى توازن نفسه ، بصعوبة ، وغرابة بين ثنائيتين واقعيتين . بمعنى آخر ، ان شخصية موراكامي غالبا ما تكون مترجمة بين عوالم مختلفة : دنيوي وشاذ ، طبيعي وفوق طبيعي ، الريف والمدينة ، بين الرجل والمرأة. وإنَ آثاره الفنية بمعنى آخر أيضا ، هو فعل الترجمة الدراماتيكية .
وعدنا إلى المقعد الخلفي في سيارة موراكامي ، تركنا طوكيو ودخلنا ضواحيها . اجتزنا مقرات شركات عديدة ، فضلا عن فندق الحب الذي يشبه شكل زورق عملاق . وبعد ساعة أو هكذا ، تبدى لنا شكل منظره يتكثَف ويتصاعد ، ثم وصلنا منزل موراكامي ، كان منزلا جميلا ، لكنه منزل عاد – ويبدو أنَه مؤلف من طابقين تغطيه بعض النباتات المتسلقة ، تجاوره تلة تقع بين الجبل والبحر .
إستبدلت حذائي بخف ، قادني موراكامي إلى مكتبه في الطابق الثاني – وهو عبارة عن صومعة ، كتب فيها معظم رواية ” 1Q84″ . وانضمت إلى مجموعاته الموسيقية الهائلة التي يحتويها منزله، ( وقد خمنها بما يقارب العشرة آلاف قطعة موسيقية ، لكنه قال ، إنَه من الصعوبة بمكان أن يحصي عددها بدقة .) يحتوي مكتبه على جدارين طويلين مغطَيين من أسفلهما حتى سقفهما بألبومات ، مغلفة بمادة بلاستيكية رقيقة . تقع الرئيسيات منها في أعلى نهاية الغرفة ، تحت الردفات العليا للشبابيك التي تطل على الجبال ، ثمة سماعتان كبيرتان . أما الرفوف الأخرى فتحتوي على مذكَرات موراكامي في الحياة والعمل : ثمة قنينة زجاجية عليها صورة جوني ووكر ، وهي أيقونة الويسكي التي تعيد إليه ذاكرته للوغد القاتل في رواية ” كافكا على الشاطئ ” وتمثل صورته الشخصية a photo of himself التي تبدو بائسة بعض الشيء حينما كان ينهي جريه الماراثوني ( 1991، نيويورك ستي ، 3:31:27) وعلى الجدران نجد صورة ريموند كارفر ، وملصق ل غلين غلود، وبعض اللوحات الصغيرة لشخصيات عازفة موسيقى الجاز المهمة ، والموسيقي ستان غيتز المفضل لدى موراكامي في كل الأوقات ، والعازف على آلة السكسفون الصادحة .
طلبت منه إن كان بإمكاننا الاستماع إلى إحدي المقطوعات الموسيقية ، وسرعان ما وضع موراكامي معزوفة ” سنفونيتا ” لجاناسيك Janacek ، أخذت ترفس ، بعدها راحت تتوقف لفترات ، اخبرني موراكامي أنه اختار سنفونيتا تماما لغرابتها . ” إذ ذات مرة سمعتها في إحدي قاعات الكونشرتو ” قال لي . ” كان ثمة خمسة عشر عازف بوق خلف الاوركسترا . غريب جدا …. وإنَ هذه الغرابة تناسب تماما هذه الرواية . لا أستطيع أن أتخيل أي نوع من الموسيقى يناسب هذه القصة تماما .” قال ، كنت أصغي إلى الموسيقى ، أكثر فأكثر ، وأنا أكتب المشهد الافتتاحي . إخترت” سنفونيتا ” لأنها لم تكن موسيقى شعبية أبدا . ولكن بعد طبع الرواية ، تحولت الموسيقى إلى موسيقى شعبية في اليابان …. وقد شكرني السيد سيجي اوزاوا . لأنَ تسجيله حقق مبيعا جيدا .
حينما انتهت ” سنفونيتا ” سألته إن كان يتذكر أول تسجيل قد باعه . وقف ، راح يبحث في أحد الرفوف ، قدمه لي، لأتفحصه ، ” الجوانب المتعددة لجيني بتني .” وصورة بتني على الشريط كانت ساحرة ، ترنيمة أميركية لستينيات القرن الماضي ، كان يرتدي رباطا عريضا منقطا ، وسترة جلدية حمراء اللون . كان شعر رأسه يبدو مثل موجة عرف ديك تجمدت في مكانها . قال موراكامي ، إنَه اشترى الشريط في كوب Kope ، حينما كان في الثالثة عشرة من عمره . ( وهذه نسخة مستبدلة ؛ ولا تختلف عن النسخة الأصلية قبل عشر سنوات ) أنزل إبرة التسجيل وانطلق صوت بتني لأغنية ” مدينة بدون رحمة ” Pity” Town Without ” صوت دراماتيكي ، ينساب من خلال بوق مليء بالإغواء عبر أصوات بتني الشاب الذي يحب ترنيمة صرخة نبوئية تستغيث ” كان الشاب يعاني من مشكلة أننا بحاجة لقلوب تفهم / لماذا لا يساعدوننا أو يحاولون مساعدتنا / قبل أن يتشظى عالم الطين والغرانت .
رفع موراكامي ابره التسجيل حالما انتهت الأغنية . وقال ، ” أغنية سخيفة ”
إنَ عنوان رواية “1Q84″ عبارة عن نكتة ، إشارة لأورويل لتلك المفاصل في تورية تعدد اللغات ( ففي اليابان يلفظ Qكما يلفظ رقم9. وبهذا يستقيم العنوان مطابقا تماما لرواية أورويل 1984 ) .
سألته إن كان قد أعاد قراءة رواية 1984حينما كان يكتب روايته 1Q84″” ردَ ، نعم ، كانت رواية مملة . لكنها ليست سيئة ؛ في هذه الاثناء سألته لماذا يحب لعبة البيسبول ، أجاب ” لأنها مملة أيضا ”
و اخبرني ، أنَ معظم الروايات في المستقبل القريب ستكون مملة هي الأخرى ” ستكون دائما معتمة ، ودائما ما ستكون ماطرة ، وسيكون الناس تعساء . وأحب ما قد كتبه كورمك ماكارثي في رواية ” الطريق ” – – إنها رواية رائعة جدا …. لكنها مازالت تثير السأم . إنها رواية معتمة ، والناس فيها يأكلون الناس …. ورواية جورج اورويل 1984، هي رواية المستقبل القريب ، لكنها رواية الماضي القريب أيضا ، قال هذا عن رواية ” 1Q84′” إننا ننظر إلى السنة نفسها ولكن من الجانب المضاد . إذا كان الماضي القريب غير ممل ”
سألته إن كانت له قرابة مع اورويل .
“وقد خمنت أنَ كلانا يملك مشاعر مشتركة ضد النظام ” قال موراكامي . ثم أردف ” إنَ جورج أورويل هو نصف صحفي ، ونصفه الآخر روائي . لكنني روائي مائة في المائة …. لا أميل إلى كتابة الرسائل . أريد أن أكتب قصصا جيدة . اعتقد أنَ في داخلي رجل سياسي ، ولكنني لا أسيس رسائلي لأي شخص . ”
وحتى ألان ، بقي موراكامي ، شخصية غير مميزة ، بيد أنَه حدد رسائله السياسية بصوت عال خلال السنوات القليلة الماضية , ففي عام 2009 قام بزيارة مثيرة للجدل إلى إسرائيل ليقبل جائزة القدس واستغل هذه المناسبة ليتحدث بصوت عال إلى الإسرائيليين والفلسطينيين معا ، To Speak out about Israel and Palestine ، وفي هذا الصيف ، إستخدم كلمات الاحتفاء مجاملة في برشلونة كمنصة لينتقد صناعة المفاعل النووي الياباني . وقد وصف فوكوشيما داييشي أنَه الكارثة النووية الثانية في تاريخ اليابان ، ولكن الأولى كانت تماما ذاتية الإنزال .
وحينما سألته عن خطابه في برشلونة Barcelona speech his حوَر جوابه بخفة إلى نسبة مئوية .
” إنني كاتب رواية 99بالمائة و1بالمائة مواطن ، قال ، ” كمواطن لدي أشياء أقولها ، وحينما أقولها ، أقولها بوضوح . في هذا الموضوع ، لا أحد يقول لا ضد المفاعل النووية . وهكذا فأنا أعتقد أنه يجب أن أقف ضدها . وهذه مسؤوليتي . وقال إنَ الإجابة على خطابه كانت في الغالب أيجابية ، الناس في اليابان يتأملون – كما يتأمل هو ، من رعب تسونامي أن يكون محفزا للإصلاح . أعتقد أنَ كثيرا من اليابانيين يعتقدون أَنه نقطة تحول في بلدنا , وأردف ، كان تسونامي كابوسا ، لكن مازالت فرصة للتغيير . فبعد عام 1945، بذلنا جهودا مضاعفة تحولنا فيها إلى أغنياء . لكن ذلك النوع من الشيء لا يمكن أن يستمر على كل حال . كان يجب أن نغير قيمنا . ويجب أن نفكر كيف نتحول إلى سعداء . ليس أن نملك الأموال . وليس أن نملك الكفاية الذاتية . حول النظام والهدف . ما أريد قوله هو ما قلته منذ عام 1968 ، يجب أن نغير النظام ، واعتقد أنَ الوقت قد حان كي نكون مثاليين idealistic مرة أخرى .
سألته ما هي المثالية التي يتحدث عنها هنا ، وربما يرى فيها الولايات المتحدة الأميركية نموذجا . ” لا أعتقد أنَ الشعب يفكر في أميركا كنموذج له على كل حال . كما ليس لدينا أي نموذج حتى الآن . يجب علينا أن نؤسس نموذجنا الجديد . ”
إن الكوارث التي مر بها اليابان الحديث – تسرب غاز السارين ، الهزَة الأرضية في كوب ، والآن تسونامي – هي امتداد مذهل ، لكوارث موراكامي : نوبات العنف تحت الأنفاق ، والتجارب العميقة غير المرئية التي تظهر نفسها كتدمير جماعي في الحياة اليومية على السطح . إنَه موسوس بهواجس الاستعارات البليغة : هبوط الشخصيات نحو الآبار السحيقة ، لدخول العوالم السريَة ، أو مواجهة المخلوقات الظلامية تحت أنفاق طوكيو السريعة . ( وذات مرة أخبرني عن مقابلة قرر فيها أن يوقف استخدام الصورة المجازية، بعد صدور روايته الثامنة ، لأن تكرارها بدأ يحرجه ) أنه يتخيل إبداعه من زاوية عميقة . في صباح كل يوم يجلس على منضدته خلال نوبته المكثفة كليا ، يتحول موراكامي إلى موراكامي الشخصية : رجل عاد يحفر في أغوار كهوفه وكهوف إبداعه اللاشعوري و ويسرد بصدق ما قد اكتشفه . اخبرني أيضا ، ” أنا أعيش في طوكيو ” ” كإنسان في عالم متحضر – مثل نيويورك او لوس انجلز أو لندن أو باريس . فإذا أردت أن تجد موقفا سحريا ، شيئا سحريا ، عليك الغوص عميقا داخل ذاتك . وهذا ما أفعله أنا . الناس يقولون إنها واقعية سحرية – ولكن في داخل أعماق روحي ، هي واقعية جدا حسب ، تماما واقعية ومعقولة .
ويؤكد موراكامي أَنه ، حينما لا يمارس الكتابة ، فإَنه يتحول تماما إلى إنسان عاد – ويقول إنَ إبداعه هو ” صندوق أسود ” لا يمكن للوعي القدرة على النفاد إليه . وإنه يشعر بالخجل ويبتعد عن وسائل الإعلام لكنه دائما ما يندهش حينما يريد قارئا أن يصافحه في الشارع . ويقول إَنه يفضل كثيرا أن يصغي إلى حديث الآخرين – وفي الحقيقة ، وبعد هجوم غاز السيرين عام 1995، أنفق موراكامي سنة كاملة في إجراء مقابلات مع 65ضحية ومع مسببيها ونشر نتائجها في كتاب ضخم يتكون من جزئين ، و ترجم إلى الانجليزية ، ثم اختزل تحت اسم أنفاق القطارات . Underground” “.
في نهاية وقتنا الذي أنفقناه معا ، إقتادني موراكامي لرياضة الركض ، ( “أغلب ما أعرف إنشغاله هو الكتابة ، ” فقد كتب ، ” إنني أتعلَم من خلال رياضة الركض كل يوم أشياء كثيرة .”) وأسلوب جريه يشكل إمتدادا لشخصيته : سهلة ، ومتوازنة ، وحقيقية . وبعد دقيقة أو دقيقتين ، وجدنا خطواتنا مشتركة ، سأل موراكامي ، إن كنت أرغب القيام بشيء ما ، حينما أشار لي بيده إلى تلَة , والطريقة التي قالها بدت لي كما لو أَنه يريد التحدي ، والتحذير. فهمت نغمته ، وسرعان ما تسلقنا تلك التلَة — ليس جريا تماما لكن شيئا ما يشبه الترنح في مكان واحد لخطورة الإنحدار . وحين تقدمنا بضعة أقدام بإتجاه نهاية الطريق ، التفت إليَ موراكامي وسألته ، ” كانت تلك تلَة كبيرة” وفي هذه الأثناء خمَن موراكامي المسافة ليشير بذلك إلى أننا وصلنا فقط بداية خطوط سكك حديد متعرجة . وبعد فترة ، بينما نحن نلهث بدأنا نشعر بالإرهاق، أكثر فأكثر ، وبدأت أتساءل ، بتشاؤم ، إن كانت هذه الطرق المتعرجة لا نهاية لها ، إذا دخلنا بعض عوالم مصاعد موراكامي اللانهائية : صعود ، صعود ، صعود . ولكن ، بعد ذلك ، وصلنا القمة . واستطعنا أن نرى البحر أسفلنا : مسطح مائي عالمي سري هائل ، يتموضع كليا ولكنه غير مسكون ، يمتد بين اليابان والولايات المتحدة . يبدو سطحه هادئا ، في المكان الذي وقفنا فيه ، في ذلك اليوم .
وشرعنا بالجري مرة أخرى نحو الأسفل ، قادني موراكامي باتجاه قريته ، واجتزنا المحلات على الشوارع الرئيسية ، كما اجتزنا صفوفا من بيوت الصيادين ( وقد أوضح لي أن هذا هو” حرم الصيادين ” التقليدي في إحدى القاعات ) وكان الهواء يهب علينا رطبا لفترة وشعرنا بملوحة اجسادنا ونحن نجري بطريقة متوازية على الشاطئ . تحدثنا عن جون آرفنغ John Irving الذي كان ذات مرة يمشي معه عندما كان الأخير شابا في البارك سنترال ، وهو مترجم غير معروف . وتحدثنا عن زيز الحصاد : ومن الغريب أن يعيش لسنوات عديدة في محطة الأنفاق، وكي يظهر للعيان ، راح يئز ويصارع مصيره ، للخروج إلى سطح الأنفاق حيث ثمة أشجار ليعيش بضعة اشهر عليها . وتذكرت بشكل أساس إيقاعات أقدام ميروكامي .
وبعد هذا الجري ، كانت لنا عودة للمنزل ، وقد استحممت وغيرت ملابسي في حمام ضيوف موراكامي . وانتظرت أن ينزل من الطابق الأعلى ، وقفت أمام الهواء المكيَف في غرفة الاستقبال وتطلَعت إلى صورة من خلال شباك الحديقة الخلفية المليئة بالأعشاب ، والشجيرات .
وبعد دقائق قليلة ، صفق مخلوق غريب بجناحيه أمامي في الحديقة . يبدو من الوهلة الأولى أنَه يشبه طيرا – طائر طنَان ذو شعر كثيف ، انه يحوم ربما حول مكان كي يستقر فيه . ولكن بعد هنيهة بدأ ليبدو طيرين ملتصقين بعضهم البعض : راح يتهادى أكثر مما لو أنَه يريد الطيران ، راحت جناحيه تخفقان أكثر مما يحلقان . وفي نهاية الأمر أدركت ، أنَ هذا لم يكن أكثر من فراشة سوداء كبيرة ، وهي أغرب فراشة رأيتها في حياتي ، كانت تطفو هناك ، تتلوى مثل سمكة غريبة ، كانت طويلة إلى حد أثارت الرعب في نفسي – لم أنجح في محاولتي لمعرفة مثل هذا المخلوق بنجاح لتصنيف نوعه عن المخلوقات الأخرى . وبعد ذلك طار ، يتذبذب ، في أسفل الجبل باتجاه المحيط ، متقفيا الطريق الذي كنت وموراكامي نركض فيه .
وبعد لحظات من مغادرة الفراشة ، هبط موراكامي سلالم السلم ، وجلس بهدوء ، إلى منضدة كتابته . أخبرته أنني رأيت فراشة غريبة لم أشاهد مثلها في حياتي . إرتشف ماءا من عبوة بلاستيكة ، ثم نظر إليَ .” يوجد الكثير من الفراشات في اليابان ” وقال ، ” ليس غريبا أن ترى فراشة في اليابان “