لقد استطاع الروائي العراقي من الولوج إلى عالم الرواية بكل أشكالها وتوجهاتها وبالتالي تقديم نماذج وصور لأنماط كثيرة في المجتمع مثل صورة الوطن والمرأة والريف والمدينة والدين والعرق وذلك عبر فضاءات السرد المختلفة مما ساعده ذلك في إيجاد مسارات خاصة ومختلفة أضفت نوع من الخصوصية على الإنتاج الروائي العراقي، أحدث جدل واسع داخل الأوساط الأدبية والثقافية العراقية والعربية على السواء ، تراوح هذا الجدل ما بين نزعتين متضادتين ، الاتجاه الأول اتخذ من التراث الرسمي والشعبي والديني والأسطوري لاستنهاض المتن من خلال إحداث مقاربه للسرد القديم لغة وبناء، إما الاتجاه الأخر فقد ارتبط بل أدب العالمي وحركة الترجمة والتجارب الإبداعية المختلفة لكبار كتابها ،حقق هذا التنوع أو ساعده في النهاية إلى محاولة البحث عن عوالم روائية خاصة ترتبط بشكل متجذر بالثقافة العراقية وما صاحبها من إحداث سياسية واجتماعية حيث ساهم ذلك في إعادة تشكيلها واستثمارها تقنيا ولغويا بشكل ينسجم مع حركة التطور الروائي العالمي حيث استطاع الروائي العراقي أن يحقق عبر المنجز الروائي خصوصيته بعيدا عن سياق الرواية العربية والعالمية ، حيث شكلت هذه الخصوصية تيارا للبحث في طرق السرد والحكي وبناء الاحداث عبر عوالم شديدة الخصوصية ،تضيف و تتفاعل مع المنتج الإنساني الروائي ، ولا تتقاطع معه أو تختفي فيه. لكن
إن البحث في العوالم الروائية ذات الالتصاق القوي بالثقافة الإيديولوجية واللغة والإحداث شديدة الخصوصية لم يأخذ من البحث والنقد المجال الكافي من تسليط الضوء عليه ما دفع هذه القراءة النقدية للاهتمام بالحدث الروائي خصوصا لما يشكله من أهمية بالغة في بناء الرواية ،وهو واحد من أهم أضلاع البنية الروائية بل هو العصب الذي تتغذى منه جميع مفاصل الروية ،كاشفا في الوقت نفسه عن وجهة نظر الكاتب وتمثلاته للحدث داخل النص كأثر ثقافي واجتماعي وأدبي معين قادر على إحداث تأثير على المتلقي ، لذلك ما سنبحثه في الحدث الروائي العراقي هو كيفية
توظيف الحدث داخل العمل الروائي وما هي منظومة القيم الثقافية التي يتبناها المؤلف التي تتضح من خلال بناء ووصف الحدث داخل النص والذي يظهر عبر التعبير الذاتي للمؤلف كمنتج وخالق للنص وحامل لنسق ثقافي مضمر داخل النص.ومن الروايات التي حاولت الاتكاء في بنائها على الحدث هي روية طشاري للروائية انعام كججي والتي صدرت عام 2013 وقد لفتت حين صدورها انتباه الكثير من النقاد لما فيها من إحداث سياسية واجتماعية مهمة بلورت صراع مابين الهويات الدينية والعرقية أفضى الى واقع خطير اقل ما يقال عنه بشع عنيف مجهول يتضح ذلك من عنوان الرواية (طشاري )وتعني التبعثر او الشتات وفي ألهجة العراقية الدارجة كما يسميها المؤلف تطشرو مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات او طشرنا ،حيث تعمد الرواية إلى فضح تشظي الذات العراقية من جراء ما أصابها من إحداث وتحولات سياسية واجتماعية ساهمت في إحداث هذا الشتات والتبعثر للذات العراقية وتمزيق هويتها الوطنية من خلال تمركزها حول هويات فرعية منحازه سلفا طائفيا وعرقيا ،ساعده هذا التمركز على إنتاج هويات فرعية مذهبية وعرقية مختلفة سعت للتفكيك أواصر ألحمة الوطنية وغياب تام لفعل المواطنة من منظومة القيم الاجتماعية والثقافية . راهنت رواية طشاري منذ البداية على فكرة التجريب في السرد ، فلا نجد فيها حدثا يتنامى ويتطور وفق عقدة وحبكة فنية جمالية معينة ، فهي عبارة صور سردية صنعتها الكاتبة وفق لعبة الانتقاء الخاصة ،فالإحداث التي تقدم لنا حياة البطل او الذات الراوية للحدث تأتي بشكل عشوائي دون منطق التنامي او التصاعد الدرامي، فالبطل يستدعي من ذاكرته إحداث لها خصوصية عنده على شكل لوحات سردية صغيرة , على شكل حلقات القص الصغيرة والمتجاورة التي تسربت من القصة القصيرة والتي يرتبط وجودها بوجود السارد الواحد او الروي بضمير الأنا أحيانا أو المخاطب أحيانا أخرى (لو كان زوجها المرحوم جرجس معها يمسك يدها الباردة ويقارعها الكأس الكريستال) .كذلك استطاعة كججي في إيهام المتلقي بان عملها هو سيرة ذاتية لبطلة القصة دكتور وردية فقد سربت للقارئ بعض الإشارات التي تجعلنا نتوهم أنها سيرة ذاتية في حين انها تتخذ من الشكل السير ذاتي كوسيلة للوصول بالاحداث إلى غاية معينة تجعل القارئ او المتلق يتوهم انها سيرة ذاتية وقد ساعده على هذا الإيهام استخدام الانا المتكلم مرة و ضمير المخاطب/مخاطبة الذات ( حتى صاحبة هذه الحكاية لا تعرف كيف حلت في فرنسا . خلعت الكفوف البلاستيكية المعقمة وازاحت قناني السبيرتو وأكياس القطن وتركت وراءها سرير الفحص،الذي تتمدد علية العواقر والولادات.)كما استخدمت ضمير الانا / المتكلم (قربت العمة وردية رأسها مني لوت شفتيها جانبا وكانها ساخطة على الكون الذي لا يسير حسب مرامها.) كما ان الكاتبة تلاعبت بالزمن بطريقة القفز بالسرد مستعينة باسلوب الفلاش باك مره وسرد اللحظات الراهنة مره أخرى باستخدام صور بانو رامية وتكنيكات سينمائية تنعكس على اللغة فتبدو تقريرية خالية من الإحساس ويتضح ذلك في نقلها تفاصيل الأحداث التي تدور في عدة أمكنة ،حتى ان القارئ يشعر وكأن هذه الأحدث كتب لطائفة معينة من البشر(عندما أخرجت كفها من الكيس القماشي وقرأت اسم المدينة انكمشت ووردت على بالها كل الاحتمالات) حيث تعيش وردية في جميع تفاصيل الرواية وأحداثها غربة الذات الساردة والمغيبة وراء تحول الإحداث فتصف انتقالها من بغداد الى محافظة الديوانية بخوف وقلق شديد يعكس مدى هذا الاغتراب الذي ينتاب جميع الطوائف العراقية بلا استثناء ست ساعات وهي تهتز مع اهتزازات العربة … كانت متوترة وخائفة ومحتصرة ، تلتصق بكتف كمالة وتمسح في عباءتها دموع غربة لم تبداء بعد ). بعد هذا العرض الموجز لتقنيات السرد وطرق التجريب في رواية طشآري سنحاول الان الكشف عن كيفية تناول الحدث داخل النص الذي قدمته كججي ، وهل استطاعت الكاتبة الوصول بالاحداث الى مشتركات وطنية وإنسانية اعمق تنتقل بالرواية العراقية الى فضاءات عابرة للطوائف والمكونات ام لا يزال الروائي العراقي ينظر للحدث الذي يصفه ويدركه إيديولوجي عبر تمثله للعوالم المتصلة بالذات والانا الإيديولوجي الثقافي الغير فاعل والمنحاز في الواقع لطرف دون أخر .
يتضح من طريقة الروي للإحداث أن هناك دلائل تجعلنا نرى ان الاحداث في جميع أجزاء الرواية صيغ بطريقة انطباعية جزئية واضحة وأول هذه الدلائل الإيهام بالسير ذاتية ( لم أكن وحدي في الانتظار . رأيت حولي عراقيين جاؤوا لاستقبال أقارب لهم على الرحلة ذاتها .عائلات مسيحية تعرضت للتهجير والتهديد او فقدت افرادها في حوادث تفجير الكنائس). فالراوي يحاول ايصال صورة محددة بالطائفة المسيحية تكشف حجم القمع والقتل والتهجير الذي اصابهم دون غيرهم من المكونات ، لسنا هنا بصدد تقيم او اتهام او تكذيب لإحداث أضرت بهذا الطرف او ذاك بالعكس ما تسعى اليه هذه القراءة هو كيفية رؤية المؤلف للحدث في الرواية العراقية ،اي كيفية رؤية العالم من خلال النص ، فكولدمان يقول ان هناك انسجام للنزعات الواقعية والعاطفية والثقافية لأعضاء طبقة اجتماعية وذلك من خلال الوعي الجمعي الذي تشكله هذه الطبقة مع بعضها البعض من انساق ثقافية مغلقة تساهم في خلق وتشكل وعي مجتزئ للواقع . ما نلحظه في هذه النصوص ان الحدث العراقي ظل مرتبط بكافة تحولاته بثقافة الكاتب وأيديولوجية السلطة السياسية المرتبطة فيه والتي تؤثر بدورها على جميع المجالات الاجتماعية والثقافية فمن انسجم مع السلطة او رموزها نظر للحدث على انه نصر اما من لم ينسجم نظر للحدث على انه إقصاء لهم و تهميش .وهذا واضح من سير الاحداث في الرواية حيث تبداء الاحدث في الرواية بالتراجع والتدهور من لحظة تخلي البابا عن زيارة العراق حيث اعتبرته الكاتبة نذير شؤم عليهم تقول على لسان الراوي : (يومها فقط هجست عمتي بأن الامور في البلد قد تعسرت مثل ولادة مات فيها الجنين في بطن الأم ). ان حدث امتناع البابا من زيارة العراق حدث مركزي مهم بنيت عليه باقي احداث الرواية وهو موقف ثقافي أيديولوجي من الحياة والواقع ، اي ربط البنية الداخلية بالحدث الروائي بالقيم الايديولوجية الخارجية فكل ما سيحدث بعد ذلك من ثورات وتحولات هو شيء لا قيمة له امام تخلي البابا عن الحضور، فما تكشفه الرواية هو هذا الميل الاجتماعي والثقافي لدى جميع للمكونات العراقية بما فيها المثقفة التي ترى الأحداث بعين الدين او الطائفة او العرق نحن شعب لا عازة له ،مثل المشيمة التي ترمى للقطط ).عمدت الكاتبة جعل جميع الاحداث مرتبطة بالمقدس لا بالمدنس فضياع الوطن وغياب الأولاد والأقارب سببه تخلي المقدس عنا اكثر من تمركزنا حول ذواتنا الثقافية المنحازة سلفا لانتماءاتنا الثقافية والاجتماعية لذلك لم تجد ورديه لحظة أجمل من لحظة مقابلة البابا لكن هذه المرة في فرنسا :(مد لها البابا كفا نحيلة كأنها من الخزف الابيض ….تمعنت في كفه وخمنت ان جلده لم يرى الشمس ولم يغتسل الا بالكريمات. خافت عليه من ترقق العظام وتمنت لو كان دفتر الوصفات الطبية معها ).ان هذا الاغتراب لذي تعيشه جميع المكونات العراقية سببه الرئيس هو الحنين الاتصال بالمقدس بالمعنى الإيديولوجي بوصفة هوية وجودية ،وهو ارتباط يظهر على شكل حنين الى المقدس فالتراكم السلبي للاحداث يبداء من لحظة اعتذار البابا من زيارة العراق وهو نذير شئم على حياة الطائفة المسيحية دون غيرها من المكونات وقد اصاب الطائفة بلعنة الشتات ولايمكن لم هذا الشتات الا في عودة هذا المقدس .أن رواية طشاري تمثل الحدث العراقي اليوم بامتياز وبما ان الاحداث في العراق ترتبط بشكل شديد بالسياسي والاقتصادي والديني والثقافي الايديولوجي وتتاثر به بالسلب او الايجاب ظل مفهوم الهوية الثقاقية الوطنية غائب في عالم الرواية العراقية الا ما ندر وظل الادب والثقافة رد فعل على الحدث السياسي المنحاز لهذا او ذاك ، فالروائي العراقي ظل يعتقد ان التوظيف الايديولوجي هو من يشكل مادة العمل الروائي ويصنع خصوصيته وبالتالي صنع نجوميته . ان التوجه الايديولوجي الثقافي لانعام كججي هيمن على النص وشل الطاقة الحوارية وهذا واضح حيث بنيت الرواية ايدولوجيا على صوت واحد هو صوت بنت اخ الدكتوره وردية التي تعيش في عمان وتمتهن الصحافة وبذلك اتخذت وعيا ايدلوجيا واحد يعود الى المؤلف الذي هو يمثل توجه ديني ثقافي معين فهيمن على نص حيث يؤكد ذلك نرجسية المؤلف في التعامل مع عوالمه الروائية فكججي تفرغ كل همها الايديولوجي الديني في النص . في النهاية ان الرواية استطاعة وبجدارة عن كشف حجم الانقسام و التباعد في الرؤى والتوجهات التي تغزو المشهد العراقي اليوم وتنبأت بما سيحدث من خراب على جميع المكونات العراقية بلا استثناء ،حتى ان القارئ او المتلقي يستطيع استنتاج ان العراق بلد طارد للأقليات وقامع للحريات والاختلاف . أن قراءتي هذه لا تبحث عن اسقاط احكام على نص كججي بقدر ماتحاول كشف مايخفيه النص من انساق ثقافية مضمرة كرست خطاب ثقافي سياسي/ديني ايديولوجي معين ، والاهم في ذلك هو ، الى متى تظل الاشكالية الدينية والعرقية تعبث بالمشهد العراقي حتى باتت هي من تشكل خصوصية الرواية العراقية اليوم .