12 فبراير، 2025 4:20 ص

التجارة بكل شيء … فكرة تتوازى مع الواقع الفاسد

التجارة بكل شيء … فكرة تتوازى مع الواقع الفاسد

بعد معاهدة سايكس – بيكو التي انجبتها معطيات الحرب العالمية الثانية , وبزوغ الواقع السياسي الجديد الذي صنعته , كانت اعداد غفيرة من افراد الشعب العربي غافلة عما يدور في الكواليس الخاصة بإدارة بلدانهم من قبل الحكام الذين تنصّبوا بإرادة الدول العظمى المنتصرة بعد انتهاء الحرب , وهي امريكا وبريطانيا وفرنسا ,
وهؤلاء الحكام جعلوا همّهم ونصب اعينهم على مافي ايديهم من هذا الواقع السياسي الجديد الذي شجّع على إعتماد إدارات من الكفاءات السياسية المختلفة والمعروفة , استقطبت بشكل خفي بالرواتب والمكافأت الإستثنائية لجعلهم يدافعون عن العقائد والقيم والأخلاق الخاصة بأولئك الحكام وإن كانت متدنية من دون أي معارضة ,
ليتاح لهم المجال بالمتاجرة بالإتفاقات والمعاهدات الدولية من اجل البقاء بالسلطة التي منحتها لهم تلك الدول , والتذرّع امام شعوبهم بذرائع سياسية متعددة تعرقل العمليات العقلية العليا من ادراك وتخييل وتفكير افراد الشعب وبذلك تولي الادبار عن مواجهتهم اولآ , وتركهم عاجزين , ثانيآ , عن ايجاد اي دليل ملموس على متاجرتهم او دوافعهم ,
وفي مقابل ذلك يقومون بالترويج امام الشعب بأن مايقومون به ويصنعونه هو واقع سياسي لايستطيع احد ان يفهمه إلا الذين تمرسوا بالسياسة الدولية , لذلك جعلوا من عامل الخفاء والتورية ستارآ لإستمرار تجارتهم بالمواقف وخاصة فيما يخص القضية الفلسطينية , وهي , بالطبع ,
تعتبر من الناحية الأخلاقية احتقار لإرادة الشعوب وتسفيه لدوره في توجيه النقد سواء للحاكم او للحكومة او للمناصب العليا بالدولة , وهذه الافعال ناجمة عن سوء تربية واخلاق لأنهم اخذوا تربيتهم من الثقافة الغربية منذ الصغر فأصابهم الضمور في منظومة الضمير والعقيدة وابتعدوا عن تكوينهم النفسي وعن العلاقات الأجتماعية التي نشأ عليها آبائهم في مراحل الضنك الأجتماعي ,
ليتجه عقل هذا الحاكم او ذاك بشكل لاشعوري الى المنفعة ليشبع حواسه التي تغذّت على الثقافة الأوربية , وهذا الضمور في منظومة الضمير يشبه الى حد كبير بالضمور الذي يصيب الأعصاب لدى الإنسان عندما يتعرض الى الحكم بالسجن وسوء التغذية والمعاملة او بتغيّر البيئة المعيشية سواء بإختياره عن حب او غير حب أو بتعدد الأمراض ,
وهؤلاء الحكام هم من جيل تأسس به الخائن المُغلّ سواء في المغنم او في مال الدولة بعد معاهدة سايكس – بيكو , فقد اكتسبوا علّة الخيانة بالسلوك واورثوها الى ابنائهم واحفادهم , فهم يرون ان في تجارة المواقف الدولية من تحت الطاولة هو شكل غير مألوف وإبتكار يشجع على نمو البلاد من الناحية الإقتصادية وخاصة عندما تعزز ذلك بالموافقة على تخصيص درجات وظيفية للشباب العاطلين وتطوير البنى التحتية ذات القبول الاجتماعي بطريقة ذر الرماد بالعيون من ناحية ,
وتعديل لقراءة قوى المعارضة لمايجري في اروقة الحكومة على انه عملية اصلاح بإتفاق آراء الكتل السياسية المكونة للهيكل الحكومي , وان كل نقيض لها غير صحيح من الناحية العملية من ناحية اخرى .
ولكن تبقى حقيقة الأمر غير ذلك , فهي عملية تخدير لسرقة المال العام وتحويل لأنظار المعارضة عن ارتباط هذه الحكومة بالقوى السياسية الخارجية المهيمنة على البلاد وخاصة امريكا ودول الغرب العنصري الذين اتخذوا من امرهم معمدآ من دون الحق في مقابل تنصيبهم حكامآ على شعوبهم , فضلآ عن كون ذلك علاج مركّز وتغطية لوجه الحكومة المصابة بالهوس على البناء والاعمار ,
وهي حيلة ليبنوا بها مجدهم الشخصي بلا خشية من الخالق او الابتعاد عن غضبه ليعيشوا بشروطهم الخاصة بعد ان تتضخم اموالهم على حساب المعايير الفنية الخاصة بالمشاريع التي ينجم عن التلاعب بها فائضآ ماليآ يقدر بالمليارات من العملة المحلية والعملة الصعبة سواء بقربها من الإسراف او خروجها عن القصد .
الجدير بالذكر ان هذه النوعية من الحكام تنهار تحت الضغط سواء من الشعب أو من امريكا وبريطانيا , لأن الأخيرتين يعرفان جيدآ بتحركاتهم ويتنصتون الى مايخرج من افواههم بشكل موثّق ومسجّل خشية خروجهم عن مسار الإتفاق المبرم بينهم ,
وهذا الإتفاق هو قلب الواقع السياسي الجديد في العالم الذي كشفته المعارضة وادركت علته بالقياس مع ماتقوم به الكفاءات من تزيين مزيف لعين الحاكم العمياء عن المباديء وعن ما اخفاه من حق ولم يهتد الى اقامته على الوحوش البشرية المفترسة بطبعها , ليكسبوا ودّه ,
وادركت ايضآ , ان كل مايفعله الحكام هو مسار لنظام يتوازى معه , اي مع قلب الواقع السياسي الجديد , على شرط ان لايعبث به احد تحت اي عنوان او يفتي او يخوض بمسائله او يحتج عليه بخطبة او مقالة او قصيدة شعرية لكي لاتسقط النِعَم من يد المعارض او الناقد .
في ضوء هذا الكشف الذي اومأنا به للقاريء بهذه المقالة , والذي ادركته المعارضة في كل بلدان الشرق الأوسط وخاصة المطبّعة مع الكيان الصهيوني سواء بالخفاء او العلن , لابد من الإشارة الى مايوضح هذه المقالة بالمتشابه معها ليدرك القاريء ان هذا النمط من الحكام قد تمت الإشارة اليه في روايات ومسلسلات وافلام كثيرة ,
فمن الأفلام التي تطرّقت اليه , يمكن ان نأخذ نموذج فلم ” التجارة “Traffic الذي صدر عام 2018 وهو من بطولة الممثلة الأمريكية باولا باتون والممثل عمر إيبس , وهو فلم عن زوجين يقومان بجولة بالمدينة , والفلم يوميء به الكاتب والمخرج ديون تايلر للحكومة الأمريكية كإشارة الى ان جزءآ من المنظومة الأمنية في كاليفورنيا التي تمثلت بشبكة كبيرة تمارس المتاجرة بالبشر من وراء ظهرها ,
قد تم كشفها ومعها ظاهرة التغرير واستمالة الناس الى جانب الفاسدين , إذ في هذا الجزء الأمني تضطلع عمدة المدينة ميس بايل ( ممثلة ومغنية أمريكية ) بدور ادارة عمليات المتاجرة وعندما اجرت موظفة المول مكالمة هاتفية معها لغرض مساعدة ( بريا ) التي هربت من العصابة المنتسبة للحكومة الأمريكية وهي باولا باتون التي اسرعت قبل مجيئها الى المول الى ارسال الصور الفوتوغرافية الخاصة بعمليات المتاجرة بالبشر الى قسم الشرطة بالمدينة ,
جاءت العمدة ميس بايل بناءً على مكالمة موظفة المول , بادرتها (بريا ) بالقول :
– اأنت فخورة بمعاملة النساء والفتيات كالحيوانات ؟ تعاملونهم كالكلاب ؟
ثم اردفت قائلة :
– انت خائنة بائسة !
فقالت ميس بايل :
– هذا هو قلب النظام , كل شيء للمتجارة ! وانا لن ادعك تعبثين بهذا النظام .
بهذا المنطق الفاسد الذي ساد بعد سايكس – بيكو , تمت إقامة اركان اوطان العملاء الذين مازالوا الى الآن ينفون عن انفسهم الذنب والتقصير في ما اصبحت عليه دولهم العربية بعد احتلال فلسطين من ملاذ للقواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية التي لاغرض لها سوى الاستمرار بالهيمنة عليها , واطلاق ذراع الكيان الصهيوني يفعل مايشاء في الأراضي المحتلة ,
وهذا الفلم الأمريكي , لاشكك هو نوع من الإدانة لما يحصل في الولايات الأمريكية تحت ظل القوانين المغلفة بحجج الضرائب والرسوم الحكومية المختلفة , وهي بالحقيقة قوانين عقابية صارمة وظالمة وذات مسار يدمر في نهايته ممارسة الحريات والديمقراطية ,
عندما تضاعف صعوبات الحياة من ناحية , وتزيد من عدد المشردين الذين بلغوا الآلاف بسبب البطالة والأمراض وارتفاع الأسعار من ناحية اخرى , وعندما تهب الجماهير الى الإحتجاج والمظاهرات ضد هذه القوانين المنفلتة عن مبدأ الديمقراطية التي تؤمن بها الجماهير , تقوم الإدارة الأمريكية بقمع المظاهرات بدافع الدفاع عن ديمقراطية الدولة وهذا بالطبع اسمآ فارغآ عما تحققه للجماهير وتخليآ عن التزامات الحكومة لمبادي الدستور ,
وهذه تنطبق ايضآ على حكومة شمال العراق التي تمارس النهج القمعي والتفرد السياسي نفسه ضد الشعب الكوردي الذي وصفه المستشار كفاح محمود وهو احد تلك الكفاءات السياسية في حكومة الشمال وللأسف بـ ” المهرجين ” , بينما الحشود الكوردية كانت بإحتجاجها تطالب بإستحقاقات رواتبها لعدد من الأشهر المنصرمة التي سلبتها حكومة الشمال العراقي تحت إدعات الحرية والديمقراطية المزيفة ,
فبدلآ من وقوف المستشار مع الشعب واستحقاقاته في لقمة العيش لأنه اولآ واخيرآ سيكون بينهم , نراه على العكس من ذلك يلصق هذه التسمية الشائنة بشعبه المعروف بنضاله ورزانته ورباطة جأشه وشجاعته , والأولى من ذلك كانت مصارحة الحكومة للشعب حيال مايجري وليس اتهامه بتلك التسمية , وهذا ينطبق على امريكا اثناء المظاهرات الجامعية ضد الإبادة الجماعية لشعب غزة للخروج بنتائج تعزز من كرامة الإنسان وسيادة الشعب ككل,
أما ان نشاهد زمام التلازم بالعقد الإجتماعي بين اي حكومة وشعبها قد انصرم بسبب تفريغ الديمقراطية من محتواها جراء الإنصراف الى شرعنة القوانين الجائرة بأسم الحرية وبإسم الديمقراطية , فذلك مسار يلغي المباديء ويخلق واقعآ فاسدآ يتيح بدوره الى نشوء مبدأ المتجارة بكل شيء ليتوازى معه ولاتتسع المقالة لتفصيله ,
ان هذا الأفق الشكلي للحرية والديمقراطية الذي تنطلق منه الحكومات هو الذي يشرعن للشعب فكرة اتهام حكومته بالفساد كما في فلم Traffic وبالدكتاتورية , إن لم تكن غاية الحكومة نفسها هي الدكتاتورية التي تتخذ من مسار الديمقراطية حجة في البقاء على مسارها السياسي الفاسد بمساعدة تلك الكفاءات الذين تعينوا لهذه المهام ,
وهذا الأمر جملة وتفصيلا , لايدعوا الكاتب الى انشاء مقالة تجسد الخسارة التي تتكبدها الحكومات فحسب , بل تبين عدم التكافؤ بين ثقافة الحرية والديمقراطية وبين ماتؤمن به تلك الحكومات من ثقافة عاقرة عن انجاب اي عقد اجتماعي بينها وبين الشعب من دون مستشارين مهمتهم يسمحون بتأييد مرور قوانين ذات شروط تفرض بشكل غير مدروس على الشعب .
ختامآ , ينبغي للحكومات ان تراهن على الحرية والديمقراطية اذا شاءت ان تبني اوطانها بعيدآ عن فكرة المتاجرة بكل شيء , اما ان تتحول بالمواقف وتفكك وظيفتها الأساسية وهي الارتباط بالمبادي والعدالة الإجتماعية في اطار الحرية والديمقراطية التي يكفلها الدستور , وتذهب الى المتاجرة , فذلك يعني السقوط وإن وظفت تلك الحكومات افلاطون للوقوف الى جانبها .