18 ديسمبر، 2024 6:56 م

التجاذبات السياسية حول برنامج فيصل الاول الاصلاحي

التجاذبات السياسية حول برنامج فيصل الاول الاصلاحي

ترجمة ـــــ وليد خالد احمد
تأليفــــ ــــ مجيد خدوري
أشَّر قبول العراق في عصبة الأمم نهاية حقبة هيمن فيها انهاء الإنتداب والإنتباه انتباهاً مناسباً إلى الإصلاحات الداخلية هيمنة قوية على الملك فيصل والوطنيين العراقيين. قُبيل انتهاء الإنتداب نهاية رسمية كان فيصل قد بدأ يناقش برنامجاً اصلاحياً مع كبار الوزراء لما سيصبح بلده. وقد ادرك فيصل في ضوء تجربته الماضية ان حاجة العراق الأشد الحاحاً بعد نيله استقلاله هو التقدم الإجتماعي والإقتصادي. في آذار 1932 قدم لوزرائه مقترحات معينة للإصلاح بغية ابداء آرائهم فيها. كانت المذكرة بوضوح عمل رجل راقب النظام بعين مدرّبة واهتمام كبير. لاحظ ان العراق، كما كان عام 1932، لم يكن قد توصل بعد إلى تحقيق الإنسجام بين مختلف شرائحه العرقية والدينية الذي لابد منه لخلق امة متقدمة. كما لاحظ ان الحكومة العراقية كانت اضعف كثيراً من الشعب لأسباب تتعلق اساساً بضعف الموارد والجيش غير الكفوء. فقد قُدّر حينها ان لدى الشعب مايناهز 100.000 بندقية مقابل 15.000 في حيازة الحكومة. ورأى فيصل انه لايمكن لأي حكومة ان تنفّذ برنامجاً اصلاحياً لايحظى بقبول الشعب. ونصح وزراءه باتباع سياسة معتدلة تتجنب الأفكار الراديكالية المتطرفة التي قد تثير الشكوك وتسبب ردة فعل بين اوساط الاغلبية الجماهيرية الجاهلة، والسعي إلى التعاون بين الحكومة والجماهير.
ادرك فيصل انه لايمكن لمنهج كهذا ان يحقق تقدماً سريعاً. وعليه فقد اقترح الإجراءات الآتية: (1) زيادة القوات المسلحة الحالية ورفع كفاءتها إلى مستوى يمكّنها من سحق أي تمردين قد ينطلقان في الوقت نفسه في مكانين مختلفين من العراق؛ (2) تنفيذ سياسة المساواة بين المذهبين الإسلاميين. (أي السنة والشيعة) وابداء الإحترام اللازم للتقاليد القَبَلية والديانات غير الإسلامية ايضاً؛ (3) تسوية مشكلات الأراضي؛ (4) زيادة قوات المجالس الإدارية للألوية (المقاطعات) والبلديات؛ (5) افتتاح مدرسة لموظفي الخدمة العامة لتزود الدولة بالموظفين الكفوئين على اساس قدراتهم؛ (6) تشجيع الصناعات الناشئة في البلاد ومباشرة صناعات اخرى؛ (7) اعادة تنظيم التعليم؛ (8) اصلاح النظام الحكومي بطريقة تفصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، واعادة تنظيم الإدارة الحكومية.
علق الوزراء تعليقات ايجابية على مقترحات فيصل. حتى ناجي السويدي، وهو رئيس وزراء اسبق، الذي انتقد عدداً من التفاصيل، وافق على الخط العام لهذه السياسة. وأيّد السويدي فكرة فيصل بالفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، واقترح ان يكون تعيين الوزراء، بصفتهم موظفين حكوميين، لمدة محددة لإعفائهم من الوظائف التشريعية أو الضغط البرلماني الذي غالباً ما تسبب بتعطيل اعمالهم الإدارية. كما اقترح تعديل القانون الإنتخابي لضمان المزيد من التمثيل المناسب للشعب وانهاء الهيمنة الحكومية على الإنتخابات.
حين قُبل العراق في عصبة الأمم في 3 تشرين الأول 1933، اعتقد فيصل ان اوان تطبيق سياسته الجديدة قد حان. فتبنى وجهة نظر متفائلة بتأمين مساعدة كل العاملين في الدولة وناشدهم، باسم مصلحة بلادهم، ان يتناسوا كل خلافاتهم السابقة ويتعاونوا في تنفيذ برنامجه الإصلاحي. وطلب من الجنرال نوري السعيد الذي كان رئيساً للوزراء 1930- 1932 تقديم استقالته لمصلحة الإدارة الجديدة التي كانت ستضمّ الجنرال نوري نفسه ومعارضيه، حزب الإخاء الوطني. قدم الجنرال نوري استقالته متردداً في 27 تشرين الأول 1932.
حين دُعي قادة حزب الإخاءلتشكيل الحكومة الجديدة، لم يقبلوا العرض فوراً، منشدين الأمة أن لا تعترف بنظام الإستقلال الجديد على اساس المعاهدة التي ابرمها الجنرال نوري مع انكلترا عام 1930. لكنهم كانوا دون ريب مسرورين لمعرفتهم بأن الطريق إلى السلطة بات مفتوحاً لهم اخيراً. وعليه فقد تقرر تشكيل حكومة انتقالية مصمَّمة لتمهيد الطريق لحكومة جديدة تُشكَّل على اساس الإنتخاب.
ولهذا الغرض دعا فيصل ناجي شوكت، وكان حينها سياسياً مستقلاً متعاطفاً مع سياسة فيصل، إلى تشكيل حكومة في 3 تشرين الثاني 1932. كان اغلب اعضاء الحكومة الجديدة من كبار موظفي الدولة، تم اختيارهم لقيادة الإدارة بطريقة تشبه ادارة الأعمال، لا ان تضع اسس سياسة جديدة. حُلّ البرلمان في 8 تشرين الثاني 1932، واجريت الإنتخابات في شباط 1933 في اجواء عدم مبالاة اذ لم تكن ثمة موضوعات سياسية. لم يقاطع الإنتخابات سوى الحزب الوطني على اساس وجود قيود على حرية الصحافة. شارك حزب الإخاء في الإنتخابات لأن قادته كانوا يعلّقون آمالاً كبيرة على الوصول إلى السلطة.
كشفت الإنتخابات عن حدوث تغيّر طفيف في عضوية البرلمان. احرزت المعارضة، حزب الإخاء، عدداً من المقاعد، إلاّ ان اغلبية النواب كانوا اما اتباع شخصيين لرئيس الوزراء أو نواب سابقين تعهدوا بدعم الحكومة الجديدة. وهكذا استطاع رئيس الوزراء شوكت ان يحشّد اغلبية 72- مشكّلاً كتلة اغلبية برلمانية- وصرّح حين حقق هذه الأغلبية انه سيواصل العمل في منصبه؛ وهكذا لم تعد تشكيلته الوزارية تشكيلة انتقالية.
التأم البرلمان في 8 آذار 1933، وقرأ الملك خطاب العرش، مجسّداً برنامج الوزارة. هاجم اعضاء الإخاء البرنامج بعنف لخلوه من أي اجراءات من شأنها استبدال نظام ادارة الإنتداب بنظام يليق ببلد مستقل حقاً. وهكذا تشتَّت الكتلة البرلمانية التي نظمّها شوكت في غضون عشرة ايام من انعقاد البرلمان، وأُجبر مجلس الوزراء على الإستقالة. لابد من الإقرار بان الملك فيصل الذي كان له رأي دائماً في تغيير الوزارة، كان راغباً بالتغيير، وادرك ناجي شوكت، في مواجهة المعارضة العنيفة، ان وقت الإستقالة حان. وفي 18 آذار طلب من الملك ان يعفيه من مسؤوليات منصبه لسوء حالته الصحية، فشكره الملك على جهوده المخلصة ووطنيته الصادقة وقبل استقالته في اليوم نفسه.
حزب الإخاء في السلطة
هكذا فُتحت الأبواب مشرعة أمام قادة الإخاء للوصول إلى السلطة. كان فيصل قد مهّد الطريق اصلاً بفتح الأبواب لهم بتعيينه واحداً منهم، رشيد عالي الكيلاني، سليل الشيخ عبد القادر الكيلاني الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، رئيساً للديوان (البلاط). وحين استقال ناجي شوكت، دعا فيصل رشيد عالي لتشكيل حكومة جديدة. استشار رشيد زملاءه في الإخاء وقرر قبول العرض اذا سُمح له بالتفاوض مع البريطانيين لتنقيح معاهدة 1930. وعلينا ان نتذكر ان قادة الإخاء عاهدوا الأمة على ان لايعترفوا بالزامية المعاهدة اذا تولوا السلطة. لم يكن الملك فيصل الذي رأى في المعاهدة صفقة موفقة مع بريطانيا على استعداد لقبول شرط الكيلاني. نشأت ازمة وزارية، لكن فيصل تغلب على قادة الإخاء بمناشدة مشاعرهم الوطنية مشيراً إلى الخطر الجسيم الذي قد يلحق ببلدهم اذا استنكروا المعاهدة التي دخلت تواً حيز التنفيذ. ورثى عدم تفهم قادة الإخاء الخطوط العامة لسياسته التي اثمرت استقلال العراق، ومضى إلى حد التهديد بالتنازل عن العرش اذا لم يقدّروا سياسته حق قدرها. تأثر قادة الإخاء تأثراً شديداً بحجج الملك إلى حد انهم وافقوا فوراً على تشكيل حكومة جديدة من دون فرض أي شروط. ولتفادي أي فضيحة قد تنشأ عن قبولهم تشكيل الوزارة، سُمح لهم بايراد جملة “السعي الحثيث لتحقيق مطامح العراق الوطنية” في برنامجهم وهي جملة فُسّرت تفسيراً موارباً لتعني تنقيح المعاهدة.
شُكّلت الحكومة الجديدة في 20 آذار 1933 برئاسة رشيد عالي، فيما تولى ياسين الهاشمي، زعيم حزب الإخاء حقيبة وزارة المالية، واُسنِدت وزارة الداخلية إلى حكمت سليمان. ولمواصلة سياسة العراق الخارجية، أُسندت حقيبة وزارة الخارجية، بناءً على طلب الملك فيصل، إلى الجنرال نوري السعيد. وأُسندت حقيبة وزارة المواصلات والأعمال إلى رستم حيدر، الرئيس الأسبق للديوان الملكي ووزير المالية في حكومة الجنرال نوري. اشاد ناجي السويدي بالحكومة الجديدة التي ضمّت قادة احزاب متعارضة في البرلمان في 29 آذار 1933 بصفتها نجاحاً مؤزراً. رحّب بالتحالف مقتبساً الآية القرآنية (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ(.
حين اجتمع البرلمان في 27 آذار 1933، اعلن رشيد عالي برنامج حكومته. وصرّح، في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية، ان حكومته “تحترم التزامات العراق الدولية”، لكنها تتعهد بالسعي” الحثيث لتحقيق المطامح الوطنية” للعراق. شدد البرنامج الواعد بالإصلاحات الشاملة في دوائر الحكومة كافة على استغلال امكانيات العراق الإقتصادية وتعزير قدرات الجيش. كان برنامجاً طموحاً، انموذجياً للمارسة العراقية، لكن انجازه غير ممكن. صادق عليه البرلمان، ولكن سياسته الخارجية انتُقِدت بقوة. وذُكِّر قادة الإخاء “(كانوا) يوم امس فحسب يتذمّرون من تعسّف المعاهدة”، وطولبوا بتقديم اسباب تغيير موقفهم. انكر رشيد عالي أي تغيير في سياسة حزب الإخاء وطمأن منتقديه بأن هدفه كان دوماً محاولة تنقيح المعاهدة.
ادى وصول حزب الإخاء إلى السلطة من دون تعهّد واضح بتنقيح المعاهدة إلى قطع العلاقات بين حزب الإخاء والحزب الوطني. كان هذان الحزبان قد اتفقا في 23 تشرين الثاني 1930 على معارضة المصادقة على المعاهدة والزما نفسيهما بالاّ يدعما أي حكومة أو يشاركا فيها إلاّ على اساس تنقيح المعاهدة. على الرغم من تصريح رشيد عالي بان جكومته لم تفقد الأمل بتنقيح المعاهدة، فان الحزب الوطني الذي لم يقتنع بهذا التصريح الموارب، اصدر بياناً في 9 حزيران 1933 يندد بحكومة الإخاء.
لم يصدم فقدان حكومة الإخاء مكانتها ثقة الأمة بالنظام الحزبي فحسب، بل وفتح من جديد الخلاف الشيعي- السني القديم. لخيبة املهم في ادارة الإخاء، استعاد الشيعة هياجهم بوجه ماكانوا يعدّونه هيمنة الأقليّة السنيّة. كانت هجمة كهذه على حكومة الإخاء مدمّرة فعلاً، ولم يتمكن قادة الإخاء من استعادة مكانتهم الإجتماعية حتى آب، حين سيطروا على الإنتفاضة –القضية الآشورية- التي كانت بمثابة عامل لتركيز انتباه امة منقسمة على “خطر” وشيك. استغل حزب الإخاء القضية الآشورية استغلالاً تاماً لمصالحه الخاصة. وحيث ان الملك كان في زيارة رسمية إلى بريطانيا، فقد كانوا احراراً في التعامل مع هذه القضية بهذه الطريقة. وبظهورهم كأنهم ابطال حافظوا على وطنهم في وقت الإضطراب، اصبح قادة الإخاء قدوة وطنية.
زيارة فيصل الرسمية إلى انكلترا
بعد صعود العراق إلى مركز الدولة بوقت قصير، دعا الملك جورج الخامس King George V الملك فيصل رسمياً لزيارة انكلترا. كانت الزيارة مصممة لتمتين العلاقات بين بريطانيا والدولة التي كانت سابقاً تحت وصايتها على اساس جديد من المساواة والمصالح المتبادلة. غادر فيصل بغداد في 5 حزيران 1933، وكان مدعواً لزيارة بلجيكا في طريقه زيارة رسمية في 15 حزيران.
في 20 حزيران وصل الملك فيصل وثلاثة من وزرائه لندن، واستُقيِل استقبالاً حافلاً وحتفالات رائعة. استقبل الملك جورج الملك فيصل مرحباً به في محطة فكتوريا. مرّ الملكان في الشوارع التي كان على جانبيها قطعات عسكرية، وكانت الجماهير التي احتشدت على طول الطريق إلى قصر بيكنغهام تحييهما. بعد وصوله بوقت قصير، واصل الملك فيصل ليضع اكليلاً من خشخاش الفلاندر على ضريح الجندي المجهول في كنيسة ويستمنستر.
في المساء اقام الملك جورج والملكة مأدبة في قصر بيكنغهام على شرف الملك فيصل. بعد المأدبة اقترح الملك تناول كأس بصحة ضيفه وقال:
انه لمن دواعي السرور، جلالتكم، ان ارحب بك في عاصمتي، واؤكد لك عظيم بهجتي بالفرصة التي اتيحت لي لأجدد سعادتي بتعارفنا الذي دام سنين طويلة.
انا والملكة سعيدان لأننا اول من استقبل جلالتكم ضيفاً منذ الحادث التاريخي في السنة الماضية، حين اصبح العراق عضواً في عصبة الأمم.
اننا نرحب بكم، جلالتكم، لابصفتي حاكم بلاد غنية بما تعد به من انجازات في المستقبل كغناها بامجاد الماضي المشرقة فحسب، بل كحليف وصديق قديم.
غني عن القول ان اؤكد لكم، جلالتكم، اهتمامي وتعاطفي الحميم اللذين راقبت بهما التقدم الرائع الذي احرزه العراق بهدي حكم جلالتكم، وانه لمن دواعي السرور ان اشعر ان حكومتيّ البلدين ادامتا ودعمتا تقدم بلدكم ابان الإثنتي عشرة سنة المنصرمة بالتعاون والصداقة. وخالص املي، وانا اعرف انه رغبة جلالتكم ايضاً، هو المحافظة على هذه العلاقات الحميمة المثمرة وتقويتها في المستقبل لمصلحة البلدين.
ارفع كأسي متمنياً لجلالتكم كل السعادة والإزدهار، ولأؤكد مبلغ الإحترام العالي الذي اكنّه انا وشعبي لجلالتكم ولبلادكم التاريخية التي تحكمونها.
فردّ الملك فيصل قائلاً:
اشكر لجلالتكم الكلمات المخلصة التي عبّرتم بها عن ترحيبكم بي مرة اخرى في عاصمة امبراطوريتكم العظيمة، كما اشكر لجلالتكم تثمينكم العالي للتقدم الذي احرزته بلادي في السنوات الإثنتي عشر المنصرمة.
وانني لسعيد باتاحة هذه الفرصة لي للتعبير لجلالتكم عن امتناني وامتنان الأمة العراقية لتعاطفكم الذي ابيتموه دائماً لرفاهية بلادي، وكذلك للتعبير عن تقديري العالي للتوجيه والمساعدة الثمينين اللتين تلقتهما بلادي خلال العقد الماضي من ممثل جلالتكم في العراق.
ويسعدني سعادة خاصة ان اؤكد لجلالتكم صداقة الشعب العراقي المخلصة لشعب بريطانيا العظمى، وانني لعلى ثقة بان هذه الصداقة ستتعزز وتتعمق بمرور الوقت.
وبهذه الثقة الوطيدة بالمستقبل اشرب بصحة وسعادة جلالتكم، وبصحة وسعادة جلالة الملكة والأسرة الملكية؛ ولإزدهارالإمبراطورية البريطانية وتعزير روابط الصداقة التي تربط بين البلدين.
في اليوم التالي، 21 حزيران، كان الملك فيصل ووزراؤه يستمتعون في قصر النقابة. اقام السيد العمدة حفلة غداء رائعة حضرها الملك جورج والملكة ماري. كانت المناسبة تتويجاً للضيافة الودية للملك فيصل. وبعد ان استقبل السيد العمدة الملك فيصل والأسرة الملكية القى خطاباً أُهدي لاحقاً إلى الملك فيصل في علبة من الذهب. بعد الغداء قدّم السيد العمدة نخباً بصحة الملك جورج والملكة ماري، ثم بصحة “ملك العراق”. وفي سياق خطابه قال:
لقد كان من دواعي فخر مواطني عاصمة الإمبراطورية وامتيازاتهم على الدوام ان يستقبلوا في قصر النقابة القديم والتاريخي هذا ملوك وملكات البلدان الأجنبية، ويرحبوا بهم في مدينة لندن…
اننا باستقبالنا جلالته، ملك العراق، انما نستقبل حاكم بلد حليف لبلادنا، فضلاً عن ان العلاقات الوةثيقة بين بلدينا لاتقوم على الأحكام الرسمية للمعاهدة فحسب، بل على صداقة متينة مستمدّة من الإحترام المتبادل والمصالح المتطابقة التي تأسست في الحرب، وتعززت وتمتنت في السلام.
كما ان جلالته عاهد ما وُصِف وصفاً دقيقاً بأنه الدولة الأحدث لكنه الأقدم من بين البلدان. في مدة الإثنتي عشرة سنة الوجيزة، وبهدي جلالته، ولدت إلى الوجود دولة جديدة وامة جديدة، معتمدة على ذاتها ومزدهرة ومتقدمة. واضاف جلالته بهذا الإنجاز صفحة مشرقة اخرى إلى تاريخ بلاد كانت منبع الحضارة لنصف العالم، واننا نشعر بثقة، بان العراق، بقيادته، غني بالموارد الطبيعية والخصال الجليلة لشعوبه سيستعيد امجاد الماضي العظيمة، ولعله يتجاوزها.
اننا نأمل ونثق بأن روح الصداقة والتعاون التي يسعدنا وجودها اليوم بين العراق وهذه البلاد في ميدان السياسة والتجارة ستتعزز في ظل حكم جلالته المستنير لما فيه مصلحة البلدين.
عبّر الملك فيصل في رده عن سعادته وارتياحه الكبير لإستقباله ضيف شرف في مدينة لندن.
عند العرب (قال الملك) تُقدّر الضيافة تقديراً عالياً بصفتها احدى اسمى الفضائل، واذا كان هذا التقدير العالي لقيمتها المعنوية موجوداً، فلا شك ان مدينة لندن تُعدّ احدى اكثر المدن فضيلة واحدى اغنى مدن العالم ايضاً؛ ترابط صفات نادرة، ربما ندرة اتحاد التقتير بالمغامرة التجارية الذي كان دائماً من صفات التجار الكبار لهذه المدينة. لقد اشرت ياسيدي العمدة إلى صداقة شعب بريطانيا العظمى مع شعب العراق، ويسعدني ان أؤكد لكم ان شعبي في العراق يبادلكم بود مماثل حسن النية هذا. وُلدت هذه الصداقة بين الشعبين من التضحيات المشتركة وانعشها التطور السريع في المصالح المتبادلة.
تلقت بلادي الكثير من المساعدات في الماضي من بريطانيا العظمى، وتتطلع بثقة إلى المزيد من المساعدات في المستقبل، واعلم ان بلادي لاتتطلع عبثاً. اننا بحاجة إلى مساعدتكم لتطوير موارد بلادنا الكثيرة الكامنة، ولم تفوّت مدينة لندن، مسقط رؤوس الكثير من التجار المغامرين، تقدير قيمة الفرص المفتوحة للمشاريع في بلاد بعيدة.
تجتمع امم العالم اليوم معاً في لندن ملتمسةً علاجات لعلل إقتصاداتها، وانا واثق من انها ستفلح. كما انني واثق من انه بتعاون المدينة، سيكون العراق قادراً على تقديم اسهامته في استعادة الإزدهار الإقتصادي الذي نرغب جميعاً به على وجه السرعة. بهذه الروح المتفائلة ارفع كأسي لأشرب بصحة السيد العمدة وسعادته وبصحة تعاون مدينة لندن الرائعة ومجدها وازدهارها.
انتهت زيارة الملك فيصل الرسمية في 22 حزيران، وغادر قصر بيكنغهام إلى فندق في لندن حيث امضى بضعة أيام أُخر. استنفد العمل المرهق قواه، وبدا متعباً جداً اثناء زيارته الرسمية، وكان قد خطط لقضاء الصيف في سويسرا لأسباب صحية. إلاّ ان القضية الآشورية التي تطورت بغيابه، لم تؤثر على خططه فحسب، بل سرّعت من وفاته في النهاية.
القضية الآشورية
فيما كان فيصل لم يزل في لندن، بلغته انباء مقلقة عن تطور توتر بين حكومة الإخاء والآشوريين. حاول التدخل من لندن وارسل برقيات إلى وزرائه يحثهم فيها بمعاملة الآشوريين برفق؛ إلاّ ان قادة الإخاء الذين ظنوا ان الملك اصبح تحت تأثير الحكومة البريطانية، لم يصغوا إليه. وليغطوا على ما فقدوه من مكانة اجتماعية في الأشهر القلائل الماضية، انتهزوا الفرصة لمعالجة “خطر” الآشوريين فوراً بلا رحمة. كانوا قادرين على اثارة الأمة كلها ثم تحريضها وحثها على الآشوريين والبريطانيين (الذين اعتُقِد انهم حرضوا الآشوريين). بينما لم تكن حكومة الإخاء مسؤولة مباشرةً عن مجزرة الآشوريين التي كانت معظمها من عمل الجنرال بكر صدقي (الضابط الآمر للقوات العراقية في الشمال)، صرّح حكمت سليمان، وزير الداخلية انه وافق على الخط العام للسياسة التي تبناها الجنرال بكر.
عاد الملك فيصل الذي كان مريضاً وبحاجة إلى علاج إلى بغداد في 2 آب، لكنه وجد الموقف كله خارج السيطرة. وكان لتدخله الذي ازعج وزراءه تأثيراً مدمراً اضافياً على صحته. وكانت المظاهرات العفوية أو المخطط لها تحدث يومياً تقريباً مطالبة بالقضاء على شريحة الآشوريين كلها. وفي احدى التظاهرات خارج الديوان الملكي، هتفت الجموع الثائرة عالياً باسم الأمير غازي (الذي كان متعاطفاً مع حكومة الإخاء) وقادة الإخاء. ولكن لم يُذكر الملك فيصل. اخفى فيصل اشمئزازه وهتف في ما كان يجري خارج البلاط. ونقل علي جودت الذي كان حينها رئيس الديوان الملكي للمؤلف ان الجنرال نوري برفضه المميز لفعاليات الإخاء، ردّ قائلاً ان الإثارة كلها كانت “مخططة”.
لكن هذا لم يكن كل شيئ. فقد أُلمِح إلى ان فيصل سيتنازل عن العرش. لاشك ان احترامه لذاته وكرامته لم تُجرحا بهذه الشدة. غادر بغداد دون ان يلمحه احد تقريباً في 2 ايلول. ولم يكن في وداعه سوى اعضاء مجلس الوزراء، ولكن كان ثمة مايقارب الخمسين شخصاً في المطار. قبل يومين كان ثمة تجمّع من بضعة آلاف يهتف للأمير غازي بمناسبة عودته من استعراض احتفالي لقوات الشمال في الموصل. غير ان روح فيصل المتسامحة لم تسمح له بمغادرة بلاده دون توديع شعبه، فقد نُشر التصريح التالي يوم 1 ايلول:
اغادر بغداد لضرورة استكمالي نقاهتي، وآمل ألاّ يستمر غيابي لأكثر من ستة اسابع. انتهز هذه الفرصة لأعبّر لشعبي عن تقدري لتعاطفهم معي وللإسلوب الذي حافظوا به على السلم والثقة بين مختلف الشرائح الإجتماعية ابان الأحداث الأخيرة. كل ما رأيته من افعال امتي وحكومتي يعزز آمالي باننا سنحقق مُثُلنا العليا في القريب العاجل.
اعتماداً على عون الله القدير، سأواصل فعل ماهو افضل لخدمة البلاد والأمة، والصمود بوجه أي مصاعب تواجهني.
وفاة فيصل وارتقاء غازي العرش
بعد ستة ايام فقط من وصول فيصل إلى بيرن توفي فجأة وعلى غير توقع في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة 8 ايلول 1933. كان قد غادر بغداد جواً مريضاً ومتعباً يلتمس العلاج الطبي في سويسرا. ولم يكن برأي طبيبه، د. الفريد كوخر Dr. Alfred Kocher أي شيئ يوحي باحتمال وفاة مفاجئة.
ذهب فيصل بالسيارة في اليوم السابق على وفاته، 7 ايلول، إلى انترلاكن Interlaken حيث تناول غداءه، وتغيّب عن الفندق زهاء خمس ساعات. وبدا متعباً جداً لدى عودته. في حدود السابعة اشتكى من خفقان القلب فاستُدعي الطبيب. بعد فحصه فحصاً دقيقاً قال الطبيب ان الملك كان يعاني تصلباً في الشرايين، كما ان قلبه في حالة ضعف شديد. واعتُقِد ان ذلك حصل بسبب القلق من حوادث العراق. وقرر الطبيب زرقه حقناً، وظلت معه ممرضة ليلاً. في حدود الساعة 12:30 صباحاً اشتكى فيصل مرة اخرى توعكه، فاستُدعي اخوه، الملك علي الذي ذهب معه ووزيريه، الجنرال نوري ورستم حيدر إلى سريره. وحين وصلوا كان فيصل قد لفظ نفسه الأخير، فلم يتمكنوا من رؤية ملكهم المحبوب حياً. ابرق الجنرال نوري ورستم حيدر الخبر الحزين إلى بغداد فوراً.
استيقظ البغداديون صباح الجمعة 8 ايلول ليسمعوا خبر وفاة فيصل المأساوية فاصابهم الذهول. وسرعان ما ادركوا مقدار جحودهم الملك الذي وهب البلاد حياته. وكان الرأي العام ان لا احد يمكنه الحلول محل فيصل.
عقد مجلس الوزراء اجتماعاً فور تلقيه الأخبار، وبعد ساعتين كان الأمير غازي، نجل الملك الوحيد، الذي كان وصياً على العرش ابان غياب ابيه،يؤدي القسم امام اعضاء مجلس الوزراء، واُعلن بصفته الملك غازي الأول. في وقت مبكر بعد الظهيرة كان الملك الشاب يقود في موكب بين صفوف الجنود العراقيين في شوارع العاصمة الرئيسة من الإقامة الملكية إلى البلاط الملكي حيث تلقّى البيعة من وجهاء وممثلي شتى شرائح الشعب.
وجه الملك جورج الخامس الرسالة البرقية الآتية إلى الملك غازي:
علمنا انا والملكة ببالغ الأسى بوفاة والدكم العظيم المفاجئة وغير المتوقعة. كان جلالته، الملك فيصل الذي كان من دواعي سرورنا استقباله مؤخراً ضيفاً علينا، ونرجو من من جلالتكم تقبّل تعازينا القلبية بمناسبة هذه الخسارة المؤلمة التي تكبّدتموها انتم والأسرة الملكية والشعب بهذه الفاجعة الحزينة.
ويسعدني في الوقت نفسه ان اتقدم لجلالتكم تهانيَّ الودية على اعتلائكم العرش، مع خالص امنياتي القلبية لسعادة وازدهار حكمكم.
ارسل الملك غازي الرد الآتي:
تأثرت انا والأسرة الملكية بالغ التأثر ببرقيتكم المتعاطفة التي عبرتم فيها جلالتكم وجلالة الملكة عن تعازيكم القلبية بمأساة وفاة والدنا الجليل. اتضرّع إلى الله العظيم ان يُنعم على جلالتكم وجلالة الملكة وافراد اسرتكم النبيلة بركات العمر المديد والسعادة، وعلى شعبكم دوام الرفاهية. اشكر جلالتكم جزيل الشكر على تهنئتكم باعتلائي العرش، وآمل مخلصاً ان تتعزز علاقات الصداقة التي كانت موجودة في عهد والدي في مقبل الأيام.
في بيرن، حُنط جسد الملك فيصل، وحُمل التابوت الذي أُخذ إلى برنديسي على ظهر ارسالية نظام ادارة المستشفيات التي وصلت حيفا في 14 ايلول. تجمّع آلاف الناس وهتف المستثارون منهم “الله! الله!” حينما شوهد النعش. غادرت طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية حيفا وعلى متنها النعش إلى بغداد، فوصلت في وقت مبكر من يوم 15 ايلول، وكان في استقبالها الملك غازي والحرس الملكي.
كان الموكب الجنائزي الجدير ببطل قومي موكباً قلما شوهد لأي ملك سابق. حُمل النعش إلى الديوان الملكي، وسار مع الموكب آلاف المتفجّعين. وُضع على مقدمة النعش في الديوان الملكي بورتريه كبير لفيصل ملفوفاً بغلالة من قماش الكريب وحُمل إلى مقبرة في الأعظمية. شُيّد على القبر لاحقاً بناء مهيب ليصبح المقبرة الملكية.
سقوط حكومة الإخاء
عند اعتلاء الملك غازي العرش، قدّم رشيد عالي استقالته، وفقاً للدستور، في 9 ايلول. فكلفه الملك غازي بتشكيل وزارة في اليوم نفسه. بعد وفاة فيصل هاجم عدد من السياسيين البارزين رشيد عالي لإثارته المشاعر المناهضة للإنكليز ابان القضية الآشورية. استرضاءً لخصومه، صرّح رشيد عالي في خطاب القاه بمناسبة اعادة تنصيبه رئيساً للوزراء ان سياسة حكومته ستكون السياسة التي اتبعها الملك المرحوم فيصل. وفي الوقت نفسه صرّح لصحيفة الأوقات في 10 ايلول 1933 مؤكداً للحكومة البريطانية صداقته وموقفه الودي قال فيه:
ان سياسة العراق في ظل الملك الجديد ستكون السياسة نفسها التي اتُبِعت تحت قيادة والده المبجّل، اذ ان الحوافز الهادية هي المحافظة على الصداقة والتحالف مع حليفته العظيمة، بريطانيا العظمى. تلك هي السياسة التي اقرها البرلمان الحالي وستظل كما هي دون تغيير.
نشأ عن تصريحي رشيد عالي، اللذين قُصد بهما الإستهلاك الخارجي ردة فعل قوية لدى زملائه من الإخاء الذين خشوا ان تتنصل الحكومة من سياستها السابقة. وفي الوقت ذاته، انتهز الحزب الوطني الذي كان قد هاجم قادة الإخاء لمساومتهم على مبادئ حزبهم، الفرصة واصدر بياناً في 11 ايلول 1933 ندد بسياسة رشيد عالي بصفتها “رجعية” ومعادية لمصالح الأمة.
قرر رشيد عالي وهو يواجه هذه المعارضة ان يعزز موقف الحكومة بحل البرلمان واقامة انتخابات جديدة. اثبتت هذه الخطوة التي أُريد بها تعزيز موقف حكومة الإخاء انها كانت كارثية عليها. فقد رفض الملك المصادقة على طلب رشيد عالي الحل، بناءً على نصيحة معارضي رشيد عالي بعدم الإنغماس في تعاطفه مع الإخاء. فاستقال حكمت سليمان وزير الداخلية ومحمد زكي وزير العدلية احتجاجاً على ذلك. وقدم رشيد عالي استقالته الى الملك في 28 تشرين الأول 1933 محافظةً على وحدة الحزب، فقُبلت استقالته فوراً.
وزارتا المدفعي الأولى والثانية
مهّد علي جودت، رئيس الديوان الملكي، السبيل لجميل المدفعي، وهو وزير سابق غير متحزب، على تشكيل حكومة في 9 تشرين الثاني 1933. كانت وزارة المدفعي الوزارة الأولى في سلسلة وزارات تُشكّل على اساس شخصي محض لا على اساس خطوط حزبية. ضمت التشكيلة الجنرال نوري ورستم حيدر (لوزارة الخارجية ووزارة الأشغال العامة)، ويمثلان احد الفصائل، وناجي شوكت ونصرت الفارسي (لوزارة الداخلية ووزارة المالية) ويمثلان فصيلاً آخراً. صرّح المدفعي الذي لايؤمن بالسياسات الحزبية في 14 كانون الأول 1933، في حفلة اقيمت للداعمين المُرتَقَبين، انه في غنى عن الدعم الحزبي طالما كان يتمتع بثقة النواب البارزون في البرلمان.
ما كادت الحكومة الجديدة تباشر العمل حتى اخذ كل من فصيل نوري- رستم وفصيل شوكت- فارسي يعارض احدهما الآخر وهدّما أي عمل بناء يمكن تحقيقه. وذُكر ان وزير الداخلية الذي كان يسيطر على الصحافة، حرض عدداً من الكتاب المنتقدين على الإساءة إلى زميله، وزير الأشغال العامة باقذع العبارات المبتذلة. وبلغت الأمور ذروتها في مسألة مشروع الغرّاف. فقد اخذ رستم حيدر، وزير الأشغال العامة، على عاتقه انجاز المشروع ليصبح ري المساحات الواسعة حول الغرّاف في جنوب العراق ممكناً بانشاء سد على دجلة. عارض المشروع الذي وافق عليه مجلس الوزراء فصيل شوكت— الفارسي على اساس عدم توفّر الموارد واقترحا تأجيل العمل ككل. وكان صالح جبر، وزير التربية يشارك رستم في حماسته للمشروع، غير ان هذين الإثنين اللذين ينتميان إلى الطائفة الشعية كانا متهمان بتأييدهما المشروع لأنهما شيعيان، لأن المستفيدين من هذا المشروع سيكونون من هذه الطائفة. هدد رستم، بدعم من صالح بالإستقالة؛ واذ اخفق المدفعي في المصالحة بين الفصيلين، قدّم استقالته في 10 شباط 1934.
كلّف الملك المدفعي مرة اخرى بتشكيل وزارة جديدة. اعاد المدفعي تشكيل وزارته في 21 شباط 1934 مستبعداً الفصيلين. إلاّ ان الحكومة الجديدة التي شُكّلت من رجال الحياة العامة الأقل تأثيراً اثبتت انها اضعف من ان تفرض احترامها أو ان تدشّن أي عمل بنائي. فكان ثمة تردّي اداري واضح يعود في الحقيقة إلى رخاوة السيطرة الحكومية في حقبة مابعد الإنتداب، ولكن حكومة المدفعي حُمِّلت مسؤوليته. عبّر الملك عن رغبته بتغيير الوزارة لعدم قناعته باداء حكومة المدفعي، فقدّم المدفعي استقالته فوراً في 25 آب 1934.

وزارة علي جودت
عند سقوط وزارة المدفعي انتهز علي جودت، رئيس الديوان الملكي، الفرصة ليعقبه رئيساً للوزراء في 27 آب 1934. احتفظ على جودت بحقيبة وزارة الداخلية لنفسه إلى جانب رئاسة الوزراء وقدّم وزارة الدفاع للمدفعي. وأُسندت وزارة الخارجية إلى الجنرال نوري، وبعد ثلاثة اشهر، عُيّن رستم حيدر في 25 تشرين الثاني رئيساً للديوان. وهكذا لم يضمن علي جودت لوزارته دعم جماعة الجنرال نوري فحسب، بل وحافظ على صلاته الحميمة بالمدفعي.
في 30 آب اعلن علي جودت سياسته التي كانت في الحقيقة برنامجاً اصلاحياً متواضعاً، وفي 4 ايلول صادق الملك على طلبه بحل البرلمان. علينا ان نتذكر ان طلباً كهذا من حكومة الإتحاد كان قد رُفض مما ادى إلى سقوطها في تشرين الأول 1933. واتُهِم علي جودت الذي كان حينها رئيساً للديوان بالإشارة على الملك بعدم الحل. لهذه الحقيقة بالذات يجب أن نتتبع المشكلة الأولية التي واجهها علي جودت رئيساً للوزراء، ذلك ان حزب الأخاء بدأ فوراً بمهاجمة وزارته لحلها البرلمان بينما عارض بشدة حله في ظل حكومة الإخاء. وحين طلب منه مؤلف هذا الكتاب تفسيراً لذلك، ردّ علي جودت بحكمة ولكن باعتذار ان سنةً قد مضت منذ ان طلب رشيد عالي حل البرلمان، وان البلاد كانت بحاجة إلى اصلاح عاجل استوجب استشارة الناخبين. كان هذا التبرير بالرجوع مباشرة إلى الناخبين غالباً ما يُقدَّم لتعليل اللجوء إلى الحل. ولكنه حي يُحلَّل في ضوء الهيمنة الشديدة المستمرة على الإنتخابات، فان حل البرلمان يكاد لايعني شيئاً سوى استبدال الأعضاء المعارضين في البرلمان باعضاء آخرين من اصدقاء الحكومة ومؤيديها.
اتاحت الطريقة التي اجريت بها الإنتخابات فضاءً واسعاً للنقد. وصرّح علي جودت في معرض رده على النقد الموجه إليه بأنه اتبع “الإجراءات نفسها كما في الإنتخابات السابقة”. غير انه ربما كانت الطريقة التي اجريت بها الإنتخابات الجديدة اكثر سلطوية، حتى انها بالكاد اعطت حزب الإخاء اثني عشر مقعداً في المجلس الأدنى. الحقيقة ان الإنتخابات السابقة ما كانت تُجرى عادةً إلاّ لملء المجلس بالمرشحين من مؤيدي الحكومة. لكن الأوساط السياسية كانت تنتقد الإنتخابات دائماً اذا اخفقت الحكومة بضم عدد من معارضيها السياسيين. والنقد الأقسى هو ان تستثني الحكومة عمداً شخصيات بارزة ذات اهمية سياسية من اختيارها. كان لدى شخصيات كهذه، حين تُشطب، من القوة مايكفي لإحراج الحزب الذي في السلطة. تجاهلت حكومة علي جودت هذا الأمر وخلقت ما نُدد به بصفته ادنى مجلس تمثيلي شهده العراق. ومن بين اخطاء علي جودت استبعاده عبد الواحد سكر من قائمة المرشحين. كان عبد الواحد الذي ميّز نفسه في ثورة العراق 1920 احد شيوخ العشائر ذوي النفوذ والتأثير في لواء الديوانية، وبصفته رئيس عشائر فتلة، رأي في استبعاده من البرلمان اذلالاً كبيراً. لقد اثبت انه المعارض الأكثر احراجاً للحكومة. وإلى ذلك فان عدداً من سكان المدن (اكثرهم من بغداد) انتُخِبوا نواباً عن مناطق عشائر الديوانية والمنتفك، الأمر الذي يعني تقليص عدد شيوخ العشائر في البرلمان. وحيث ان سكان المدن هؤلاء كانوا سنة، ولو انهم انتُخِبوا على اساس خلفيات سياسية أو شخصية محضة، فان الشيعة فسّروا انتخابهم على انه اجحاف بمصالح شيعة مناطق الفرات الأوسط. وبالمثل، وجد حزب الإخاء نفسه بالإثني عشر مقعداً من اصل ثمانية وثمانين ازاء تفوق عددي عليه في برلمان مزدحم بمؤيدي الحكومة.
ربما ما كانت ادارة علي جودت الإنتخابات لتواجه هذا النقد لو كانت الأوضاع العامة في البلاد مقنِعة. فقد ورثت الحكومة، حقيقةً، اهمالاً وعدم قناعة متزايد بادارة الحكومة بعد انتهاء الإنتداب. ولا شك ان هذا الوضع نشأ بسبب تغيّر الوزارات المتتابع وازدياد النقل المسؤولين الحكوميين وتعيينهم على أسس سياسية. ادركت الحكومة هذا التدهور في نظام الإدارة وبُذلت الجهود لتحسين الأوضاع. لكن حزب الإخاء ركز هجومه على علي جودت وجعله كبش فداء الوضع اجمالاً. وحين انعقد البرلمان في 29 كانون الأول 1934، شنّ اعضاء الإخاء، بقيادة ياسين الهاشمي ورشيد عالي هجوماً حاداً على الطريقة التي أُجريت بها الإنتخابات. وفي رده على خطاب العرش، اعلن مجلس الأعيان رسمياً عن رأيه المناهض لحل البرلمان وانتقد الإنتخابات على انها “أُجريت وفقاً لإجراءات خاصة معرروفة”. كان ثمة عداء واضح للحكومة في مجلس الأعيان، ولكن وفقاً للدستور، لايجوز للمجلس الأعلى الإطاحة بالحكومة اذا حصلت على ثقة المجلس الأدنى. ان البرلمان يخفق في الحقيقة بتهيئة قناة سلمية لتغيير الوزارة طالما كانت الحكومة مسيطرة على الإنتخابات. كانت المعارضة في الصحافة وفي اوساط بغداد السياسية المنددة “باستبداد” حكومة علي جودت تُقابل بسهولة عن طريق الرقابة المتشددة والدعاية السياسية المضادة. وسرعان ما ادرك حزب الإخاء ان تحريضه السلمي ضد الحكومة ليس له قيمة سياسية.
انتفاضات قبائلية في الفرات الأوسط
أوحى الإخفاق بتحقيق أي نتائج فورية في المدن إلى قادة الإخاء باستغلال مظالم القبائل. كان حكمت سليمان هو الذي اقترح الفكرة العبقرية باثارة القبائل على الحكومة. في كانون الأول 1934 كان حكمت سليمان يقيم حفلات عشاء في غالب الأحيان لأعضاء الإخاء البارزين في منزله بالصليخ، شمال بغداد. كانت هذه الحفلات تنقلب بعد العشاء إلى اجتماعات سريّة، وتطرّق قادة الإخاء اليقظون الذين لايقرّ لهم قرار إلى فكرة اثارة تمردات القبائل على السلطة المركزية. لم يكن ياسين الهاشمي في البداية متحمساً جداً للفكرة واخذ يتغيب عن اجتماعات الصليخ. لعله رأي عبثية معارضة الحكومة باسلوب كهذا، وكان شخصياً مازال على علاقة طيبة بعلي جودت. ولكن لما احرز رشيد وحكمت اللذان كان لهما تأثير قوي على قبائل الديوانية وديالى، تقدماً ناجحاً في خططهما، تسيّد ياسين اخيراً المشاركة بفاعلية في مؤامرة الإخاء.
بلغت تجمعات الصليخ ذروتها في اجتماع عُقد في منزل رشيد عالي الواقع في الصليخ ايضاً في 7 كانون الأول 1934 عندما تعاهد قادة الإخاء في وثيقة تحريرية على القيام بحركة مشتركة ضد الحكومة. نصّت الوثيقة التي عُدَّت ملزمة كالقرآن، وكان حكمت سليمان يدعوها “الكتاب المقدّس” على عدم جواز قبول عضو الإخاء أي عرض من الحكومة أو التوصل إلى تفاهم معها حتى الإطاحة بعلي جودت.
نفّذ عبد الواحد سكر خطة الصليخ في الديوانية. كان عبد الواحد عضواً في حزب الإخاء منذ زمن طويل وقد ميّز نفسه كقائد وطني في ثورة هام 1920 ضد الإدارة البريطانية. وقد ازدادت ثروته وتعززت مكانته الإجتماعية عن طريق نشاطه السياسي، إلاّ ان طموحه جرّه إلى نزاعات على الأراضي مع شيوخ القبائل المجاورة. كي يطوّق علي جودت نفوذ عبد الواحد كان يميل إلى تسوية نزاعات الأراضي لصالح جيرانه؛ لكن هذا الأمر، من الواضح انه سيزيد من تلهّف عبد الواحد للإطاحة بحكومة علي جودت ومساعدة حزب الإخاء على الوصول إلى السلطة. وعلى الرغم من ان تأثير عبد الواحد مُحدد بالديوانية، فانه كان قادراً على ان يمدّه إلى كل الطائفة الشيعية في الفرات الأوسط بالدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، وطالب الحكومة باصلاحات فورية.
اعاد ترشيد عبد الواحد دوافعه السياسية بالدفاع عن الشيعة، فتح مسألة العلاقات السنية- الشيعية. وحيث ان المسألة عُدَّت دينية من حيث الجوهر، قرر قادة الشيعة الرجوع إلى المرجع الشيعي في النجف، الشيخ محمد كاشف الغطاء. وجّه عبد الواحد ومحسن ابو طبيخ وعلوان الياسري (الذين كانوا يتصرفون كضباط ارتباط بين حزب الإخاء والقبائل الشيعية) رسالةً إلى الشيخ كاشف الغطاء في 9 كانون الثاني 1935، راجين منه ان يعقد مؤتمراً لشيوخ القبائل في النجف، يرأسه الشيخ كاشف الغطاء نفسه لمناقشة مسألة الإصلاحات في مناطق الفرات الأوسط. عُقد المؤتمر في 11 كانون الثاني ونوقشت المطالب الشيعية الرئيسة. كان عبد الواحد وقادة الإخاء الآخرين مهتمين بتحقيق نتائج سياسية فورية اكثر من اهتمامهم بتحقيق الإصلاحات. ولذلك فقد ذهبوا إلى ان الإصلاحات لايمكن ان تبدأ إلاّ بعد الإطاحة بوزارة علي جودت. وبعد مناقشات مسهبة وطويلة قرر المؤتمر تقديم التماس إلى الملك ورد فيه: (1) على الحكومة الحالية ان تستقيل لصالح حكومة اخرى اكثر تمثيلاً للشعب؛ (2) يجب حلّ البرلمان لأن الإنتخابات الأخيرة لم تُنفّذ بطريقة صحيحة؛ (3) يجب احترام القوانين وتطبيقها تطبيقاً مناسباً.
توجه شيوخ القبائل إلى بغداد حاملين الإلتماس بأيديهم وطلبوا التقاء الملك في 14 كانون الثاني. اشتكوا على الحكومة وطلبوا ازاحتها. ولكن لم يكن في الأفق مؤشر على التغيير.
في الأثناء كان الوضع في الديوانية يتدهور، وكانت الأسلحة تُباع وتُحمل ااكثر من أي وقت مضى. واخذت انباء رقصات الحرب القبائلية التي تُظهر العداء للحكومة تتوالى تباعاً إلى بغداد. واصبح التمرد اكثر جدية في شباط وانتشر في كل المناطق جنوبي الحلة.
لكن هذا لم يكن كل الأمر. فقد كان قادة الإخاء في هذه الأثناء منغمسين بتحريض شيوخ قبائل اخرى في الشمال للقيام بتمرد مماثل على الحكومة. وحين فكر علي جودت بالقضاء على هذه التمردات بالقوة، نصح حكمت سليمان صديقه الجنرال بكر صدقي، قائد قوات الشمال، ألاّ يقدم عوناً فعالاً للحكومة.
بلغت الأمور ذروتها حين قاطع احد عشر عيناً من اصل عشرين اجتماعات مجلسهم فيما كان تمرد القبائل يستعر في الفرات الأوسط. واذ واجه علي جودت مجلس اعيان معادٍ وعجزه عن مجابهة التمرد، قدّم استقالته في 23 شباط 1935.
*المادة :الفصل الثالث من كتاب ــــــ العراق المستقل :دراسة في السياسات العراقية منذ عام 1932 ــــــ لمؤلفه مجيد خدوري ،الذي نشره عام 1951،برعاية المعهد الملكي للشؤون الدولية ، لندن ،المترجم : وليد خالد احمد
kaisiwaleed@gmail