التاريخ يمثل سجل النشاط الإنساني منذ عصر التدوين،يقدم تجربة الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة،على شكل دروس جاهزة،قد تكون مفيدة،وكانت مشكلة التاريخ المُدوَّن منذ البداية هي غياب الحقيقة وعدم المصداقية،فالتاريخ كتبته السلطة في الأغلب،وهو بيان انتصار الحاكمين ووسيلة تغييب المعارضين المهزومين!
التاريخ وفق المعايير الأكاديمية الحديثة ينبغي أن لا يعتمد على الذكريات فقط، وبخاصة عندما تكون الوقائع المزعومة منسوبة لطرف واحد منحاز،بل يجب أن تعتمد المدونات التاريخية الجديدة على الوثائق والشهود والأدلة والتحليل الدقيق، بدون تحيز أو أغراض ذاتية أو مصالح حزبية أو فئوية،ومراعاة الظروف التاريخية واختلاف الأزمان والشخصيات والمواقف،وذلك ما يجعل كتابة التاريخ الحقيقي من أصعب أنواع التأليف،في العصر الحالي، مثلما كانت قبله،وذلك على الرغم من وفرة الوثائق والشهود حالياً،وسهولة الوصول إلى المعلومات عبر الفضاء الإلكتروني!
برزت ظاهرة جديدة مثيرة للاهتمام والمتابعة في السنوات الأخيرة،وهي (البرامج الحوارية التاريخية) التي تدون التاريخ بوسيلة لم تكن معروفة في العصور السابقة،من خلال النص والصوت والصورة( الفيديو)،عبر شاشة التلفزيون أو شبكة الإنترنيت وتطبيقاتها المعروفة،وتعتمد هذه البرامج على متحدثين أمام الكاميرا بصفة صانعي الحدث أو مشاركين فيه أو شهود عيان أو مؤرخين أو محللين وغيرهم،وهذه الطريقة في تقديم الوقائع التاريخية على طبق من الصور الجذابة والمثيرة والساخنة قد تجعل الكثيرين يتوهمون أنهم يشاهدون الحقيقة الكاملة،ولكن سرعان ما يتبين الاختلاف والخلاف بين المتحدثين،في رواية الحدث نفسه،فكل منهم ينظر إلى الواقعة التاريخية، حتى لو كانت قريبة زمنياً، من وجهة واحدة أو زاوية منحازة،ومن النادر أن نقترب من الرواية الحقيقية في ظل وفرة المعلومات وتباينها، مثلما كنا نعيش المشكلة نفسها في ظل شحة المعلومات وندرتها سابقا!
في عجالة خشية الإطالة، يمكن أن نشير إلى نماذج بارزة ومنتشرة من البرامج التاريخية، التي تدور أغلبها في محيط زمني لا يتجاوز القرن الواحد،ولا تذهب أبعد من تاريخ تأسيس المملكة العراقية ثم الجمهورية العراقية،من أبرزها برنامج(شهادات) الذي يعده ويقدمه،الصحفي والمؤرخ الدكتور حميد عبد الله،الذي تنقل خلال نحو عشر سنوات بين أربع قنوات فضائية، ويبث الرنامج حالياً، كل أسبوع،من قناة(Utv)،ثم قام المقدم نفسه بتأسيس قناة يوتيوب بعنوان(تلك الأيام) يتحدث عبرها عن الأحداث التي تناولها الشهود في( برنامج شهادات) ويروي الوقائع وفق تحليلاته الشخصية ووثائقه المتوفرة،ويبدو الدكتور حميد عبد الله،سواء بصفته مقدماً أو مؤرخاً،أقرب إلى القراءة النقدية للحوادث التاريخية، فهو يختار ضيوفه بعناية، ويسألهم بذكاء وموضوعية،ويقاطعهم ويناقشهم ويستفزهم،ومن ثم يجعل المشاهد أمام عرض مصوَّر لا يخلو من الإقناع،وبخاصة لمن يريد أن يعرف الحقائق المخفية والجرائم المنسيّة، أما منتقدوه فقد اختاروا الوقوف في الخندق المقابل وفق مصالحهم وأهوائهم وتاريخهم، ولا عجب فالتاريخ يروى ويكتب وينشر للجميع، ويقرأه كل شخص من زاويته الخاصة!
في عمل موسوعي وجهد شخصي، وبحث تاريخي أقرب إلى الموضوعية والمصداقية يتصدى الصحفي شامل عبد القادر لكتابة أحداث أكثر من نصف قرن من تاريخ العراق الحديث،في مؤلفات عدة موثقة،ويتحدث في برامج تلفزيونية مثل(العراق في قرن) عن مضمون مؤلفاته ويروي التاريخ ويحلل أحداثه من وجهة نظر الكاتب الباحث عن الحقيقة رغم تعقيدات الظروف وملابساتها.
من معطف برنامج( شهادات) ظهر ضابط في جهاز الأمن السابق،يدعى صباح الحمداني،كان ضيفاً عند الدكتور حميد عبد الله في برنامجه ثم تحول إلى(يوتيوبر) ومؤرخ وشاهد على حقبة تاريخية لا تزيد عن ثلاثة عقود في ظل حكم حزب البعث،وهو يروي التاريخ السري لذلك العهد المضطرب، ويكشف ما حاول النظام السابق اخفائه أو تحريفه من حوادث وجرائم كثيرة، ومثلما حظي الحمداني بتعليقات الكثير من المعجبين، وبخاصة ضحايا النظام الصدامي، فإنه لم يسلم من اتهامات المناوئين!
في الجهة المقابلة يقف المحامي سليمان الجبوري الذي تولى الدفاع عن أعضاء القيادة البعثية السابقة، وحصل منهم على أسرار ووثائق واعترافات، بصفته محامياً، لكنه حولها إلى برنامج يوتيوب بعنوان( الحقائق بالوثائق) وسار في برنامجه في طريق المحاماة المنحاز وراح يدافع عن موكليه ولا يمكن أن يكون مؤرخاً محايداً، فهو يمتدح رموز النظام السابق ويسوغ أخطائهم ويحاول جاهداً تبييض صفحات ماضية يتفق أغلب العراقيين والعالم على أنها سوداء ملطخة بالدماء، ومن خلال مساجلة واتهامات متبادلة بين صباح الحمداني وسليمان الجبوري قد تتكشف حقيقة أن الجبوري يسعى من خلال برنامجه إلى الحصول على بعض الأموال من بقايا النظام السابق والمتاجرة بوثائق موكليه!
هناك قنوات يوتيوب لشخصيات أخرى لم تحظ بالانتشار الواسع، لأنها لا تبحث عن الحقيقة، كما يبدو، بقدر سعيها إلى الشهرة أو المال،ويستطيع المتابع أن يلاحظ بسهولة مقدار الزيف والتلاعب والتناقض في أحاديثها عن وقائع وشخصيات ما تزال حيّة في ذاكرة العراقيين.
لكل من هؤلاء المتحدثين المؤرخين عبر الشاشات، جمهوره، دون شك،ولكن تظل الحقيقة هي الضحية في كل وقت، وبخاصة خلال اوقات الحروب والأزمات والتحولات الكبرى!
في ختام هذه المقالة لا يفوتني التساؤل عن دور(مؤسسة الذاكرة العراقية) التي كان من مؤسسيها البارزين الإعلامي ورئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، بعد سقوط النظام السابق،وإزاء هذا التاريخ المصوَّر، وبعضه مزور، ألا ينبغي إعادة احياء هذه المؤسسة من خلال ادارتها بكفاءات حقيقية وتكليفها بجمع وتنظيم وحفظ كل البرامج والوثائق التي تناولت تاريخ العراق الحديث لكي لا تظل الحقيقة غائبة عن ذاكرة الأجيال الحالية واللاحقة؟!