التأريخ كالعجينة يصنع منها الأقوياء ما يرغبون ، ويوظفون غيرهم لتمجيد أفعالهم وتسطير مآثرهم ، وحجب مثالبهم ، ويغدقون عليهم فيكتبون ، فكيف يصح في الأفهام تصديق ما يسطرون؟
الأقوياء يتأسدون ، وعلى الضعفاء يتسيدون , ولفرائسهم يمتهنون ويعذبون , وإنهم المنتصرون , وبأمجادهم يتفاخرون , وحولهم الرعية صاغرون , وفي حرمانهم وخنوعهم يتمرغون.
الكثير من المدونات مكتوبة بمداد الكراسي ، ويتضح ذلك بإخراجها أصحابها من بشريتهم ، وتضفي عليهم ما لا يتوافق وبديهيات الطبيعة والسلوك.
مشكلة التأريخ أن صناعه لا يكتبونه ، ومن يكتبه يمزج بين أهوائه وتصوراته ، فيرسم صورة قد تقترب أو تبتعد عن الحدث ، فيتحول ما دونه إلى خبر بحاجة إلى تمحيص وتدقيق.
“إذا شط جيل خط من جاء بعده ، أكاذيب عنه بالثناء تزوق ، فما كتب التأريخ في كل ما روت ، لقرائها إلا حديث ملفق ، نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا ، فكيف بأمر الغابرين نصدق”!!
كذا التأريخ يأتينا بوهمٍ…ويمنحنا مزاعم ذات بهتِ
لماذا ندّعي صدقا بكذبٍ…وقد ظهرت أساطيرٌ كنعْتِ
المؤلم في مجتمعاتنا أن التأريخ يقودنا ، وهو حمّال أوجه ورؤى وتصورات وأضاليل ، تنطلي على الناس ، ويتخذونها صراطا لتمرير الويلات والإستثمار في التداعيات ، وبسبب السقوط في حبائل التأريخ المفتعل والمصمم على مقاسات الرغبات والنفوس الأمّارة بالسوء ، تعيش الأجيال في مثرمة الحياة ، وتتحول أيامها إلى مآسي ونكبات.
الكتب كثيرة بمجلداتها ومدوناتها وموسوعاتها ، وقلة منها مكتوبة في زمن الحدث ، ومعظمها وضعت على الورق بعد عقود أو قرون، وهي منقولة عن أقوال تداولتها الأجيال ، وعندما نتأملها بمنظار زمانها ومكانها ، وما في مجتمعات غيرها ، تتبين عوراتها ،فالسابقون ليسوا أذكى من اللاحقين.
وذلك يعني أن رؤية ما مضى بعيون العصر ستكشف ما لا يخطر على بال من الهفوات والعبارات المنافية لطبيعة الأشياء ، وكأنها أشبه بالتهاويل المتخيلة لإخراج الشخص المعني من بشريته ،وكلما ازدادت المسافة الزمنية ، اكتسب الهدف توصيفات لا يعرفها.
وسيبقى التأريخ يؤرقنا ويستنزف وقتنا ، ويبدد تطلعاتنا ، فنتناسى الحاضر والمستقبل ، ونمعن بالغطس في الماضيات الغابرات القاهرات ، ونستحضر منها السيئات ، ونتجاهل المعطيات الإيجابية العلياء.
فهل أن ما تحت الثرى يتسيّد على ما فوقه؟
و”الحياة بلا فائدة موت مسبق”!!
أمواتنا قادتنا…أحياؤنا أمواتنا!!