19 ديسمبر، 2024 3:33 ص

البُعد المطلوب لرؤيا الوقائع كما هي ضمن التوريد الجمالي

البُعد المطلوب لرؤيا الوقائع كما هي ضمن التوريد الجمالي

من العناصر الضرورية في القصة القصيرة هما التكثيف والتركيز ومتطلبات أخرى فرضها التحولُ الذي طرأ على الفن القصصي بعد الحرب العالمية الثانية حين مسّت المتغيرات الذات الإنسانية فأطلقت مكنوناتها للتعبيرعن حاجاتها ومنها التوق للحرية وتقرير المصير ،وقد عد الكاتب الإيطالي البرتو مورافيا أحد الكُتاب المهمين في فن القصة القصيرة ذات الإتجاه الواقعي رغم ماتتمتع به مخيلته من خيال خصب وقدرة على خلق المصادفات المؤثرة في العمل القصصي ،ولاشك أن طغيان الإسلوب الواقعي والذي بدأ في روسيا وأمريكا ثم إنتشر بعد ذلك ضمن فرنسا وبريطانيا كان بمثابة خلق بيئة جديدة تسع الحوادث التي مرت بها المجتمعات آنذاك وكان لابد من إيجاد ما يمكن تسميته بحلقة الوصل مابين المشكلات النفسية التي عانى منها المجتمع الغربي وبين إحساساته الإنسانية بعد كارثتي الحربيين الكونيتين ،وكانت تلك حاجة مورافيا نفسه لتوظيف قدراته ضمن هذا المنحى الذي وجد به ضالته لرسم أفكاره وتخطيط شخوصه وأختيار أماكنه المحددة والتركيز على الأهم منها في مواجهة طغيان إشكالياته التي لازالت ترفض التحرر من أسلوبه الرمزي وخياله المنفلت وهو ماجعل مورافيا أن يكتبَ في مقدمة (إمرأة من روما ) إن شخوصه المحليين وكذا أماكنهم وأزمنتهم وطريقة إختياري لهم بأن يتحدثوا بلغة المتكلم لم أجد أن يتحدثوا بلغتهم المحلية كوني لاأجد غير لغة الأدب هي اللغة القادرة على التواصل بشكل ممتع وحساس مع متطلبات حاجات الذات للوصول الى قدرات أرقى في التعبير لذلك نهضت اللغةُ بشخوصي ومهما كانت اللغة المحلية التي إستخدمها البعض من القصاصيين تحت غطاء الوقائع فأنها لن تأتي بالبعد المطلوب لرؤيا الحقيقة كما هي ضمن التوريد الجمالي للأحداث والوقائع ،إن مورافيا يرسم المعطيات كماهي بل تراه يحرص على نقلها بشكلها المألوف في الذاكرة فعندما يتحدث عن محل للحلاقة في أحد قصصه يجعل المتلقي يدخل في ذاكرة هذا المحل قبل دخوله المعتاد اليه أي أنه يتقدم أولا صوب العام ثم يبدأ تفكيك العام بمستويات بطيئة مع الإمساك بالمفاصل المهمة للمرئي لينشئ من خلالها حبكته غير المتوقعة أي أنه حين يضع أمامنا الأشياء المعلومة والتي تشبه القوانين فأنه يأتيك بنتائج غير متوقعة بوجود لغة شبه مألوفة تصلح إصطلاحا لوصفها بأنها لغة الواقع لكنه سرعان ما يعطي رشقات من المغايرة في إسلوبيته تعمل على تحفيز الذهن وسرعان مايتم تقبلها بل والإنسجام مع المتغيرات الصورية بين منحنيات الأسلوب ففي طفلهما السابع يقول مورافيا عندما زارتنا السيدة الفاضلة مندوبة جمعية رعاية الأحداث طلبت منا بيان أسباب إنجابنا لهذا العدد من الأطفال بعد أن رزقنا بالطفل السابع ، لقد أخبرتها زوجتي بالحقيقة حين قالت لها (لو كان باستطاعتنا أن نملك مالا لقضينا أمسياتنا في السينما أو في نواد الترفيه وحيث لايوجد المال نذهب الى سرير الزوجية مبكرين …).
إن السيطرة على الحدث ضمن كثافته والتركيز على معطياته بتفاصيله المختصرة والمؤثرة في سير السرد القصصي هي إحدى العلامات الفارقة في إسلوبية مورافيا وهناك العديد من الشواهد
لهذه العلامات الفارقة في مجموعته القصصية حكايات من روما سواء في قصته ( المتصابي – طفلها السابع – الأنف الملعون –مزاح في جوحار –فتاة من شوزاريا – ليس ضروريا التنقيب عميقاً .. ) وغيرها من القصص التي إحتوتها مجموعته تلك ، ولعله شكل سابقه أخرى حين يضع نفسه بدور الرجل غير المُرضى عنه أو الرجل الذي يشبه الرجال السيئين أو الرجل صاحب الإحساس غير المتقد وكما هو نراه في سرده ضمن هذا الوصف أو ضمن وصفه حين يريد أن يكون في أحد قصصه رجلا مثاليا وفي كليهما ورغم إستخدامه للغته الأدبية المحدودة في مفرداتها فأنه يثير الإعجاب في صنع تكامل النص السردي وإتقانه لمشغله الدرامي ضمن لغته تلك لتحقيق هدفه الإنساني ،

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات