23 ديسمبر، 2024 4:57 م

البيشمركة والجيش العراقي حدود الوصل والفصل

البيشمركة والجيش العراقي حدود الوصل والفصل

أعاد الاحتكاك الذي حصل مؤخراً بين قوات الجيش العراقي في محافظة الموصل ” نينوى” وبين قوات البيشمركة الكردية العراقية، أعاد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة لصدامات دامت لعقود من السنين، وجدد في الوقت نفسه مخاوف مستمرة لكلا الطرفين، فالحكومة العراقية ساءها كثيراً أن تتصدى قوات كردية عراقية، وهي جزء منها، ولكنها تابعة لحكومة إقليم كردستان، لقوات الجيش العراقي التابعة للحكومة الإتحادية، وقوات البيشمركة اعتبرت المناطق التي يريد الجيش العراقي دخولها هي من عائديتها وإذا سمحت اليوم بدخولها، فقد يتكرر الأمر في مناطق أخرى، الأمر الذي قد يؤدي الى تقليص نفوذها في حين هي تحاول توسيعه، ولا سيما في ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها سواء عن طريق سياسة القضم التدريجي أو الأمر الواقع، وهو نهج يتبعه كلا الفريقين منذ زمن ليس بالقصير.
وغالباً ما يترشّح للتفكير سؤال في غاية الأهمية، لأنه يربط شكل العلاقة بين الطرفين وهو الذي يمكن أن يوضع على النحو الآتي: كيف بإمكان  قوات إقليم كردستان ” البيشمركة” منع قوات اتحادية عراقية من دخول بعض المناطق، بحجة أنها متنازع عليها، علماً بأن قوات البيشمركة هي جزء من تشكيلات الجيش العراقي، مرتبطة به وتتقاضى رواتبها منه، لكنها تأتمر بأمر حكومة الإقليم ووزير البيشمركة، وهي أقرب إلى وزارة الدفاع الكردية. ثم ماذا سيترتب على ذلك خصوصاً إذا تكرّس الأمر الواقع ليصبح واقعاً؟ وماذا سيبقى منوحدة الإرادة والعمل والقرار الموحد لمؤسسة عسكرية؟
وإذا افترضنا وجود تنازع حول بعض المناطق ” العراقية” أساساً سواء كانت كردية أم عربية أم تركمانية أم آشورية أم مختلطة، وهي الغالبة  فإن من المناسب إيجاد تفاهم حول سبل عدم استفزاز أي طرف للأطراف الأخرى، والعمل على حفظ التوازن لحين إيجاد حلول سياسية أو قانونية، علماً بأن هذه المناطق واسعة حيث تمتد من محافظة الموصل الى محافظة دهوك وتشمل كامل محافظة كركوك وأجزاء من محافظات صلاح الدين وديالى والكوت وغيرها.
لعلّ الأمر له علاقة مباشرة بتدهور عنصر الثقة في العلاقة بين الإقليم والسلطات الاتحادية وازدياد عوامل الشك والريبة إلى حدود كبيرة، بحيث بلغت ذروتها الآن، ولم تصل إلى هذه الدرجة من القلق والخشية منذ احتلال العراق العام 2003 وحتى الآن، حيث يتم لأول مرة تعاظم المخاوف من مواجهات مسلحة وتحشيد قوات وارتفاع نبرة الخطاب السياسي الذي يصل أحياناً إلى درجة العنف، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على صعيد التهديد والوعيد وانقطاع حبل المودّة بين بغداد وأربيل، والأدق بين حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي وقائمة دولة القانون تحديداً، وبين التحالف الكردستاني، وخصوصاً مع رئيس الإقليم مسعود البارزاني.
إن هذا الوضع المعقد والمنذر بالشك، هو الذي يقف وراء عدم التنسيق بين الطرفين وبالتالي إلى منع قوات البيشمركة لقوات عراقية من دخول بعض المناطق والذي يعني فيما يعنيه، الاستعداد لمواجهة مسلحة، حتى لو كانت محدودة، لكن نتائجها السياسية ستكون مدمّرة على كامل العملية السياسية، ولو لم تتدخل الحكمة وبعد النظر وحساب العواقب الوخيمة لانقاذ الموقف، لشهدنا احتمالات الصدام مع لغة الشحن السياسي والتصعيد الإعلامي، تلك التي تصل نتائجها إلى ما لا تحمد عقباها.
وقد تعاظمت حدّة التوتر خلال الأشهر التسعة الماضية، مترافقةً مع عدد مثير ومستعصي من القضايا، أو تلك التي لم تجد حلولاً لها حتى الآن، الأمر الذي انعكس على تصدّع العلاقات السياسية وارتفاع وتيرة المطالبة بتنحية المالكي، تلك التي اتخذت عنوان “سحب الثقة” من رئاسته للوزارة والطلب من الإئتلاف الوطني تعيين محلّه، الأمر الذي استغرق وقتاً طويلاً وأخذ وشدّ، لاسيما بدخول عناصر كثيرة داخلية وخارجية، مثل القائمة العراقية ورئيسها د.إياد علاوي والسيد مقتدى الصدر وجماعته ولا سيما كتلة أحرار، إضافة إلى كتلة التحالف الكردستاني، دون أن ننسى العوامل الإقليمية، خصوصاً إيران وزيارات قاسم سليماني مسؤول الملف العراقي، وهو ما عبّر عنه السيد الصدر في مذكراته التي كتبها مؤخراً.
وما زاد الطين بلّة هو استضافة رئيس الجمهورية جلال الطالباني نائب الرئيس طارق الهاشمي في السليمانية في بداية الأمر، ثم انتقاله إلى أربيل باستضافة مسعود البارزاني، وهو ما اعتبرته حكومة بغداد استفزازاً لها ومخالفة صريحة للدستور، حين يتم إيواء أشخاص متهمين بالإرهاب، حيث كانت بغداد تستعد لمحاكمة الهاشمي غيابياً. وقد نشبت الأزمة بين بغداد وأربيل على خلفية هذا الحدث الذي صبّ النار على الزيت لتشتعل الأزمة وكانت بوادرها، بل مقدماتها قد لاحت في الأفق، خصوصاً بزيادة حدّة التوتر، وما أن جاءت هذه المشكلة حتى اشتعلت الأزمة، بل أصبح طريق الحوار والتفاهم غير سالك. وكل فريق ازداد تمترساً من جانبه، وحاول استخدام أوراق مختلفة ضد خصمه.
لكن انسحاب جلال الطالباني من مجموعة المطالبين بسحب الثقة من المالكي، بحجة أنه رئيس وراعي بحكم منصبه الدستوري أضعف من التحالف الكردستاني من جهة، ومن جدية المطالبة بسحب الثقة من جهة ثانية، وحتى لو كان الأمر بضغوط إيرانية، فإن المالكي استثمر الموقف على أحسن وجه واستعاد زمام المبادرة، فطرح مشروعاً للاصلاح السياسي، لا زال غامضاً وغير معلن، بل أن التشكيك بجدواه سبق الدخول في حوار بشأنه ومعرفة تفاصيله، كما فشل من قبل مشروع الحوار الوطني الشامل بعد أن استهلك من الوقت بضعة أشهر.
إن مشكلة البيشمركة مع حكومة بغداد ترتكز على فهم خاطئ من جميع الأطراف حول شكل العلاقة الملتبس الذي أوجده الدستور العراقي الذي ولد ومعه عناصر ضعفه وإشكالياته ومشكلاته، بل وألغامه الكثيرة، ومنها مسألة الفيدرالية والنظام الفيدرالي الذي ظل بين مؤيد مسبقاً ورافض سلفاً، وجرت تسوية بينهما بحيث حصل كل منهما على ما يريد، لكنه في الوقت نفسه نسي أن الطرف الثاني هو الآخر حصل على ما يريد أيضاً، بحيث تضمّن الدستور صياغات متناقضة ومضطربة وغير دستورية، وهو الذي دعاني حينها أن أقول عنه ” الدستور غير الممكن دستورياً” والذي كان يفترض تعديله بعد أربعة أشهر من الانتخابات البرلمانية السابقة العام 2005، وانتهت تلك الدورة وجاء انتخابات برلمانية جديدة العام 2010 ومرّ عليها سنتان ونصف والدستور لم يعدّل، الأمر الذي جعله معوّماً، وتمت الاستعاضة عنه غالباً بالاتفاقات السياسية مثلما حصل في موضوع مجلس السياسات العليا الذي لم ير النور، ليس لأنه غير دستوري فحسب، بل لأنه لا أساس له، حيث كانت الموافقة عليه لتمشية أزمة ظلّت تلد أزمةً أخرى، حتى كادت البلاد تلد أزمات متوالدة مترافقة مع هشاشة الوضع الأمني والاختراقات المتكررة على الرغم من تحسنه، لكن ذلك لم يمنع وزارات أمنية أن تظل شاغرة حتى الآن مثل وزارات الداخلية والدفاع والأمن الوطني.
ومن مسألة الدستور وشكل النظام السياسي ونوع الدولة (إتحادية أم مركزية، مركبة أم بسيطة) تتفرع مشكلات عديدة منها أن نوع النظام الذي انبثق بموجب الدستور الفيدرالي هو أقرب إلى النظام الكونفيدرالي، كما تدل على ذلك قراءة نصوصه التي تميل إلى هذا الاستنتاج بعد فحص وتدقيق ومعرفة الأنظمة الفيدرالية، لا سيما موقع وعلاقة البيشمركة السياسي والإداري والمالي المتداخل بين صلاحيات إقليم كردستان وصلاحيات الحكومة الاتحادية، وعلى أساس الإجابة على هذه الأسئلة يمكن فهم طبيعة العلاقة، لكن نصوص الدستور الملتبسة والغامضة فضلاً عن تفسيراته الضيقة جعلت مثل هذه المهمة صعبة، بل وقاسية  في مناخ إنعدام الثقة والمنافسة السياسية المحمومة للحصول على المكاسب والامتيازات، حتى هبطت المشاكل كلها دفعة واحدة بعد سكوت ومداهنة وغض النظر عنها مثل هي يمكن التعاقد لشراء أسلحة خفيفة أم متوسطة المدى أو حتى أسلحة ثقيلة؟ ولماذا تحتاج البيشمركة إلى هذه الأسلحة وخصوصاً المتوسطة المدى والثقيلة إذا كانت مهمة حماية الحدود من اختصاص الجيش العراقي الموحد؟
وهل يمكن تخريج دفعات عسكرية بمعزل عن التنسيق والتعاون والتفاهم مع حكومة الاتحاد في بغداد، ثم ما علاقتها بالجيش العراقي، خصوصاً وهي جزء منه وليست كياناً منفصلاً أو مستقلاً؟ ويضاف إلى ذلك مشكلة وجود مطارات غير خاضعة لرقابة الحكومة الاتحادية وكذلك إصدار الفيز الخاصة والإشراف على المراكز الحدودية وغيرها من ملاحظات واعتراضات حكومة بغداد على حكومة أربيل.
ولعلّ النفط والتعاقدات التي وقعت عليها حكومة الإقليم مع شركات أجنبية والتي يتذرّع كلا الطرفين أنه يحتكم إلى الدستور كانت سبباً آخر في توتير علاقة المركز بالإقليم والحكومة الاتحادية بحكومة إقليم كردستان، خصوصاً وأن الدستور العراقي كان مصدر هذا الإشكال بما منحه للأقاليم من صلاحيات على حساب السلطة الإتحادية، وإنْ أكّد في الوقت نفسه أن النفط والغاز هما ملك الشعب (المادة 111)، لكن تفسيرات  تخص الحقول غير المستخرجة التي تكون بإدارة حكومات الأقاليم بالتعاون مع السلطات الاتحادية، هي التي يتعكّز عليها الكرد في استخراج وبيع النفط أو التعاقد بشأنه.
وبسبب سوء العلاقة الناجم عن ضعف الثقة، بل تدهورها إلى أسفل مستوياتها، لم تحلّ مسألة المادة 140 من الدستور العراقي الدائم المستفتى عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر)2005، تلك المادة المرحّلة من المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية(2004) وهي تتحدث عن المناطق المتنازع عليها، لاسيما تسوية ما هو عالق، بما فيه عودة اللاجئين والمهجّرين وتعويضهم وتشجيع من يريد العودة إلى مناطقه الأصلية وإجراء استفتاء سكاني بالتعاون مع الأمم المتحدة وممثلها الخاص.
وعلى الرغم من مرور نحو عشر سنوات، الاّ أن هذه المسألة لم تنجز ويبدو أنها لن تلقى حلاً سريعاً، بل حلاً مقبولاً من الفرقاء والأطراف المتنازعة، التي يزداد بعضها تشدّداً، بحيث أن ما هو موجود على الأرض بما فيه التداخل الإقليمي، لعب دوراً في زيادة حدّة التوتر، وكانت زيارة رئيس الوزراء التركي أوغلو إلى كركوك مؤخراً، خلقت ردود فعلٍ بدأت ولم تنقطع من جانب بغداد، ومن جانب أطراف قريبة على الحكومة العراقية، بل حتى من خصومها أحياناً، ازدادت نبرة تنديدها بسياسات الإقليم وبمحاولات تركيا التدخل بالشؤون الداخلية العراقية، فضلاً عن قصفها مناطق عراقية في جبل قنديل بحجة وجود حزب العمال الكردستاني PKK، وكان المالكي قد قال في مقابلة مع قناة خبر التركية: يجب أن تكون علاقة تركيا مع الإقليم عبر بوابة العراق، مؤكداً أننا نرفض تعاملكم مع أكرادنا كدولة مستقلة متهماً تركياً بالتدخل بالشؤون الداخلية العراقية، محذّراً أن دولاً وحكومات ستنهار بسبب العاصفة التي يمرّ بها الشرق الأوسط والعراق في قلبها.
ومن الجانب الآخر يزداد  التنديد بالتدخل الإيراني في كردستان، بل في عموم العراق، فمن جهة لا تزال تتعرض كردستان أحياناً إلى قصف إيراني وإلى نفوذ قوي، ولاسيما في السليمانية، ناهيكم عن أذرعها الطويلة الاستخبارية والأمنية والمذهبية والسياسية في عموم العراق، وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على السياسة العراقية، بما فيها الموقف من الثورة السورية.
وبصدد الخلاف مع حكومة بغداد، تتعكز حكومة إقليم كردستان على نص دستوري مفاده إن أي خلاف بين الدستور الاتحادي أو قوانين الحكومة الاتحادية وبين القوانين الإقليمية، فالقانون الاتحادي يمكن تعديله ما يتناسب مع القانون الإقليمي، وليس العكس، ولعمري أن وجود نص من هذا لقبيل يقرّب الفيدرالية العراقية من النظام الكونفدرالي، الذي يؤسس على علاقة بين دول تتوحد حول سياسات خارجية ومواقف دولية وبعض المواقف والمناهج والقوانين المشتركة، في حين يكون لكل جزء منها خصوصيته وسلطاته الخاصة التي تحكم علاقته بسكان الإقليم دون تدخل من الأطراف الأخرى، بينما في  الأنظمة الفيدرالية المطبقة في نحو 25 بلد في العالم، تخضع القوانين الإقليمية للقوانين الاتحادية في حالة خلافهما أو اختلافهما.
وذهب دستور الاتحاد إقتفاءً للأمر الواقع إلى جعل البيشمركة كياناً خاصاً يخضع إدارياً وماليا للسلطة الاتحادية في حين أن خضوعه السياسي والتعبوي والحركي الفعلي سيكون بأمرة الحكومة الإقليمية، ولا يمكن لحكومة بغداد الإتحادية تحريك جندي واحد في الإقليم الاّ بموافقة السلطات الإقليمية، وعكس ذلك فإن مرجعية البيشمركة وولائها هو للحكومة الإقليمية حتى وإن كانت جزء من القوات العراقية المسلحة وتتلقى رواتبها ومخصصاتها منها.
وتلك حجة بيد الكرد في مواجهة حكومة بغداد، كما أن قانون الأقاليم الذي تم تجميده مدة 18 شهراً انقضت ولم يتم تفعيله منذ الدورة البرلمانية السابقة وحتى الآن، يذهب بهذا الاتجاه، أي أن النموذج شبه الكونفدرالي هو النموذج الأقرب إلى الواقع، وذلك من خلال القراءة القانونية للدستور الاتحادي.
وما يزيد الاعتقاد بذلك هو أن من حق السلطات الإقليمية إقامة ممثليات لها في السفارات العراقية لمتابعة الشؤون الإنمائية والاجتماعية والقضائية لمواطنيها، وليس ذلك سوى سفارة مصغّرة أو نواتات لسفارات لاحقاً، علماً بأن للسلطات الإقليمية الكردستانية ممثليات مستقلة باسم حكومة الإقليم في العديد من دول العالم مثل الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها.
واستناداً إلى نص في الدستور الاتحادي (المادة 112) فإن حكومة الإقليم كانت تسعى تدريجياً ومن خلال الأمر الواقع للتعامل معها باعتبارها كياناً مستقلاً حتى وإن انتظم في إطار العراق، خصوصاً وأن وجوده سابق لوجود الحكومة الاتحادية حيث ظلّت سلطات الإقليم خارج سيطرة الحكومة المركزية منذ أواخر العام 1991، وأصدرت إعلاناً من طرف واحد في 4 تشرين الأول (اكتوبر) 1992 بالاتحاد الفيدرالي، الأمر الذي تحقق بصورة ملتبسة ومشوشة بعد الاحتلال في دستور العام 2004 (المؤقت) ثم في الدستور العام 2005 (الدائم).
وهكذا أصبحت حكومة الإقليم تشعر بحقها في التمثيل الخارجي وحقها في وجود قوات مسلحة خاصة بها، ولهذا فإنها، من باب أولى، وهو جوهر تفكيرها تملك الحق في استثمار الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها، ولهذا ذهبت إلى توقيع عقود شراكة مع العديد من الشركات النفطية العالمية، في ظل غياب قانون نفط موحّد، علماً بأن مسوداته الأولية تم الانتهاء منها منذ العام 2007 وظلّت معروضة على البرلمان منذ العام 2008، ولكن لم يتم البت به حتى الآن، في حين أن حكومة بغداد توقع عقود خدمة وليست شراكة، وهناك فرق بين عقود الشراكة وعقود الخدمة، لاسيما فيما يتعلق بمصالح العراق، وهو الأمر الذي فجّر جميع المشكلات الحالية حيث تسعى حكومة إقليم كردستان على الانفراد بالأمر في موضوع العقود النفطية ودون أي اكتراث بمواقف حكومة بغداد، ولعل الصراع السياسي يقف اليوم سلباً في مواجهة هذه المسألة الحيوية التي هي جوهر الصراع في الشرق الأوسط وفي العراق، لدرجة أن القائمة العراقية وأطراف أخرى لم تعلّق على الأمر، في حين ترفض، حكومة بغداد وتندد، لاسيما وزير النفط السابق حسين الشهرستاني نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة الحالي، بمواقف حكومة الإقليم وتؤكد عدم اعترافها بشرعية تلك العقود ما لم تمر عبر بغداد وبإشرافها، بل ذهبت إلى تهديد الشركات التي أقدمت على توقيع العقود بإدراجها ضمن القائمة السوداء إن لم تتخلى عنها.
ولعل هذا الأمر هو الذي يكمن وراء انفجار علاقة البيشمركة والتصريحات النارية المتبادلة بين الأطراف السياسية، فحكومة كردستان تحاول التعكز على الدستور وتفسيراته وتنطلق من العديد من الألغام والالتباسات التي احتواها، وكذلك من نقاط الضعف الكثيرة فيه، وحكومة بغداد تحاول تفسيره بما يعزز من صلاحيات السلطة الاتحادية ويقوي من نفوذ المالكي، علماً بأن كلا الطرفين ومعهما أطراف أخرى حاولت الاستعانة بالطرف الإقليمي، تركيا وإيران بالدرجة الأساسية، ثم بعض دول الخليج، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كان رئيس الوزراء العراقي يمتلك أوراقاً كثيرة أهمها الدستور وضعف خصومه، لا سيما بعد فشل محاولة سحب الثقة منه، فإنه يحاول أن يفرض واقعاً جديداً يحدّ فيه من نفوذ الكرد، ولكنه لا يتجه إلى الصدام، وقد حاول اللعب أيضاً على إضعاف التحالف الكردستاني، لاسيما عبر موقف رئيس الجمهورية الطالباني الذي تراجع عن مطلب سحب الثقة. أما  حكومة الاقليم فهي تملك أوراقاً كثيرة، هي الأخرى أهمها الدستور، ثم الالتفاف الشعبي الكردي الذي حول أغلب مطالبها، لكنها لا تتجه إلى الصدام، بل تريد وتسعى للحصول على مطالبها بطريقة ناعمة، حتى وإنْ بدت خشنة من خلال التصريحات السياسية والإعلامية، وإن لم يتم إعادة النظر بالدستور وتحديد شكل النظام الفيدرالي وصلاحيات الاتحاد مقابل صلاحيات الأقاليم، فإن هذه المشكلات تزداد تعاظماً وسيكون الوصول إلى حلول لاحقاً أكثر صعوبة، بل استحالة، علماً بأن بعض المشكلات مضى عليها أكثر من أربعة عقود من الزمن مثلما هي مشكلة كركوك، حيث تم تأجيلها في العام 1970 عند الاتفاق بين الحكومة العراقية برئاسة أحمد حسن البكر والثورة الكردية بزعامة الملاّ مصطفى البارزاني، باتفاقية 11 آذار (مارس) المعروفة، وتم استبعادها من قانون الحكم الذاتي لعام 1974 وحتى في مفاوضات الكردية – الحكومية العام 1991 رفضت الحكومة العراقية إدراجها على جدول العمل آنذاك.
وتشكّل مسألة المناطق المتنازع عليها نقطة احتكاك كبيرة بين سكانها الذين كانوا متعايشين من العرب والكرد والتركمان والآشوريين، ومن المسلمين سنّة وشيعة والمسيحيين والكلدانيين والأرمن، وإن كانت مشكلتهم جميعاً مع الحكومة العراقية السابقة وإجراءاتها الشوفينية وأعمالها التمييزية، التي خلقت واقعاً متأزماً ومأزوماً، لكن الأمر انعكس لاحقاً بسبب الشحن الطائفي والاستقطابات الإثنية على المجتمع وعلى الانقسام المجتمعي، خصوصاً بغياب المواطنة المتساوية وضعف هيبة الدولة العراقية وتفككها.
إذا كانت البيشمركة (قوات الأنصار الكردية – البرتيزان Partisan التي خاضعت حرب غوار ” حرب عصابات” لعقود من الزمن)  قد تأسست في العام 1961 في إطار الثورة الكردية ودخلت حروباً شرسة ضد القوات الحكومية العراقية وتحت عناوين تحقيق مطالب الكرد المشروعة، وساهم فيها جميع القوى الكردية، إضافة إلى الشيوعيين وقوى يسارية، فإنها اليوم جيشاً كبيراً تعداده يزيد عن 100.000 مائة ألف عنصر، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال الركون إلى الاستقرار دون تأمين علاقة طبيعية وسلمية في الوصل والفصل بينها وبين القوات المسلحة العراقية: أما في إطار جيش موحد وواحد وله عقيدة عسكرية واحدة وموحدة، أو العمل بصورة منفردة وبقيادة خاصة، وذلك سيعني قراراً سياسياً بالاستقلال عن الدولة العراقية، وهو أمر له محاذيره ومخاطره وتداعياته ليس على صعيد أوضاع الحاضر، بل على صعيد أوضاع المستقبل.
وأعتقد أن القيادة الكردية الحالية سوف لا تقدم على اتخاذ قرارٍ من هذا العيار الثقيل في الظروف الحالية لأنها تدرك ماذا سيكون موقف إيران وتركيا اللتان تعانيان من مشكلة كردية، ناهيكم عن تبعات حرب مع بغداد في ظل وضع دولي وإقليمي  غير مؤات حتى ولو كان من باب حق تقرير المصير.