17 نوفمبر، 2024 8:42 م
Search
Close this search box.

البيت المرتب قسوة على الطفل وسرقة لطفولته

البيت المرتب قسوة على الطفل وسرقة لطفولته

البيت المرتب على الدوام سرقة لطفولة الطفل، وقتل لخيال حي ينبض، خيال يتعامل مع العالم بمنطق خاص جدا هو منطق الدهشة.

إذا كان لديك أطفال وبيتك على الدوام مرتب ومنمق ونظيف وكل شيء في مكانه تماما، فأنت أب سيء أو أم سيئة! هل يبدو هذا الحكم قاسيا؟ هو كذلك، لأن البيت المرتب على الدوام في ظل وجود أطفال، يعني أن حرمانا وجبروتا وسلطة قوية تمارس على أطفال البيت.

البيت المرتب الأنيق على الدوام يعني أن طفولة تسرق من أصحابها، وخيالا يسجن، وروحا تطفأ.

يتعلل بعض الآباء بأن الطفل يملك مساحته الخاصة به لممارسة فضوله وتجاربه وإطلاق العنان لخياله إما في غرفته الخاصة وإما في أحد أركان البيت المخصصة له ولألعابه، لكن الطفل يعرف في مرحلة ما من نموه فضولا لا حد له ورغبة ملحة وقاهرة لا قدرة له على ردها، لاكتشاف كل شيء من حوله، وليس فقط ألعابه: يريد أن يفتح الخزائن ويرى ما بداخلها، فربما عثر على أحد أبطاله المفضلين نائما هناك، واضعا قدما على قدم ويشخر، أن يمزق الكتب ليكتشف ما تخفيه الورقة خلفها، ويتلذذ بصوت الأحرف فلا بد أن لها صوتا أيضا تخفيه بين ألوانها، أن يجر الكراسي من أقادمها ليعرف إن كان قادرا على حملها كما تحمله، أن يجذب الستائر لأنها تخفي عنه ضوءا خلابا وعالما جميلا يحب أن يراه، ولأنها لا تريد أن تتحول إلى فراشات، أن يخلط الحليب بالتراب، ماذا في ذلك؟ أليس التراب بلون الكعك وله رائحة الأجساد؟ أو يمشي على عجين الخبز بقدميه، لأن ملمسه ناعم، ولأن الخبز يعجن دائما بالأيدي، ما بها الأقدام؟

كل هذا وأكثر بكثير يجول في خيال الطفل وهو يتحرك في البيت: الجدران ورقة بيضاء ضخمة مغرية للكتابة والشطب، الأبواب لا تقل إغراء، النوافذ تأخذ إلى السماء مباشرة لذلك لا ضير من القفز، سينبت لك جناحان في اللحظة المناسبة، الأسرة بحور كبيرة والوسائد أسماك ببطون منتفخة لو فتحتها لوجدت داخلها طيورا تتقافز وربما سحبك أحدها من يدك لتذهب معه إلى الغابة وتعود قبل أن يسقط الليل، الأواني ليست للطبخ فقط، من قال ذلك؟ إنها هناك أيضا من أجل الموسيقى والحديث مع الأشباح. كل شيء يتكلم، كل شيء يتنفس في خيال الطفل ويحيا، فكيف تريد أن يكون بيتك مرتبا؟

البيت المرتب على الدوام سرقة لطفولة الطفل، وقتل لخيال حي ينبض، خيال يتعامل مع العالم بمنطق خاص جدا هو منطق الدهشة.

هل نترك الأطفال يفعلون ما يشاؤون بالبيت وأثاثه وأصحابه؟ نعم نتركهم يفعلون، الأمر الوحيد الذي يجب أن يراعى في هذا الأمر هو سلامتهم، أي ألا نتركهم يعرضون أنفسهم لخطر ما، إذا مشى طفلك على الخبز لا تعاقبه، امنحه تلك الخبزة لأنها كفت عن أن تكون خبزة وأصبحت غيمة طائرة في السماء، ألا ترى ذلك؟ هل فقدت عينيك؟ لا تنزله من سمائه، حلق معه إن استطعت وإن لم تستطع دعه لرحلته، وإذا قطع ورقة من كتاب، اسحب الكتاب واعطه كراسا مثلا ليقطع أوراقه، اقطع معه إذا لزم الأمر، وشاركه دهشة العدم.

إذا جر الكرسي من قدمه إلى مكان آخر في البيت جرب أن تفهم لغته، وأن تنظر إلى بيتك بعينيه، أن ترى الزوايا التي لم ترها من قبل، ربما لم تكن موجودة أصلا قبل أن يكتشفها هو. الزوايا نفسها التي ترفع البيت على شجرة أو تدفعه كمركب في الماء، فما البيت إذا لم يجعلنا نتأمل النجوم والقمر من خلال سقفه؟ إذا خلط الحليب بالتراب فهذا شراب مناسب تماما للوردة في شعر أمه.

أما لماذا أخاطبك بصيغة المذكر، والأولى أن أقول افعلي وقولي كما هو معتاد في تربية الأطفال الموكولة دائما للأم، فلأنني توقفت منذ زمن بعيد جدا عن رؤية البشر كبشر وعن تلمس الفرق بينهم، وأتعامل معهم على أنهم جدول واحد يجري بالحياة والمحبة.

نقلا عن العرب

أحدث المقالات