18 ديسمبر، 2024 9:40 م

-محسن حميد-
ترجمة : زينب علي عبدالرزاق
في مدينةٍ يسودها اللاجئون لكن ما زال أمنها مستتبٌ او على الاقل لم تخوض حرباً حتى الآن ، في احدى الصفوف الدراسية تقابل شاباً بفتاة لعدة أيام لكنه لم يخوض معها حديثٍ.
كان اسمه سعيد وكانت هي نادية ، كان سعيد ملتحٍ لكنها ليست بلحيةٍ كاملةٍ حيث كانت خفيفة مشذوبة .
اما نادية فكان يغمر جسدها رداءاً اسوداً طويلاً فضفاض من أخمص قدميها حتى حز عنقها .
في ذلك الوقت آنذاك ، ورغم القيود المفروضة على الناس الا انهم كانوا لحد ما متمتعين بنعمة ارتداء ما يحلو لهم من الملابس وحجاب الشعر لكن بالتالي أن هذه الاختيارات لم تكن بدون دلالة حيث انها كانت تعني شيئاً .
من الغريب على مدن تتأرجح على حافة الهاوية إن شبابها ما زالوا مواظبون على التعليم -وفي هذه الحالة كانوا في صفٍ مسائي حول الوحدة المؤسسية والعلامة التجارية للمنتجات – لكن هذا هو الحال في المدن كما في الحياة في لحظة نسير في خطانا على الطريق لقضاء حوائجنا وفي الأخرى نموت ، فنهايتنا الابدية الوشيكة لا تضع حداً لبدايتنا الفانية ومراحل المراهقة العابرة إلى أن يأمرها القدر بذلك .
ابصر سعيد ان لنادية وسمة حُسن سمراء على رقبتها ، حيث كانت بيضوية الشكل نادراً ما تتحرك مع ضربات نبضاتها .
تكلم بعدها سعيد مع نادية للمرة الأولى حيث لم يقدر ان يظل صامداً امامها بعد ملاحظته تلك .
لم تكن مدينتهم تخوض اي حرباً دامية فقط اطلاق بعضاً من عيارات النار او دوي صوت انفجار سيارات بين الفينة والاخرى يبعثُ شعوراً كما الرجفة السريعة في أعماق الصدر مثل تلك الأصوات المنبعثة من مكبرات الصوت في الحفلات الموسيقية .
وأثناء ما كان سعيد ونادية يوضبان كتبهما توجه سعيد نحوها على السلالم وبادر بسؤالها :” اسمعي ، اتودين احتساء القهوة ؟” وصمت لبرهة وهو ينظر الى زيها المحافظ وأكمل سؤاله كي لا يبدو عليه بأنها يستبق الخطوات :”في الكافتيريا؟” .
نظرت نادية بأم عينيه وسألته :”ألا تصلي فريضة العشاء؟”
فأرتسم على وجه سعيد ابتسامة محببة لطيفة وأجاب :” للأسف ، ليس دائماً ” ، لم يبعث جوابه فيها أثر الصدمة حيث أن تعابير وجهها لم تتغير .ومثل متسلق جبال محكوم عليه بالفشل واظب سعيد في مطلبه متسمكاً بذات الابتسامة على وجهه وقال :” اعتقد انه امراً شخصياً ، كلاً منا له طريقته الخاصة حيث لا أحد مثالي ، على أي حال …..”
فقاطعته قائلة :” انا لا اصلي بتاتاً ” واستمرت تبحلق فيه بثبات وردت :”ربما في وقتٍ آخر ” .
ثبت نظره يتأملها وهي تخرج الى مرآب الطلاب ، وهناك ، بدلاً من أن تغطي رأسها بوشاحاً أسوداً كما كان يتوقع لاحظها انها ارتدت خوذة سوداء مثبتة على دراجة نارية بقوة 100 سي سي واضح انها قديمة من حديدها المتآكل ، ارتدت خوذتها على رأسها ، ركبت دراجتها وانطلقت متلاشية مع صوت الرعد الخفيف في الظلام المتجمع .
عندما تقابل والدا سعيد لأول مرة كانا في نفس العمر لسعيد ونادية ، حيث كانت زيجتهما زيجة غرباء أي عن طريق الحب حيث لم يكن زواجهما مدبراً من قبل عائلتهم “زواج غير تقليدي ” والذي كان آنذاك شيئاً غير مسبوق ضمن عاداتهم كان نادراً ما يحدث .
التقيا لأول مرة أثناء استراحة فيلم عن اميرةً ماكرةً في السينما . تجسست والدة سعيد على والده أثناء احتساءه السيجارة واذهلها تشابهه مع بطل الفيلم لكن لم يكن هذا الشبه مصادفة تماماً حيث على الرغم من خجله الشديد وحبه الكبير للكتب الا ان والد سعيد- كما حال معظم أصدقائه والفتيان في ذلك الوقت – البس نفسه على غرار نجوم السينما و الموسيقيين المشهورين في عصره .
قصر نظره وشخصيته الخجولة أعطته طابعاً بأنه شاباً حالماً ، لم يكن يشبه البطل تماماً لكنه كان متجسداً فيه وهذا ما استنتجته والدة سعيد . قررت أن تتقدم هي وتبادر بخطوة نحوه حيث وقفت امامه وبدأت بالتحدث بحماس مع صديق لها متجاهلة هدف رغبتها ، إلى أن لاحظها واخيراً واستمع لها وهي تتكلم . استجمع جرأته ليبادرها في الكلام .
وهكذا في السنوات اللاحقة ، في كل مرة يسردون فيها قصة لقائهم كانا يتحدثان كالمغرمين .
كانا والدا سعيد كلاهما قراءاً، كلاً منهما بطريقته المختلفة والمتناظرة عن الاخرى ، و في اول ايام لقاءاتهما الرومانسيةكثيراً ما كانا يلتقيان خلسةً في المكتبات .
وبعد سنواتٍ عدة ، بعد زواجهما ، كانا يقضيان فترة ما بعد الظهر معاً وهما يقرآن الكتب في المقاهي والمطاعم أو احياناً في الشرفة ان كان الطقس مناسباً .
كان والده مدخناً ، عكس والدته او حسب ما ادعت هي ، حيث كانت في بعض الأحيان تأخذ سيجارته المنسية من بين أطراف أصابعه وتنفض رمادها برفق في المنفضة وتسحب منها نفساً طويلاً ورقيقاً قبل ان نتفثه بلطف .
في الوقت الذي التقيا فيه سعيد ونادية كانت السينما التي التقيا بها والديه قد أغلقت منذ فترة طويلة ، كذلك المكتبات الذي كانا يفضلونها والمطاعم والمقاهي التي احباها , بل إن عدداً كبيراً من تلك التي كانت في السابق لم يعد موجوداً .
فالسينما التي كانا يذكرانها بكثير من الحب تم استبدالها بصالات لتسوق أجهزة الكمبيوتر وملحقاته . حمل هذا المبنى الجديد نفس اسم السينما نظراً لأنه كان لنفس المالك واكتسبت السينما آنذاك شهرة واسعة لدرجة انها اصبحت رمزاً لتلك المنطقة .
في بعض الأحيان ، عندما كانا والدا سعيد يمشيان بجانب هذه الصالة ويريان اسم المكتبة القديم على لافتة نيون جديدة كان يستحضرهما الماضي فيتوقفان لبرهة ويبتسمان .
عندما احتسى سعيد ونادية القهوة معاً واخيراً في الكافتريا والذي حدث بعد الاسبوع التالي من دورتهما الدراسية ,أثناء ما كانا يجلسان بجانب نافذة على طاولة لشخصين مطلة على حركة المرور المزدحمة في الشارع اسفلهما ،وقد استقر هاتفيهما على الطاولة بينهما وشاشتيهما مقلبوتان على عقبيهما كما يضع المجرمون اسلحتهم أثناء تفاوضهم مع العدو ، سألها سعيد عن ثيابها السوداء المتحفظة التي كانت تخفي معالمها بالكامل :” ان كنتِ لا تصلين ، لما انتِ مرتدية هكذا؟”
ابتسمت نادية وأخذت رشفة وغطى فنجانها النصف السفلي من وجهها واجابت : ” كي لا يعبث الرجال معي ” .